قال تعالي : (محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم )
في ظل حالة الانقسام والتشظي وغياب روح الألفة والتسامح بين مكونات مجتمعاتنا الاسلامية بل بين اصحاب الدين الواحد والتي وصلت الي رفض التلاحم والاتحاد بل الي حد الاقتتال لخدمة الانظمة الفاسدة وعدو خارجي متربص لتلك الأمة وتجاهر تلك الأنظمة بكل فجور بتحالفها معه كان دراسة تلك القضية من الأهمية لعل تساعد في ازالة الجفوة والانقسام وروح الكراهية التي تمنع الشعوب علي التوحد ضد عدوها الحقيقي ايا ماكانت التحديات المعيقة لذلك ..
تراثنا الاسلامي ذاخرا بهذا التسامح علي المستوي النظري والعملي ولا نحتاج لحفر في التراث لابراز ذلك لأن التسامح في صورته المثلي كان نبراسا لواقع عاش فيه أجدادنا باستثناء محطات تراجع فيه هذا المفهوم والذي لا يلبث أن يعود مرة أخري وذلك لأن ثقافتنا الاسلامية في أسمي مصادرها الكتاب والسنة مثلت نهرا نستقي منه هذا المفهوم في صوره المتعددة وبالتالي لاشك أن نجد من يدافعون عن هذا التسامح اذا لمسوا تراجعا له في واقعهم انطلاقا من أن هذا الدفاع هو دفاع عن الاسلام في صورته النقية وامتدادا للسنة في صورتها ليس فقط النظرية بل العملية للرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع من يختلفون معهم أو يعارضونهم وما أحوجنا أن نجلي معالم تلك الصورة في واقعنا الذي يشهد سيلا من العداء والأحقاد والاستقطاب الحاد لكل منا تجاه الآخر لعلنا نصل الي الامتثال لقول نبينا صلي الله عليه وسلم فيما معناه : ( آلا أدلكم بأعلي من درجة الصلاة والسلام قالوا بلي يارسول الله قال اصلاح ذات البين )
1-التسامح عند ابن تيمية
" وضع ابن تيمية قاعدة للتسامح في حياته السلوكية والعملية ، هذه القاعدة هي مقولته المشهورة : " أحللت كل مسلم عن إيذائه لي"
لقد كان لسان حال شيخ الإسلام مع أعدائه : من ضاق صدره عن مودتي، وقصرت يده عن معونتي كان الله في عونه وتولى جميع شؤونه، وإن كل من عاداني وبالغ في إيذائي لا كدر الله صفو أوقاته ولا أراه مكروهاً في حياته، وإن كل من فرش الأشواك في طريقي، وضيق عليّ السبل، ذلل الله له كل طريق وحالفه النجاح والتوفيق.
يقول عنه تلميذه ابن قيم الجوزية :
" كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت إليه يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه وعدائه، فزجرني، وأعرض عني، وقرأ : "إنّا لله وإنا إليه راجعون" وذهب لساعته إلى منزله، فعزى أهله، وقال : " اعتبروني خليفة له ، ونائباً عنه، وأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه" وتحدث معهم بلطف وإكرام بعث فيهم السرور، فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه" .
وقال عن خصومه : ( وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن الخير ما أحبه لنفسي). فحينما تناول شيخ الإسلام طائفة الشيعة بالنقد والتحليل، لم يمنعه العداء والنقض أن ينصف ويعدل مع هؤلاء
فعن طائفة الشيعة الإمامية يقول كثيراً منهم ليسوا منافقين ولا كفاراً، بل بعضهم له إيمان وعمل صالح، ومنهم من هو مخطئ يغفر له خطاياه، ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله) .
وقال : ( والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد).
وقال منصفاً الشيعة وينبغي أيضاً أن يعلم أنه ليس كل ما ينكره بعض الناس عليهم يكون باطلاً، بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعضهم، والصواب مع من وافقهم ).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن لهم جهوداً في دعوة الكفار إلى الإسلام فدخل على أيديهم خلق كثير من الكفار.
