والتبرك المقصود في هذه المسألة، هو التبرك بالأشخاص،
وهو ينقسم إلى قسمين:
1- تبرك بذواتهم. 2- وتبرك بآثارهم.
وكلا النوعين يكون شركًا إذا اعتقد المتبرك أن المتبرك به يهب البركة بنفسه؛ فيبارك في الأشياء استقلالا، أو يُطلب منه الخير والنماء فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وإنما قلنا بأنه شرك لأن الله موجد البركة وواهبها، والعباد سبب،
يقول صلى الله عليه وسلم حين تفجر الماء من بين أصابعه: "البركة من الله" ( 1 )،
ويقول -عليه الصلاة والسلام- مخاطبا مولاه عز وجل: "والخير كله في يديك" ( 2 ).
أما إذا لم يعتقد المتبرك في المتبرك به أنه واهب البركة، بل نسب ذلك إلى الله عز وجل،
فالأمر فيه تفصيل؛ لأن المتبرك به قد يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون غيره من الأولياء والصالحين.
``````````````````
1- صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب البركة، والماء المبارك.
2- صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
إن كان المتبرك به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلا شك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم
مباركٌ في ذاته وآثاره،
كما كان مباركًا في أفعاله ( 1 ).
ولقد تبرك صحابته رضي الله عنهما
بذاته صلى الله عليه وسلم،
وبآثاره الحسية المنفصلة منه
صلى الله عليه وسلم في حياته،
وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك،
ولم ينكر عليهم.
ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا
ومن أتى بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح
بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته،
مما يدل على مشروعية هذا التبرك ( 2 ).
فقد تبركت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
بيده الشريفة؛
فكانت تقرأ عليه بالمعوذات حين اشتد وجعه،
وتمسح عليه بيده نفسه،
رجاء بركتها، كما قالت ( 3 ).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يمسحون بيديه
صلى الله عليه وسلم،
ويضعونها على وجوههم رجاء بركتها( 4 ).
وكانوا يتبركون بشعره صلى الله عليه وسلم،
وقد أقرهم على ذلك،
بل إنه وزعه عليهم ( 5 ).
وكانوا يتبركون بعرقه ( 6 )
وبريقه ( 7 ) صلى الله عليه وسلم،
وبنخامته فيدلكون بها وجوههم وجلودهم ( 8 ).
وكتب السنة مليئة
بتبرك أولئك الأخيار
بسيد المصطفين الأطهار
صلى الله عليه وسلم
في حياته، وبعد وفاته ( 9 ).
``````````````````
1- انظر التبرك: أنواعه وأحكامه للدكتور ناصر الجديع ص243.
2- انظر المرجع نفسه ص244. 3- تقدم تخريج حديثها في ص138، ح"4" من هذا الكتاب.
4 - انظر صحيح البخاري، كتاب المناقب،
باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم،
وصحيح مسلم، كتاب الفضائل،
باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به.
5 - انظر صحيح مسلم، كتاب الحج،
باب بيان أن السنة يوم النحر: أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق.
6- انظر صحيح مسلم، كتاب الفضائل،
باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به.
7- انظر صحيح البخاري، كتاب العقيقة،
باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه،
وصحيح مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته.
8- انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط،
باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب.
9- انظر تفصيل ذلك في كتاب:
التبرك: أحكامه وأنواعه للدكتور ناصر الجديع ص243-26.
ولقد كانت أعظم بركة نالوها: اتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، والسير على منهاجه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه. فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة.
بل كل مؤمن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعه حصل له من بركة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله ( 1 ).
``````````````````
1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 113.
ثانيا: المتبرك به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من الأولياء والصالحين:
لم يرد دليل صحيح يجيز التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا يجعل التبرك بأجساد الصالحين وآثارهم يدخل في دائرة التبرك البدعي؛
لذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بأحد من الصالحين؛
فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت، ولا غيرهم.
ولو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير ( 1 ).
وقد أمعنوا كلهم رضي الله عنهم على ترك التبرك بجسد أو آثار أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 2 ).
فدل ذلك على عدم مشروعية هذا التبرك.
``````````````````
1- مذكرة في العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص95.
2 - ممن نقل إجماعهم على ذلك الإمام الشاطبي في الاعتصام 2/ 8-9.
والعلامة صديق حسن خان في الدين الخالص 2/ 249-250،
والشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص186.
والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد ص188، وغيرهم.