أدرك الشافعي ما عند مالك من علم واسع، وكان لم يبلغ التاسعة بعد، وأحب لقاءه ولكنه تَهيَّبَ أن يرحل إليه قبل أن يأخذ من علومه شيئًا، فأقبل على الموطأ فحفظه غيبًا، ولم يكن يملك ثَمنه فاستعاره وحفظه.
وخشيَ ألا يستقبله الإمام مالك لِحداثة سنِّه، فلقد اشتُهِرَ عن مالك أنه رغم سماحته وطيب خُلُقه كان صارمًا في العمل، ولا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرق بابه خلال راحته في داره، ولكن الشافعي الشاب المتوقد المتوهج المتعطش إلى غَرْف العلمِ لا يُشبِع نهمَه الجلوسُ في حلقات درس مالك في المسجد، ولكنه يريد أن يتفرَّد بلقائه، فتوسطت له أمّه عند والِي مكة، فأرسل معه رسالة إلى والِي المدينة.
فلما وصلت الرسالة إلى والِي المدينة وقرأها قال: يا فتَى إنَّ مشيي من جوف مكة إلى جوف المدينة حافيًا راحلاً أهوَن عليّ من المشي إلى باب مالك، (لأن الإمام مالك خاف الله فأخاف الله منه كل شئ ) فقال الشافعي: أصلح الله الأمير، إن رَأَى الأمير يوجه إليه ليحضر، فقال الأمير: هيهات، بل نحن نذهب إليه ، وواعده على الذهاب إلى مالك في وقت العصر
يقول الشافعي: وركبنا جميعًا، فو الله لكان كما قال، حتى أتينا باب مالك، فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولِي لِمولاكِ أنِّي بالباب، فدخلَتْ ثم خرجت، فقالت: إنَّ مولاي يقرئكَ السلام ويقول: إن كان لديك مسألة فارفقها في رقعة يخرجْ إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفتَ يوم المجلس فانصرِف، فقال لها الأمير: قولي له إنَّ معي كتابًا والِي مكة إليه فِي حاجة.
فدخلت وخرجت وإذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فرفع الوالي الكتاب إلى الإمام مالك فطفق يقرؤه، فلما بلغ إلى هذا "إنَّ هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه ...وتفعل ... وتصنع .... رمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله أوَ صار علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤخذ بالرسائل؟! قال الشافعي: فرأيتُ الوالِي قد تَهيَّب أن يكلِّمه، فتقدمتُ وقلت: أصلحك الله، إنِّي رجل مُطَّلِبِيٌّ من بنِي المطَّلِب، وحدَّثتُه عن حالتي وقضيتي، فلما سمع كلامي نظر إلَيَّ -وكان لمالك فِراسة- فقال: ما اسمك؟ قلت: محمد، فقال: يا محمد، إنه سيكون لك شأن وأيّ شأن، إنَّ الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، إذا جاء الغد تجيء مصطحبًا معك ما تقرأ به، وطلب منه أن يأتِي بمن يقرأ له الموطأ لصغر سنه، ولكن الشافعي جاءه في اليوم الثاني، ومعه الموطأ وبدأ يقرأ عن ظهر غيب والكتاب في يده، وكلما قرأ قليلاً تَهيَّب مالكًا وأراد أن يقطع، ولكن أعجب مالك حُسن قراءته وإعرابه، فقال: زد يا فتى، حتى قرأ عليه الموطأ في أيام يسيرة.
وفي أثناء تعلمه عند الإمام مالك جاءه رجل يطلب فتوى فقد حلف يمينا على زوجته بالطلاق أنه لايعيدها حتى تصبح أجمل من القمر...
فقال له الإمام مالك بأن اليمين قد وقع وأنها طلقت منه فخرج الرجل على هذا الأساس فلحقه الشافعي وقال له ما مسألتك؟؟ فنظر إليه يائسا واستصغر سنه،إذ الإمام لم يعرف أفأنت تعرف؛ وقال لِمَا؟ فألح عليه الشافعي فحكى له الرجل ؛فأطرق الشافعي قليلا ثم قال له: لا زوجتك لم تطلق منك لأن الله قال (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وعلى هذا تكون زوجتك أجمل من القمر.فذهب الرجل إلى الإمام
مالك وحكى له فأقر الحكم
وفي اليوم التالي جاء الشافعي إلى المسجد فوجد على بابه لافتة كتب عليها:
من أراد العلم النفيس فعليه بمحمد بن ادريس
فسأل من كتبها فقالوا له: معلمك الإمام مالك فكتب أخرى وعلقها فيها:
وكيف لا يكون ذلك ...... وأنت إمامه يا مالك!!!