وقال عن المعتزلة : أنه مع مخالفتهم نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار والملاحدة بحجج عقلية .
وقد عاب شيخ الإسلام على الإمام ابن فورك الأشعري تكفيره للمعتزلة وتأليب الحكام عليهم، يقول ابن تيمية عنه : ( وقصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم وكما كفرهم عند السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفره فإنما هو ظالم لنفسه).
وكان رحمه الله يتحرج كثيراً من تكفير الأشخاص ، يقول الامام الذهبي: " كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم).(نقلا عن صخرة الخلاص )
ولاننسي في هذا الصدد قصةالصحابي الذي شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة وبسبب ماذا ؟ لانه يبيت ليله ولا يحمل في قلبه على مسلم ومما يذكر في ذلك بصورة عملية ما حدث مع الإمام الباقر عليه السلام فيذكر أن رجلاً مرّ علىه فقال له: السلام عليك يا بقرة!
فقال الإمام : أنا الباقر .
فقال له الرجل: يابن الطباخه!
فقال له الإمام عليه السلام: هو دأبها.
فقال الرجل: يابن بذيئة اللسان!
فقال الإمام عليه السلام: إن كانت كذلك غفر الله لها وان كنت كذلك غفر الله لك.
فقال الرجل الله يعلم أين يضع سره.(مركز الامام الشيرزي للد راسات )
" فالتسامح يعني أننا نتعامل مع الناس على أسس إنسانيّة برّة ، على أسس خيّرة لكن هذا لا يقابل بدبّابة و صاروخ ، فإذا ما قوبل هذا بهذا الاعتداء فالتسامح يقتضي أن نردّ الاعتداء بمثله ، و أن نرد القتال بمثله ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) . ليس التسامح محافظة على المظلوميّة أن نبقى مظلومين ، ليس هذا تسامحاً ، و إنما التسامح يقتضي أن نرد الظالم عن ظلمه وأن نقول للظالم : أنت ظالم .
و أن نسعى بكلّ قوانا لنردع الظالم عن غيّه ، عن فجوره ، عن شراسته " (نقلا عن داعية سوري نسيت اسمه
3-التسامح عند الامام أبي حنيفة
وكان أبو حنيفة واسع الصدر لمخالفيه وبالغا أقصي درجات التسامح معهم حتى قال: ]اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا اتسعت له وكان يقول من يطلب الفقه ولا يتفقه مثلالصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هي, كذلك طالب الحديث لا يفرق وجه حديثهحتى يجيء الفقيه).ومما اشتهر عنه قوله : ]رأينا هذا أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا
وقد جمع الخطيبالبغدادي في تاريخ بغداد نحو سبعين صفحة من هجوم خصوم أبي حنيفة عليه, وهي اتهاماتكثيرة قام فيها معاصرون له بتكفيره وإصدار البيانات بحقه, ولكنه لم يرد عليهم أو يسئ اليهم.(من اعداد رغدة الطائر )
" ويبين محمد عابد الجابري أن الإمام أبو حنيفة كان من أبرز ممثلي الاتجاه التسامحي في الإسلام وهو الذي عرف عنه قوله المشهور: " لا نكفر أحدا بذنب ولا ننفي أحدا من الإيمان". وضمن هذا السياق يصل الجابري إلى إعادة بناء مفهوم التسامح في التراث العربي الإسلامي بصورة يتوافق فيها مع المعنى الذي يوظف فيه داخل الفكر الأوروبي كمفهوم ليبرالي "
4-التسامح عند ابن حزم
عندما تعرض بن النغريلة اليهودي للطعن في القرآن واثارة الشكوك حوله رد عليه بن حزم " وفقاً للمنهج الذي جاء به الإسلام وألزم معتنقيه بالامتثال إليه والتحرك وفقاً لهديه، وهذا المنهج من الصعب رسمه وتحديده استناداً إلى آيات أو أحاديث أو حوادث بعينها حدثت في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم أو خلفائه الراشدين، لأن الإسلام كل متكامل، ولكننا سنذكر آيتين لتأكيد وجود هذا المنهج في الإسلام هما قوله تعالى ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾وقوله: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين﴾وهذا الحديث النبوي الشريف: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ"
5- التسامح عند الماوردي
قدّم الماوردي معالجة أخلاقية واسعة للتسامح في كتابه "أدب الدنيا والدين". فالنفس كما يقول :"مجبولة على شيم مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغني محمودها على التأديب، ولا يكتفي بالمرضي منها عن التهذيب".
ترتبط فضيلة التسامح عند الماوردي بالمروءة "التي هي حلية النفوس وزينة الهمم. فالمروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق". يؤكد الماوردي "أن حقوق المروءة أكثر من أن تحصى، وأخفى من أن تظهر"، وتنقسم حقوق المروءة وشروطها إلى قسمين:
أولا: شروط المروءة في نفسه.
ثانيا: شروط المروءة في غيره.
يذكر الماوردي أن شروط المروءة في النفس هي: "العفة والنزاهة والصيانة." . أما شروطها في غيره فثلاثة: "المؤازرة والمياسرة والإفضال"..
يقول الماوردي: وأما المياسرة فنوعان: أحدهما: العفو عن الهفوات. والثاني: المسامحة في الحقوق.
أولا: العفو عن الهفوت:
وفي هذا يقول الماوردي: "فأما العفو عن الهفوات؛ فلأنه لا مبرأ من سهو وزلل، ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليما من هفوة والتمس بريئا من نبوة فقد تعدى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، وكان من وجود بغيته بعيدا، وصار باقتراحه فردا وحيدا"..
ثانيا: المسامحة في الحقوق:
الشكل الثاني من أشكال المياسرة هو المسامحة في الحقوق، إذ يقول الماوردي: "وأما المسامحة في الحقوق، فلأن الاستيفاء موحش والاستقصاء منفر. ومن أراد كل حقه من النفوس المستصعبة بشح أو طمع، لم يصل إليه إِلاَّ بالمنافرة والمشاقة، ولم يقدر عليه إلا بالمخاشنة والمشاحة. ولما استقر في الطباع من مقت من شاقها ونافرها، وبغض من شاحها ونازعها. كما استقر حب من ياسرها وسامحها؛ فكان أليق الأمر استلطاف النفوس بالمياسرة والمسامحة، وتالفها بالمقاربة والمساهلة". يقسم الماوردي المسامحة في الحقوق إلى قسمين:
أولا: المسامحة في عقود: فهو "أن يكون فيها سهل المناجزة، قليل المحاجزة، مأمون الغيبة، بعيدا عن المكر والخديعة"
ثانيا: المسامحة في الحقوق وهي تعني عند الماوردي :
المسامحة في الأحوال وهي اطراح (أي ترك ) المنازعة في الرتب، وترك المنافسة في التقدم. فإن مشاحة النفوس فيها أعظم والعناد عليها أكثر. فإن سامح فيها ولم ينافس كان مع أخذه بأفضل الأخلاق. واستعماله لأحسن الآداب أوقع في النفوس من أفضاله برغائب الأموال، ثم هو أزيد في رتبته وأبلغ في تقدمه. وإن شاح فيها ونازع كان مع ارتكابه لأخشن الأخلاق، واستعماله لأهجن الآداب أنكى في النفوس من حدّ السيف، وطعن السنان، ثم هو أخفض للمرتبة، وأمنع من التقدم"
التسامح عند فلاسفة الاسلام
1-(أبو الحسن العامري )
تعرض فلاسفة الإسلام إلى مسألة التسامح الديني. ومن أبرز من تناولها بصورة مفضلة أبو الحسن العامري(ت: 381 هـحيث يقول: "وأنا الآن متشفع إلى كل من نظر فيه، وتتبع حقائق معانيه أن يصحح بكمال عقله مواضع الخلل منه، ومواقع الزلل فيه، ويحسن بي الظن فيما ألفاه صحيحا، ويؤهلني لصالح دعائه فيما وجده قويما، فَإِنَّهُ باب يدق مأخذه، ويصعب الإقدام عليه، والنقص البشري مستول على جبلتنا، والضعف الطبيعي مستحوذ على عقولنا، والتوفيق بقدر الاجتهاد".
لم يقبل العامري إدانة علماء الكلام؛ لأن الخطأ في الفروع ليس كفرا وإنما يذهب إلى ضرورة التسامح معهم، إذ يقول: "وإذ قد وجد أهل هذه الصناعة ذابين عن حرمة الدين، ومستخلصين له من لواحق القدح، وصائنين لأصوله من شوائب الجرح، فمن الواجب أن آثارهم في استحقاق الشكر والأحماد لن تكون قاصرة عن آثر المدافعين عنه بالجلد والقوة، والسلاح والعدة".
ولم يقبل العامري أيضا إدانة علماء الفقه، وبعد مرافعة طويلةيقول: "وإذ كانت هذه الصناعة من خاصية الشرف بالمحل الذي وصفناه فبالحري أن يستوجب أربابها الشكر والأحماد، فضلا عن أن يقابلوا بالطعن والتقريع".
وفي الخاتمة يقول : "بالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولولا الخطأ لما أشرق نور الصواب، ولا فرق بين إنسان يقلد وبهيمة تنقاد"، ثم يضيف: "وفساد الدين في ثلاثة: زلة العلماء، وميل الحكماء، وتأويل الرؤوساء، ومن لم يكن معه عقل مرصوص لم ينتفع بالحديث المقصوص".
ثم يؤكد العامري أن هناك شبها يطعن بها بعض الناس على الإسلام وهي كثيرة العدد، سأكتفي منها بالشبهة الرابعةوالتي يقول فيها العامري: يقولون كيف نتوهم أن دين الإسلام حق عند الله، مع ما نشاهد عليه أهله من التضاغن والتعادي، وتشتت الأهواء، وافتراق الكلمة، وتماديهم في ذلك الشأن حتى أفضت بهم الحال إلى جرأة بعضهم على سفك الدماء، وما يتأذون به من استشعار الضغينة للاختلاف في العقيدة، إلى أن تصير كلمة كل فرقة منهم خائفة من عدوان صاحبتها ما لا تخافه من سطوة العدو المحنق المضمر للدخل (الحسد) " ويرد علي ذلك بقوله :
1- إن الحق لا يتقلب باطلا لاختلاف الناس فيه، ولا الباطل يصير حقا لاتفاق الناس عليه. وليس في وسع الحق قهر الأنفاس على الإقرار به وتسخيرها للاعتراف بصدقه، لكنه شيء محقق بنور العقل بعد الروية والبحث، فيظهر به المحق ويمتاز به عن المبطل"
2- إن وجود الاختلافات يعني وجود الاخطاء، "وسلامة الإنسان عن الخطأ رأسا ليس بمطموع فيه، ولكن الطمع نفي أن يكثر صوابه"، ولا يختلف الناس في أشياء لا قيمة لها، ومتى كانت المذاهب أو الأديان أو الأفكار "نفيسة كثر الحساد عليها، وانبعثوا لإيقاع التلبيس فيها، وبحسب ذلك تختلط الأمور، وتصير عرضة للاختلاف"
ويشير العامري إلى أن بداية الجدل هو الطريق إلى اتخاذ المواقف العدائية بين الفئات المختلفة، "فالمماراة فاتحة للتعادي". والعداء يولد العصبية، بمعنى أن كل فئة تتعصب لما لديها وتدافع عنه، "والعصبية هي الداء العضال التي تستخف الأحلام الراجحة وتستأصل النعم المتأصلة"فالجدل علي اطلاقه ليس منهيا عن وانما المذموم في القائمين به حال لم يلتزموا بأدابه التي نوه عنها علماؤنا كثيرا في كتبهم تحت مسميات متعددة منها أدب الحوار أدب المناظرة أدب الجدال أدب الحديث أداب الجلوس واأداب النصيحة ...الخ فمن لم يلتزم بتلك القواعد التي لاتفضي الي الأحقاد وانما الوصول للحقيقة ولو أتت علي يد مخالفه مع بقاء حالة الود والتسامح قبل وبعد هذا الجدال الفكري وان لم يستطع كلا الفريقين المتعارضين الحفاظ علي تلك الصورة فهنا ينطبق عليهم قول رسولنا (اتركوا الجدال ولو في خير ) وذلك مخافة أن تسفر النوازع البشرية عن نفسها وتؤدي الي زيادة الخصومة واتساع هوة الخلاف بين المتعارضين ومايفضي ذلك الي امور لايرضي عنها الله ورسوله
ويري العامري أن هناك أربع جهات تولد الاختلافات في كل الأديان منها:
أولا: "أن يعجب المتدين بعقله، ويغتر بذكائه، فيركب نوعا من المقاييس الفاسدة... فينتج نتيجة كاذبة، وهو يخالها صادقة، فيعتقدها دينا، ويدعو الناس إليها جهلا، فتعم البلوى به وتغوى بمكانة الخليفة.
ثانيا: أن يولع الإنسان من نفسه بالإغراب والتعمق، ويستهتر... وقلما يبالي تنكب الجادة، شغفا بأن يسلك طريقة يصير فيها قدوة
ثالثا: أن يكون قصد الإنسان عناد جميع ما يسمع من الأقوال الصادقة والمذاهب الحقيقية، وأن يتبع أبدا الآراء المسترذلة التي تنخدع بها طبقات العامة، إذ ليس عند الدهماء أروج من المذهب المستضعف والرأي المدخول.
يؤكد العامري أن هذه الجهات الأربع ليست خاصة بالإسلام بل هي شاملة لكل الأديان، إذ يقول: "فهذه هي الطرق للآفات المتواترة على الأديان والملل، وليست هي المقصورة على الدين الإسلام، بل هي مشتملة على جميعها".
التسامح عند بن مسكوية
يعد مسكويه من أكبر فلاسفة الأخلاق في الإسلام، وهو من الفلاسفة الذين تنبهوا إلى مسألة التسامح، فجاءت في نسق الأخلاق فضيلة من جملة الفضائل التي يفترض في الإنسان أن يتمتع بها.
يؤكد مسكويه أَنَّه من "الواجب الذي لا مرية فيه أن نحرص على الخيرات التي هي كمالنا، والتي من أجلها خلقنا، ونجتهد في الوصول إلى الانتهاء إليها، ونتجنب الشرور التي تعوقنا عنها، وتنقص حظنا منها
.(نقلا عن منطلقات التفاهم عند الفلاسفة المسلمين : محمد أحمد عواد)
3-التسامح عند ابن رشد
ويبلغ التسامح قمته في موقف ابن رشد من آراء المخالفين والخصوم,حينما يلوم الغزالي على كونه لا يحاول أن يتفهم موقف الخصم,بل يحكم بفساده دون اعتبار المقدمات التي أدت اليه.يقول :ان من العدل ان يقام بحجتهم في ذلك ويناب عنهم,اذ لهم أن يحتجوا بها.والضمير هنا يعود على المعتزلة والفلاسفة الذين حكم الغزالي على آرائهم بالخطأ واتهمهم بالاتيان بالشناعات.
ويضيف ابن رشد , ليرتفع بالتسامح الى اعلى مقام , مقام العدل , فيقول: ومن العدل كما يقول الحكيم أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه, أعني ان يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه,وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه. لذلك : ينبغي لمن آثر طلب الحق,اذا وجد قولا شنيعا ولم يجد مقدمات محمودة تزيل عنه تلك الشنعة,أن لا يعتقد ان ذلك القول باطل وأن يطلبه من الطريق الذي زعم المدعي له أنه يوقف منها عليه, ويستعمل في تعلم ذلك من طول الزمان والترتيب ما تقضيه طبيعة ذلك الأمر المتعلم.
لا اعتقد انه يمكن العثور في الخطاب القديم او الحديث ,على نصوص اقوى من هذه النصوص.ان ابن رشد يرتفع احترام الرأي الآخر الى مستوى أعلى بكثير من مستوى التسامح. انه يسمو به الى مستوى العدل,لا,بل الى مستوى الايثارلقد انطلق ابن رشد في (بداية المجتهد) كما في (فصل المقال) و (مناهج الأدلة) من قناعتين، رأى أنهما تمثلان جوهر الإسلام؛ الأولى أنّ الدين يُسْرٌ لا عُسْر - فهو دينُ رفقٍ بالإنسان، ورعايةٍ لحرماته"
(قراءة في تمثّل بعض المسلمين القدامى لتعدد الظاهرات الدينيّة : صلاح الدين العامري)
" فالروح التسامحية تسجل حضورها في عمق المعاناة والتجربة الفلسفية العربية بدءا من الكندي وابن رشد الذي عرف بعشقه وحبه للتسامح واحترام رأي الآخر والاعتراف بفضله ولا سيما الفلاسفة المتقدمين في بلاد الإغريق سواء أكان هذا الآخر مشاركا أو مباينا له في الرأي والمعتقد. و يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى كتابات الصوفيين، ويمكن الإشارة إلى الانطلاقات الفكرية التسامحية الكبرى لكتاب من أمثال (حسن البصري) (توفي عام 772م)والجاحظ ( توفي 869) والكندي (توفي 870) والتوحيدي ( توفي 1014) والمعري (توفي 1058)." (مفهوم التسامح بين شرق وغرب : علي أسعد ، مركز دمشق للدراسات والأبحاث المدنية )
وتراثنا حافل بالكثير من المقولات الدالة علي التسامح وكيفية ممارسته وأثره في واقع الحياة من ذلك :
إذا سمعت الكلمة تؤذيك ، فطأطئ لها حتى تتخطاك ) عمر بن الخطاب (
من عاشر الناس بالمسامحة ، دام استمتاعه بهم ) أبو حيان التوحيد)
لذة التسامح أطيب من لذة التشفي ، فالأولى يلحقها حمد العاقبة والثانية يلحقها الندم ) أحد الحكماء)
قالالحسن البصري
أدركت أقواماً لم تكن لهم عيوب فتكلموا في عيوب الناس فأحدث اللّه لهم عيوباً…
و أدركت أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر اللّه عيوبهم(مقولات في التسامح من تراثنا العربي الاسلامي )
في كتابه : الاسلاميون والديمقراطية وعن كيفية التحلي بشخصية متسامحة يقول د. عبد الفتاح ماضي التسامح قوة(1)
حتى يستطيع الرجل ان يتحلى بصفة التسامح وان تكون سمة من سمات الشخصية لديه عليه ان يعلم جيدا ان التسامح هو قمة القوة ولا تستطيع شخصية ضعيفة ان تكون متسامحة لأن التسامح يحتاج الى شخيصية قوية يملكها الرجل حتى يستطيع ان يسيطر على الغضب التى يجتاحه من احد ويقوى على مسامحته فعلى الرجل ان يفهم ان التسامح من اكثر الصفات التى تحتاج شخصية قوية وتحتاج الى الرجل القوى حتى يستطيع ان يكون متسامح وهو قادر وليس متسامح لأنه ضعيف وغير قادر على شئ غير التسامح .
التسامح مع النفس( 2)
الرجل الذى يريد ان يملك شخصية متسامحة عليه فى البداية ان يعقد جلسة تسامح مع النفس تلك النفس التى تحملت من الرجل أخطائه فى حقها وفى حق الشخصية التى يملكها فمن الواجب على الرجل ان يتسامح فى البداية مع نفسه ومع الشخصية التى يملكها ومع الصفات التى يكرهها فى شخصيته قبل الصفات الحسنة التى تزين تلك الشخصية كل ذلك مجرد اول خطوة فى طريق الرجل للحصول على شخصية متسامحة ولا يمكن ان تكون شخصية الرجل متسامحة مع الأخرين وقادرة على اعطاء طاقة التسامح لمن حولها دون ان تكون متسامحة مع نفسها .
تذكر المواقف الطيبة( 3)
حتى يستطيع الرجل الحصول على شخصية متسامحة عليه ان يتذكر المواقف الطيبة للأخرين فلا يمكن ان يقرر الرجل الغضب من شخص ما لمجرد انه فعل معه موقف سئ على الرغم من ان تاريخ هذا الشخص مع الرجل ملئ بالمواقف الحسنة ولذلك وعلى الرجل الراغب ان يملك شخصية مليئة بالعفو و التسامح ان يرى بميزان العدل مواقف الناس من حوله ولا يقرر الغضب من أحد لمجرد خطأ ارتكبه او موقف سئ فعله وهو سجله ملئ بالمواقف الطيبة التى فعلها مع الرجل فالتسامح طاقة من الخير توأد الشر والغضب .
4 )تذكر عيوب النفس)
لا يوجد احد لايوجد فى نفسه او فى الشخصية التى يملكها عيوب وهذا ما يجب ان يذكر الرجل به نفسه دائما فرغبة الرجل فى الوصول الى شخصية متسامحة يجب ان تجعله يرى عيوبه ويتذكر كلما أخطأ فى حقه أحد انه مجرد بشر وليس ملاك به عيوب مثل كل الناس ويملك شخصية بها جوانب قبيحة ويرتكب أخطاء ويطلب من الاخرين ان يسامحوه عليها فلماذا يجلد الرجل الأخرين عند ارتكابهم خطأ او عند رؤية الجانب السئ من شخصية احد فعلى الرجل ان يفهم جيدا ان تذكر عيوب النفس يجعل العفو والتسامح مع الأخرين امر سهل وواجب أيضا .
التسامح صفة العظماء ولا يستطيع غير الرجل العظيم على هذه الصفة الكبيرة وعليك عزيزى الرجل ان تفهم انك لست آله مانحة تعطى التسامح للناس على انها منحة منك إليهم فلا أحد يغفر ذنوب الناس وخطاياهم غير الله وانت ايضا ترجو من الله أن يغفر أخطائك فأجعل التسامح شعار حياتك وشخصيتك حتى تحصل عليه من الناس ومن الله بعد ذلك
بسبب الأهمية البالغة لموضوع التسامح والعفو فإن الله تبارك وتعالى قد سمى نفسه (العفوّ) يقول تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) [النساء: 149]. وقد وجد بعض علماء البرمجة اللغوية العصبية أن أفضل منهج لتربية الطفل السوي هو التسامح معه!! فكل تسامح هو بمثابة رسالة إيجابية يتلقاها الطفل، وبتكرارها يعود نفسه هو على التسامح أيضاً، وبالتالي يبتعد عن ظاهرة الانتقام المدمرة والتي للأسف يعاني منها اليوم معظم الشباب! ان العفو والتسامح يبعدك عن الجاهلين ويوفر لك وقتك وجهدك، وهكذا يقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199
وبالنتيجة فإن التسامح يعبر عن صيغة احترام مشاعر ومعتقدات الآخرين، أي معاملة الآخرين كبشر بصرف النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية و المذهبية أو خلفياتهم الاجتماعية وعكس التسامح هو التعصب""
، يقول صلى الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا الجماعة:"لن تؤمنوا حتى ترحموا، فرد البعض: يا رسول الله كلنا رحيم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة عامة للناس. الرسول الكريم كان دعوة رحمة فكان يصفح عن قريش عندما تكون له الغلبة ويحاول إقناعهم بالحجة. قال تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ([48]).وفي حديث له صلي الله عليه وسلم : "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا،ولا تدابروا،ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا".
وضمن هذا السياق يمكن القول أن مفهوم التسامح عرف حضوره في التراث العربي الإسلامي بجوهر المضامين الاجتماعية التي توظف اليوم داخل الفكر الأوروبي كمفهوم ليبرالي فالإسلام في جوهره شريعة السلام والرحمة والإنسانية. وذلك يتمثل بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ".(6)
المراجع الرئيسية :
.
1-ابن رشد. فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ، وتهافت التهافت : لابن رشد ايضا
2-تهذيب الأخلاق : لابن مسكويه
3-أدب الدنيا والدين : للماوردي
4-الاعلام بمناقب الاسلام : أبو الحسن العامري
5-أبو حنيفة بطل الحرية والسلام ، مكتبة دار المعارف
6- (مفهوم التسامح بين شرق وغرب : علي أسعد ، مركز دمشق للدراسات والأبحاث المدنية ) ، (مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي)