منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com/)
-   منتدى التنمية البشرية (http://forum.islamstory.com/f130.html)
-   -   سورة يوسف: قراءة نفسية................... (http://forum.islamstory.com/119364-%D3%E6%D1%C9-%ED%E6%D3%DD-%DE%D1%C7%C1%C9-%E4%DD%D3%ED%C9.html)

نبيل القيسي 17-03-2019 06:26 AM

سورة يوسف: قراءة نفسية...................
 
تتجلى في سورة يوسف عدة مواضيع نفسية هامة، تشكل دروساً وعبراً لمن أراد التعلم والاعتبار؛ فالسورة حافلةٌ بمشاهد تتجلى فيها انفعالات الغيرة، والحزن، والغضب، والخوف، والسرور، وبمشاهد الابتلاء للنبي يوسف - عليه السلام - ابتلاء بغيره الإخوة، وابتلاء بالفتنة، وابتلاء بالسجن، وابتلاء بالملك والقوة، وفي السورة أيضاً مشهد لابتلاء النبي يعقوب - عليه السلام - بفقدان ابنه، وفقدان بصره، ومشهد لصبره الطويل، وعدم تسرب اليأس إلى قلبه رغم معاناته الشديدة. وتبين السورة أن طول الابتلاء - مهما طال - لا يعني اليأس من روح الله، والسورة حافلة أيضاً بمشاهد تتحقق فيها الرؤى؛ رؤيا صاحبَيْ يوسف في السجن، ورؤيا الملك، ورؤيا يوسف - عليه السلام.

وتوضح السورة انطباق سنن الطبيعة البشرية وقوانين تدافع قوى الشر والخير على الأنبياء والرسل، وإن كان الوحي يوجههم ويعصمهم من الزلل، كما توضح السورة مدى تحمل الأنبياء للأحزان والابتلاء والفتن، وتقدم السورة أيضاً نموذجاً للسموِّ الأخلاقي، والعفو عند المقدرة، من طرف قائد تولى أمانة الحكم في سنوات الرخاء وسنوات الشدة، وساس البلاد والعباد بالعدل والإحسان، فأخرج البلاد من الأزمة، وأغاث الناس الذين مسهم الضر في مختلف المناطق.

وتبيِّن السورة في الجانب النفسي دور الانفعالات في تحريك السلوك، كما تبين تفاعل وتكامل مختلف الجوانب التي تكوِّن الإنسان: الأبعاد الجسمية، والروحية، والعقلية، والوجدانية، والسلوكية، وكيفية تأثير كل جانب في الجوانب الأخرى، وتأثره بها.



مدخل:

سورة يوسف من السور التي تعتمد على القصة (القصص) لتعليم الناس دروساً في السلوك واستخلاص العبر من تجارب الآخرين، وسورة يوسف نموذج للآيات التي تتناول بالعرض المفصَّل حياة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومحيطهم (النفسي - الاجتماعي)، وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الحق من متاعب وأهوال وأحزان. وهذه السورة نموذج للصراع بين الحق والباطل، وبين العقل والهوى، وبين المصالح الشخصية المبنيَّة على الأنانيَّة، وخدمة المصلحة العامة للأسرة والمجتمع والإنسانية، وهذه السورة أيضاً مثال واقعي يبيِّن كيف أن المظلوم قد يعامل كظالم، والبريء قد يصبح متَّهماً، وأن شخصاً - مهما علا مقامه ومكانته - قد يُحكم عليه زوراً وبهتاناً، ويُودع السجنَ مع المجرمين!.

وتتجلى في هذه السورة الانفعالات البشرية، والحياة الوجدانية للبشر كما هم في الواقع، دون أقنعة، وعندما يحاول بعضهم - مثل إخوة يوسف وامرأة العزيز - اصطناع أقنعة الخير والعفاف؛ فإنها لا تلبث أن تتساقط كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.

وليست هذه القراءة النفسية لسورة (يوسف) إلا محاولة متواضعة لفهم هذه السورة من خلال تناولٍ نفسيٍّ للأحداث وأنماط السلوك الواردة في هذه السورة، وخاصةً الجانب الوجداني للإنسان، الذي صُوِّر في هذه السورة أحسن تصوير. ولعل هذا التناول يساعدنا على فهم القرآن الكريم من منظورٍ مختلفٍ عن بقية التناولات الأخرى المعتمَدة في كتب التفسير المعروفة.

ومن جهة أخرى؛ فإن هدف هذه الدراسة هو محاولة لفهم الإنسان، وخاصة الجانب الوجداني منه، ودوافعه وكيفية تأثير هذا الجانب في بقية الجوانب، والأبعاد التي تكوِّن الإنسان، سواء كانت روحية وجسمية، أم عقلية ووجدانية وسلوكية - كما جاء ذلك في القرآن الكريم - وكيفية التأثر بها أيضاً. وسيكون ما جاء في القرآن الكريم هو المنطلق لفهم الإنسان، وليس ما هو وارد في السيكولوجية الحديثة فحسب، كما لجأ إلى ذلك بعض علماء النفس المسلمين المعاصرين.


لقد كانت سورة يوسف - ولا تزال - موضوعاً للتأملات والدراسات؛ بل وللأعمال الفنية، بغضِّ النظر عن عمق هذه الدراسات وأهدافها.

فبالإضافة إلى تفاسير القرآن الكريم التي فسرت هذه السورة من زوايا مختلفة، فقد اتخذ (مالك بن نبي) - مثلاً - في كتابه "الظاهرة القرآنية"[1] هذه السورة نموذجاً لدراسة القرآن الكريم، كظاهرة من الممكن دراستها علمياً وموضوعياً، وقد وصل إلى نتيجة مُفادها: أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من تنزيل العزيز الحكيم. وقد قامت منهجية (مالك بن نبي) على مقارنة سورة يوسف في القرآن الكريم مع قصة يوسف كما جاءت في "العهد القديم"، حيث وجد اختلافات جوهرية بين القصتين!

وكانت هذه السورة موضوع مؤتمر انعقد بدمشق سنة 1926م، تحت عنوان (مؤتمر تفسير سورة يوسف)، تم فيه التعرض لطبائع الصهاينة وأخلاقهم وسلوكهم[2].


أحاول في هذه الدراسة عدم الخوض في التفاصيل والإسرائيليات والأحاديث الموضوعة المتصلة بقصة يوسف - عليه السلام - وأسجل هنا - مع الأسف -: أن بعض تفاسير القرآن الكريم حافلة بالإسرائيليات والروايات، التي لا يقبلها العقل السليم والذوق الرفيع حول قصة يوسف - عليه السلام.

ومهما يكن من أمر، فإن هذه السورة الكريمة قد نزلت - كما يؤكد ذلك كثير من المفسرين [3] - في عام اشتدت فيه الآلام والأحزان على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لوفاة زوجته خديجة - رضي الله عنها - وعمه أبي طالب؛ حتى عرف ذلك العام بـ (عام الحزن)، عامٌ اشتدت فيه الأحزان على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وعلى أتباعه، فنزلت هذه السورة لتعلم المسلمين كيفية التعامل مع الأحزان التي ترافق الشدائد ومصاعب الحياة؛ وذلك بعرض نموذج من حياة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين تعرضوا للأهوال والشدائد والأحزان؛ لكي يكون هذا النموذج مثالاً يُقتدى به في التعامل مع الأحزان، وقد قال عطاء في هذا المعنى: "لا يسمع سورةَ يوسف محزونٌ إلا استراح لها" [3].

ويلاحظ المتأمل في قصة يوسف مدى عمق الانفعالات التي تحرِّك الإنسان، وشدتها في دفعه للقيام ببعض أنماط السلوك، كما يلاحظ دور الإيمان - والجانب الروحي عموماً - في ضبط الانفعالات ومراقبتها، ودور تحكيم العقل في إعادة التوازن للجانب الانفعالي المضطرب، وفي ظهور الانفعالات الإيجابيَّة، بدلاً من الانفعالات السلبيَّة التي تطغى على سلوك الإنسان.

وباختصار؛ فإن سورة يوسف - عليه السلام - عبارةٌ عن آيات متناغمة، تتماوج فيها الانفعالات ظهوراً واختفاءً، قوةًَ وضعفاً، حسداً وإيثاراً، حباً وكراهيةً، حزناً وفرحاً، غضباً وسروراً. وهذه القصة نموذج أيضاً لتعليم الناس عموماً، والنشء خصوصاً؛ لتهذيب سلوكهم، وضبط انفعالاتهم، وكيفية الرجوع إلى الحق والفضيلة بعد الخطأ والرزيلة، باستعمال القصة الهادفة.

وينبغي أن أنبِّه في آخر هذا التقديم: أن محاولة القراءة هذه ليست تفسيراً للقرآن الكريم؛ بل هي محاولة لفهم القرآن الكريم من منظور علم النفس العام، ولا ينبغي أن يُفهم أن هذه المحاولة عبارة عن عمل نهائي في هذا المجال؛ بل عبارة عن تجربة أراد كاتبها أن يخوضها، وأن يقدمها للباحثين والمهتمين للمناقشة والإثراء.



الرؤيا:

تبدأ سورة يوسف بإثارة الانتباه - بحروف ثلاثة لا نعرف لها معنًى محدداً - إلى آيات الكتاب المبين، التي نزلت بلغة عربية على قوم لا يفهمون ولا يعرفون غيرها من اللغات، مما يوضح العلاقة الوثيقة بين اللغة والعقل. والقصة تعتمد أساساً على اللغة؛ وهل يمكن تأليف قصة أو إخراجها سينمائيا أو تلفزيونيا، أو رسماً وتصويراً، أو بأيِّ شكل من أشكال التعبير والاتصال دون لغة، مهما كانت هذه اللغة بسيطة أم معقدة، مجرَّدة أم مجسَّمة؟ وكما تعتمد القصة على اللغة؛ فإن القصة من أساليب تعليم اللغة، وتعليم السلوك وتغييره.

وهذه القصة لم يقتبسها النبي - صلي الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى، كما لم يسمعها من القصَّاصين والرواة؛ بل الوحي مصدرُها، فالوحي هو مصدر المعرفة إلى جانب مصادر أخرى؛ مثل اللغة، والعقل، والطبيعة، ولولا هذا الوحي لكان محمد صلي الله عليه وسلم - ولبقي غافلاً عمَّا حدث في القرون الغابرة لغيره من الأنبياء والرسل، والأقوام والمجتمعات.

وبعد هذا المدخل عن مصدر المعرفة، وعلاقة اللغة بالعقل، تبدأ القصة بجلوس يوسف - وهو غلام لم يبلغ الحُلُم - ذات صباح قرب أبيه؛ ليقصَّ عليه الرؤيا التي ظهرت لعقله الصغير - ولا شك - غريبة، لم يستطع فهم دلالتها الرمزية المعقدة، مما أثار دهشته وتعجُّبه إلى درجة لم يستطع كتمان ما رأى، كيف يستطيع الكتمان في هذه السن؟! فلجأ إلى أبيه الذي كان يشعر بأنه أقرب وأحبُّ الناس إليه، فأسرَّ له برؤياه. أليس عجيباً أن يرى طفلٌ دون البلوغ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له؟!! ما معنى أحد عشر كوكباً؟ ولماذا؟ وكيف تسجد له هذه الكواكب والشمس والقمر؟!


يجيب النبي يعقوب - عليه السلام - ابنه طالباً منه بكل حنان أن يكتم رؤياه، ولا يقصَّها على إخوته الذين - ولا شك - سيكيدون له كيداً إذا سمعوها؛ لما تحمله من دلالة، وهنا إشارة واضحة من طرف النبي يعقوب - عليه السلام - إلى أهمية الرؤيا من جهة، وعلاقتها بإخوة يوسف الذين كانوا كما يعلم - وهو أبوهم - يغارون منه بشدة، قد تصل إلى حدِّ الفتك بيوسف كما قد يزيِّن لهم الشيطان ذلك، وهنا إشارة إلى الغيرة التي تكون بين الناس؛ بل وحتى بين الإخوة، والي هذا الانفعال الذي يؤدي إلى القتل أو الإضرار بالآخر والآخرين، والتاريخ والواقع حافلٌ بقصص أدَّت فيها الغيرة إلى التخلص من الإخوة والأخوات، وغيرهم من الأقرباء، في سبيل الاستئثار بالمال أو الملْك أو القيادة، أو بمنصب أو بامرأة أو برجل.

والغيرة عادة ما تكون بين الإخوة ( نساء - نساء )، و(رجال - رجال )، و( رجال - نساء )، كما تكون بين ( ذكور - ذكور )، و( إناث - إناث ) و( ذكور - إناث )، زملاء العمل، وزملاء الحكم والسلطة، وغير ذلك من الأشكال التي يكون هدفها الاستئثار بشيء له قيمة دون الآخر أو الآخرين، وكما تكون الغيرة بين الأفراد؛ فقد تكون بين الجماعات والمجتمعات. والغيرة غالباً ما تكون بين الأقارب، ويكون الحسد بين غير الأقارب، والغيرة عادةً ما تكون بين طرفين أو أكثر.

والغيرة انفعال شديد تحركه انفعالات أخرى كالخوف والغضب، خوفٌ من ضياع شيء، أو خوفٌ من عدم الحصول عليه، مما يؤدي إلى غضب الشخص، وتحرُّك قوي العدوان في نفسه؛ دفاعاً عن ذاته وحمايةً لها، ولكن هذا الدفاع قد يشتطُّ؛ فيتحول إلى هجوم للقضاء على الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى، وغالباً ما يلجأ إلى الحيلة والمكيدة للتخلص من الخصم؛ فلنر كيف لجأ إخوة يوسف - عليه السلام - بدافع من غيرتهم إلى الحيلة والمكيدة؛ للتخلص منه.


لم يشأ النبي يعقوب - عليه السلام - أن يفسر الرؤيا لابنه يوسف بطريقة مباشرة، ولكنه أفهمه بأن لهذه الرؤيا علاقة بإخوته، كما أن لها علاقة بمستقبله - وكذلك كل الرؤى؛ فإنها رمزية وذات دلالة تنبُّئية ( مستقبلية) - وأفهمه أيضاً: أن الله العليم الحكيم قد أكرمه بالقدرة على تأويل الأحاديث؛ أي: تعبير الرُّؤَى، كما أكرمه بمكانة عالية كما أكرم آل يعقوب من قبل؛ إبراهيم وإسحاق.

لقد كان إخوة يوسف - عليه السلام - ولا شك يشعرون أن أباهم يحبُّ يوسف أكثر مما يحبُّهم، أو هكذا خُيِّل إليهم، وكيف لا يحبُّ يعقوبُ يوسفَ وهو ابنه الأصغر، وهو المحروم من حنان الأم؟! ومن الطبيعي أن يحبَّ الأب ابنه الأصغر أكثر من الآخرين؛ لأنه أحوج من الآخرين إلى الرعاية والحماية، ولكنَّ الأبناء الأكبر سناً يعتقدون أن ذلك يُخِلُّ بالعدل بين الأبناء؛ مما قد يؤدي إلى حصول الإبن الأصغر على الاستئثار ليس بحبِّ الوالدين أو بحبَّ أحدهما فقط؛ بل الاستئثار أيضاً بما قد يجود عليه الأبوان من أموال وممتلكات، وغير ذلك من أساليب التفضيل. وهذا له ما يبرره في الواقع؛ إذ إلى جانب حاجة الطفل الأصغر إلى رعاية وحماية أكثر كما ينبغي الحال، فإن هذا الطفل غالباً ما يجد الصعاب قد مُهِّدت له بفضل كدح الأبوين لمدة طويلة، وبفضل كدِّ الإخوة والأخوات الأكبر سنّاً، الذين غالباً ما يقع عليهم عبء مساعدة الآباء والأمهات. وتبيِّن بعض الدراسات النفسية أن لترتيب الأبناء تأثيراً في سلوكهم وشخصيتهم بصفة عامة.


كان إخوة يوسف - عليه السلام - يشعرون أنهم أجدر بحبِّ أبيهم من يوسف، كيف لا يشعرون بذلك وهم جماعة (عصبة)، وقوة الجماعة أكبر من قوة الفرد! الجماعة أهم من الفرد، ودورها أعظم، كيف لا وهم جماعة (عشرة إخوة)، من أب وأم واحدة، بينما يوسف من أم أخرى!.

لقد أدت بهم الغيرة الشديدة إلى أن يحكموا على أبيهم بالضلال المبين، وإلى أن يحكموا على يوسف بالقتل؛ فالحكم هنا بالقتل واقع مع سبق الإصرار، ولكن سبق الإصرار هذا صاحبته نيَّة بالتوبة بعد اقتراف الجريمة، مما يدل على تصارع الخير والشر في نفوسهم بشدة، إلى درجة دفعت أحدهم إلى أن ينصح بعدم قتل يوسف، والاكتفاء بإلقائه في جُبٍّ (بئر)، لا يستطيع الخروج منه إلا بمساعدة المسافرين الذين سيمرون على الجبِّ للاستسقاء، وبالتالي لإنقاذ يوسف!.

وكأن نوازع الشر قد خفَّت قليلاً في نفوسهم؛ فاتفقوا على عدم قتل يوسف، والإجماع على إلقائه في الجُبِّ، مما يعطي له فرصة النجاة من الموت. ونلاحظ هنا كيف أن فرداً في جماعة قد يغيِّر اتجاه الجماعة كلها، ويؤثر في أحكامها وقراراتها وسلوكها بقوة الحجة، وبتجنيد الجانب الوجداني الإيجابي.



المكيدة والمصيدة:

لاشك أن أول خطوة يقوم بها الشخص الذي يغار من الآخر هي العمل على الفصل بين المحبوبين، والإيقاع بينهما بأي شكل من الأشكال، فكيف يصل أخوة يوسف إلى هدفهم؟ وكيف ينفردون بيوسف الذي يحظى بحماية ورعاية أبيه؟ وكيف يُفصل بينهما؟ لابد من حبك مكيدة ومؤامرة، واستدراجٌ إلى المصيدة؛ فما هي المكيدة؟ وما هي المصيدة؟ لابد من ارتداء الأقنعة! لابد من اصطناع قناع الحب بدلاً من الكراهية، وقناع الحماية والرعاية بدلاً من الغيرة والحسد، وقناع الأمان بدلاً من الغدر، وقناع البراءة بدلاً من الجريمة!.



﴿ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 11، 12].


فما كان جواب الأب؟

لقد عبر يعقوب - عليه السلام - عن حالته الوجدانية بأسلوب لبق؛ لكيلا يجرح مشاعرهم، حيث قال: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف:13]. لكنه لم يُخْفِ حزنه كما لم يُخْفِ خوفه؛ حزنه من افتراق يوسف عنه، وخوفه، ليس من أبناءه - ظاهرياً - بل من الذئب!.


لقد حاول يعقوب - عليه السلام - أن يجند الجانب الوجداني (السلبي) لديه (الحزن والخوف)؛ ليصرف أبناءه عن الحصول على هدفهم (يوسف)، ولكنه لم يفلح أمام إلحاحهم، وهم الذين لبسوا كل الأقنعة لمواجهة عواطف أبيهم، مهما كانت قوية ومؤثرة، فدعوا على أنفسهم بالويل والثبور إن أكل الذئب يوسف! لقد كانوا يعرفون حقاً بأن الذئب لن يجرؤ على أكل يوسف وهم عصبة من الشبان الأشدَّاء.

ورغم ذلك، فقد عمد إخوة يوسف إلى تجنيد الجانب الوجداني لتضليل أبيهم؛ فجاؤوا في المساء وهم يبكون، وكأنهم في حزن على يوسف الذي أكله الذئب عندما ذهبوا يستَبِقُون، وتركوا يوسف وحده حارساً لمتاعهم!. والبكاء وإن كان مظهراً من مظاهر الحزن إلا أنه لا يدل دائما على الحزن؛ فالبكاء قد يستعمل - وخاصةً من الإناث - للاستعطاف أو التضليل، وللحصول على هدف ما بصفة عامة.

انظر إلى حجة إخوة يوسف للتعبير عن حزنهم وتضليل أبيهم؛ فقد جاؤوا - وهم جماعة - يبكون، فالجماعة التي تبكي أمام فرد واحد، لا يمكن ألاَّ تصدَّق، وإن كان أفرادها كاذبين في بكائهم؛ فضغط الجماعة وتأثيرها في الفرد معروف؛ ولذا فقد جاؤوا جميعاً يبكون (يتباكون)، كما جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب؛ إتماماً لحبك خيوط الجريمة، وتضليل أية عملية تحقيق؛ ذلك لأنهم كانوا يعرفون أن أباهم يدرك تماماً ما يجول في نفوسهم؛ فأرادوا أن يضللوه بالقول والفعل. فقالوا: ﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف:17]، أما بالفعل: ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف:18]. فانظر كيف أدتَّ الغيرة بإخوة يوسف إلى ارتكاب جريمة إلقاء أخيهم في الجُبِّ، والتخلص منه بأبخس الأثمان، والكذب على أبيهم. وهذا مثال واضح لكيفية تأثير الجانب الانفعالي في السلوك.


تجنيد الجانب الروحي:

شعر النبي يعقوب - عليه السلام - بحزن شديد يمزق قلبه لما أصاب ابنه الأصغر، ورغم ذلك فقد حاول أن يتذرَّع بالصبر: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف:18]. ولكنَّ التذرُّع بالصبر والاستعانة بالله جاءا بعد أن اتهم أبناءه بأن أنفسهم قد سوَّلت لهم أمراً؛ وذلك حتى يوضِّح لهم بأن حيلتهم ومكيدتهم لم تَغِبْ عنه، ولم تستطع تضليله في واقع الأمر، وإن سكت على مضض. ويروى في هذا المعنى: أن النبي يعقوب قال لأبنائه: "كذبتم، لو أكله الذئب لخرق القميص"، وروي أيضاً أنه قال: "ما أحلم هذا الذئب، أكل ابني ولم يشق قميصه!" [4، ص164]. انظر كيف نسب النبي يعقوب صفة (الحلم) للذئب، وهي صفة بشرية؛ وذلك على سبيل التعريض بسلوك أبنائه.

وصبر النبي يعقوب - عليه السلام - على فراق ابنه وهو يعلم تفسير الرؤيا، كما يعلم بأن الله - سبحانه وتعالى - سيجمعه مع يوسف مرة أخرى؛ ولكنَّ صبر يعقوب قد طال. ولولا أنه كان يعلم من الله ما لم يكن أبناؤه يعلمون؛ لكان من الهالكين حزناً على ما أصاب يوسف، وكما جاء في "تفسير الفخر الرازي": فإن النبي يعقوب - عليه السلام - قد وقع في صراع بين الدواعي النفسانية التي تقتضي الجزع، وهي قوية، والدواعي الروحانية التي تدعو إلى الصبر والرضا. ودون معونة الله وتوفيقه؛ فإنه لن تحصل الغَلَبَة للصبر الجميل على الانفعالات الشديدة التي تستطيع تدمير الإنسان [ 5، ص107].


سنعود مرة أخري إلى صبر النبي يعقوب - عليه السلام - وحزنه الشديد، وكيف أثَّر فيه حزنه إلى درجة فقدان البصر، مما يدل على تأثير الجانب الوجداني في الجانب الجسمي ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ ﴾ [يوسف: 84]، وما قد يترتَّب على ذلك من ضعفٍ في الإحساس والإدراك! وقد حدث هذا بالنسبة للنبي يعقوب بسبب تغلب الجانب الوجداني فيه على الجانبين: الروحي والعقلي، وذلك لتغلُّب طبيعته البشرية عليه، وقد ناقش الزَّمَخْشَرِيُّ هذه النقطة، حيث قال: "فإن قلتَ: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلَغ؟ قلتُ: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حُمِدَ صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يَحْسُن" [ 6، ص339].


التخلص من يوسف:

وجاءت قافلة، وقصدت الجُبَّ للاستسقاء، وتعلَّق غلامٌ بالحبل، وأُخْرِجَ من الجُبِّ، مما أدَّى إلى تعجب الرجل - (واردهم) - ودهشته. وقد عبر عن تعجبه بالفرح؛ فقد راح يستسقي بالدلو ليغترف الماء، فإذا هو يغترف غلاماً غايةً في الحسن؛ فأيُّ بُشْرَى! ولكنَّ إخوة يوسف كانوا للساقي بالمرصاد: "لا يمكن أن تأخذ غلامنا هذا مجاناً، ولكننا نعرض عليك شراؤه بدراهم معدودة، بثمن بخس"! فانظر كيف فرَّطوا في أخيهم، وباعوه بدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين بفعل غيرتهم منه، ورغبتهم في التخلص منه بأي وسيلة! فهدفهم الأساسي لم يكن تجاريّاً؛ إذ لم يرغبوا في الحصول على الأموال من بَيْع يوسف؛ بل الهدف هو التخلص منه؛ حتى لا تنكشف أقنعتهم من جهة، ويزيلونه من طريقهم إلى قلب أبيهم من جهة أخرى، فقد كان يوسف - حسب اعتقادهم - يقف حاجزاً منيعاً دون تحقيق هدفهم، وهو الاستئثار بحبِّ أبيهم.

وهكذا نجا يوسف من غيابات الجُبِّ؛ وهو أول سجن يدخله في حياته، وهو غلام، ولم يؤنسه في وحشته إلا وحي الله - تعالى - إليه، يا لرحمة الله بهذا الغلام الذي استبد به الجزع والهلع، وهو يُلقى في ظلمات الجُبِّ من طرف إخوته! ما أشد ظلم ذوي القربى! وكيف لا يكون شديداً ويوسف لا يعلم لماذا ألقي في ظلمات الجُبِّ، الذي -ولاشك - لو كانت فيه مياه كثيرة لغرق، ولكنَّ الجُبَّ كان زنزانة مظلمة، تحيطها المياه من كل الجهات، إلى ما فوق سرَّة الغلام، في أرض قاحلة، غاب عن ليلتها البدر!.

ولكن ضياء الوحي ونوره قد غمرا يوسف وهو في الجُبِّ، وآنسا وحشته، وأزالا غمَّه، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف:15]، وجاءه المدد من السماء، وانتُشل من الجب، ولكنه بِيَع مثل الرقيق، واشتراه رجلٌ ذو مكانة كبيرة في مصر، وأوصى زوجته بإكرامه؛ فقد توسَّم فيه الرجل خيراً ونفعاً، إلى حدِّ رغبته في تبنِّيه، وهذا كله من تدبير الله العليم الحكيم، الذي علم يوسف - عليه السلام - تأويل الأحاديث، وفَهْم الأحاديث، بينما أكثر الناس لا يحكمون إلا بالظاهر، ولا يدركون الحكمة من وراء الأحداث الكثيرة التي تقع لهم، أو تقع حواليهم!! وكيف يدركون الحكمة من وراء وقوع الأحداث؛ وهذا الإدراك يتطلَّب كثيراً من الخبرة والتجربة والتأمل!!.


الابتلاء بالهوى:

وكبر يوسف في بيت عزيز مصر، وبلغ أشدَّه، وآتاه الله الحكمة والعلم؛ جزاءَ إحسانه وإخلاصه في عمله، وجزاءَ صفاء سريرته، ولكنَّ الأيام لا تمضي دون امتحان وابتلاء، سواء كان هذا الابتلاء حسناً أم قبيحاً في ظاهره.

وتعرَّض يوسف - عليه السلام - إلى ابتلاء عظيم، وقد تمثَّل في امتحان مدى ضبطه للجانب الوجداني في شخصيته: امرأةٌ ذات مالٍ وجاهٍ وجمالٍ تراوده عن نفسه، بعد أن غلَّقت الأبواب وانفردت به، وحاولت أن تجرَّه إلى الهوى بكل ما أوتيت من جاهٍ وفتنةٍ، وهمَّت به، وهمَّ بها؛ لولا أن رأى برهان ربه. ويتلقَّى يوسف مرةً أخرى مدداً من السماء، وتدركه رحمة الله؛ ليصرف عنه السوء والفحشاء، ولولا ذلك لوقع أسير الهوى؛ والهوى: ميلٌ شديدٌ في الجانب الوجداني نحو الخضوع للشهوة، التي تثير في النفس بدورها مشاعر الحبِّ الشديد، والرغبة في التعلُّق، والحصول على اللذة.

والذي أختاره من التفاسير لهذه الحادثة تلخيص سيد في "الظلال"؛ حيث وصف هذا الموقف بقوله: "وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة، وما كان يوسف سوى بشر. نعم، إنه بشر مختار، ومن ثَمَّ لم يتجاوز همُّه الميل النفسي في لحظة من اللحظات، فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي" [ 7، ص ص 227 - 228].

ولا شك أن رؤية يوسف لبرهان ربه قد أثارت في نفسه انفعالاتٍ مضادةً للاستجابات الجنسية الطبيعية؛ وهذه الانفعالات المضادة هي التقزز والاشمئزاز والنفور مما كان قد هَمَّ به، وقد دفعت به هذه المشاعر إلى الهروب؛ خوفاً من الوقوع في الفتنة، والهروب - سواء كان جسمياً (حركياً) أم نفسياً - وسيلةٌ للتخلص من المواقف المحرجة والشديدة، ولكن سيدة البيت لم تبرد، ولم تهدأ انفعالاتها، ولم تستطع ضبط هواها؛ فجرت وراءه لمنعه من الإفلات، ومزَّقت قميصه من دُبُرٍ!.


وفي هذه اللحظة الحرجة، تحدث مفاجأة شديدة... لقد وجد يوسف وامرأة العزيز نفسيهما - وجهاً لوجه - مع سيد البيت، وعلى الرغم من المفاجأة؛ فإن لسان امرأة العزيز لم يلجم، وراح يتهم يوسف، ويحكم عليه بالسجن أو العذاب الأليم؛ ولكنَّ يوسف أيضاً لم تخرسه المفاجأة، وكيف تخرسه وهو بريء! فدافع عن براءته، وألقى بالتهمة على صاحبة البيت التي راودته عن نفسه.

وبدأ صاحب البيت يتفحص الوجوه، محاولاً إدراك الموقف المحرج؛ لاتخاذ قرار مناسب، وإصدار الحكم، فكيف يصدر حكماً وأمامه زوجته وغلامه، كلٌّ منهما يتهم الآخر؟! وجاء الحل من شاهدٍ من أهلها، الذي حاول أن يصدر الحكم بناءً على استعمال الذكاء، والاستدلال بقرائن غير أقوال المتخاصمين. ﴿ َشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف:26-28]


في الواقع؛ ليس هناك في القرآن الكريم ما يدل على أن هذا الشاهد كان طفلاً؛ بل إن الشهادة التي أدلى بها تدل على ذكاء خارق، لا يمكن أن يصدر عن طفل في المهد، إلا إذا كان ذلك معجزةً - كما أورد ذلك بعض المفسرين، مثل الزَّمَخْشَرِيّ والطبري - وقد يكون هذا الشخص - كما يقول مفسرون آخرون - شخصاً ناضجاً مقرَّباً من العزيز وزوجته، فقصده العزيز يستنير برأيه في موضوع ادعاء زوجته، ودفاع غلامه، فجاء جوابه على ذلك الأسلوب القائم على الفراسة والنباهة.


المهم أن هذه الشهادة الذكية قد أنقذت يوسف من غضب سيده؛ الذي - وإن حاول ضبط أعصابه - لم يتورع عن توجيه التهمة إلى زوجته؛ وهو الخبير بمكائد النساء؛ فوصف كيدهن بأنه كيدٌ عظيم!! وهذا وصفٌ بليغٌ، حاول فيه عزيز مصر تعميمه على جميع النساء. الملاحظ فعلاً أن المرأة - نظراً لظروفها الاجتماعية - غالباً ما تحاول الوصول إلى أهدافها باستعمال الحيلة والمكيدة، وخاصةً في القضايا المتصلة بالجانب الوجداني، كالغيرة، والحبِّ، والبغض، والحسد، وتبيِّن الدراسات الميدانية المتعلقة بالجُنَح والجرائم: أن النساء يرتكبن جرائم جنسية أكثر من أي نوع آخر من الجُنَح والجرائم، مقارنةً بالرجال الذين يرتكبون جرائم السرقة أكثر من النساء [8].

ورغم إدراك صاحب البيت لخيانة زوجته، فإنه لم يحاول إلا توجيه لوم بسيط إليها، طالباً منها الاستغفار من ذنبها، فهل كان ذلك الرجل داهيةً أم ديوثاً؟! وهل كانت زوجته ذات سطوة تمنعه من رفع صوته في وجهها؟! ومهما كان الأمر؛ فإن غضب الرجل لم يؤدِّ به إلى اتخاذ أيِّ قرار حازم ضد زوجته، ولربما التبس عليه الأمر، واختلطت انفعالاته، فشعر بالحزن أكثر مما شعر بالغضب، ويختلف - بالطبع - رد الفعل الناجم عن الحزن عن رد الفعل الناجم عن الغضب، وقد رأي بعض المفسرين - كما جاء في "صفوة التفاسير" -: "أن العزيز كان قليل الغيرة؛ حيث لم ينتقم من زوجته الخائنة؛ لأنه كان سهلاً لين العريكة" [9].


قد يكون هذا التفسير لسلوك العزيز مقبولاً في إطار البيئة العربية والإسلامية، إلا أن هذا التفسير قد لا يكون مقبولاً في إطار الثقافات الأخرى، علماً بأن مركز العزيز يمنعه من تعريض شرفه وسمعته إلى تشويه أقبح، إن هو أفشى خيانة زوجته، كما أنه قد تكون للعزيز أسباب أخرى منعته من اللجوء إلى الانتقام من زوجته؛ قد يكون منها مثلاً حبه الشديد لها، أو عدم اقتناعه بخيانتها، كما قد يرجع ذلك إلى مكانة زوجته، وجاهها، وقربها من مراكز السلطة.

وفي الواقع؛ فإننا لا ندري - من خلال النص - ما الذي حدث بالضبط بين صاحب البيت وصاحبته، ولكن الفضيحة تجاوزت حدود البيت، وأصبحت قصة امرأة العزيز مع غلامها حديثاً تلوكه ألسنة الناس، وخاصةً نسوة المدينة، اللاتي رُحْنَ يتحدثْنَ عنها، ويصدرْنَ اللوم على سلوكها، ويصفْنَها بأنها في ضلالٍ مبينٍ، وكيف لا يوجهن إليها العتاب وهي امرأة عزيز مصر؟! وكيف لا تكون في ضلالٍ مبينٍ وقد شُغِفَت بحبِّ غلامها حبّاً وصل إلى سويداء قلبها، وسيطر على جوانحها سيطرةً شديدةً، وفقدت صوابها واتِّزانها، وراحت تراوده عن نفسه؟! فكيف سمحت لها نفسها بالتنازل؛ لتقع في حب غلامها وتخون زوجها؟! لقد كان سلوكها مصدراً لإثارة انفعالات التعجب والتقزز والغضب عند نساء المدينة؛ فأصدرْنَ عليها حكماً قاسياً، ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [يوسف:30]، وفي هذه الآية إشارة إلى دور الانفعالات أو الجانب الوجداني في تشكيل الاتجاهات والمواقف.


فكيف كان ردُّ فعل امرأة العزيز على حكم نساء المدينة ومواقفهنَّ؟ لقد اعتبرت كلامهنَّ وحكمهنَّ مكراً للنيل من قيمتها ومن شخصيتها؛ فمكرت بعد تفكُّر وتدبُّر، ولا شك أن تفكيرها قد شابه غضبٌ شديدٌ، وحزنٌ مكتومٌ من حكم النساء ضد سلوكها مع غلامها، فأرادت أن تدافع عن نفسها، وأن تقدِّم الدليل على صعوبة مقاومة هواها. ولتحقق هدفها؛ عمدت إلى تعريض النسوة إلى امتحان سلوكهنَّ؛ فدعتهنَّ لجلسة ترفيهية، تقدَّم فيها المشروبات والفواكه، ثم فاجأتهنَّ بإخراج الغلام عليهنَّ؛ فحدثت المفاجأة فعلاً، وحدثت الدهشة من رؤية جماله وبهائه! وشلَّت الدهشة ذهن النساء!.

وقد أدَّت بهنَّ دهشتهنَّ إلى نسيان أنفسهنَّ، وما كنَّ يقمْنَ به من تقطيع الفاكهة؛ فقطَّعنَ أيديهنَّ بدون وعي منهنَّ، ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف:31]. يقال: إن يوسف كان آيةً في الجمال والبهاء؛ ففُتنت النساء به، كما فُتنت به امرأة العزيز من قبل، وقد أدَّت بهنَّ دهشتهنَّ - (انفعالهنَّ الشديد) - إلى تقطيع أيديهنَّ دون الشعور بالألم، وهذا دليل على كيفية تأثير الجانب الانفعالي في الجانب الجسمي؛ فالانفعال الشديد - كالغضب أو الحزن أو الدهشة - قد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالجسم مثلاً، دون الشعور بالألم في تلك اللحظة. وهذا ما يُلاحظ عند بعض الطوائف الدينية التي يقوم أفرادها بإيقاع الأذى على أجسامهم، إلى حدِّ إدمائها، دون الشعور بالألم في تلك اللحظات، كما يُلاحظ أن بعض النساء في بعض البلدان يعمدنَ إلى لطم خدودهنَّ، وتمزيقها بأظافرهنَّ الطويلة، حتى إدمائها، جرَّاء الغضب الشديد من موقف، أو من شخص لا يستطعنَ مواجهتة بطريقةٍ عقلانيةٍ.

وبعد الدهشة الكبيرة التي صدمت نسوة المدينة إلى حدِّ تقطيع أيديهنَّ بالسكاكين، راحت امرأة العزيز تبرِّر سلوكها مع غلامها، بالدفاع عن نفسها أمام ضيفاتها، ولم تكتف امرأة العزيز بذلك؛ بل اعترفت أن الغلام قد استعصم، مما زاد من غضبها عليه، مهدِّدةً إيَّاه بالسجن أمام ضيفاتها، إن لم يفعل ما تأمره به سيدته، حتى يذوق في السجن طعم الهوان والمذلَّة والصَّغَار.

والتهديد بالسجن والإهانة سلاحٌ يستعمله أرباب السلطة المستبدُّون لإرهاب أعدائهم، وكسر مقاومتهم، ناسينَ - أو متناسين - أن حرمان أشخاصٍ من حريتهم معناه إثارة انفعالات قوية في نفوسهم، قد تصل إلى عكس ما كان يرجوه السجَّان ويبتغيه؛ ذلك أن السجن في حدِّ ذاته مدرسة للتأمل والدراسة والتعلم والإبداع لأصحاب الهِمَم والعقول الكبيرة، كما قد يكون مدرسةً للتخلُّص مما هو أسوأ من السجن!.


وهذا ما جعل يوسف - عليه السلام - يقول بأن السجن أحبُّ إليه مما يدعونه إليه من الهوى واللذة، رغم حلاوة هذه الأخيرة، وسهولة تقبُّلها من النفوس؛ وذلك عكس ما هو متوقع في السجن من قيود وحرمان، وآلام نفسية وجسمية. وبالنسبة ليوسف؛ فإن السجن منجاةٌ من كيد النساء وفتنتهنَّ، التي يعلم يقيناً بأنه من الصعب عليه مقاومتها إلى الأبد؛ فهو قبل كل شيء إنسان؛ وشابٌّ يافعٌ قد بلغ أشدَّه، محاطٌ بكل أسباب الفتنة التي لا تفتقر إليها النساء من حوله، وهي الجمال، والسلطة، والسطوة، والوقاحة، وقلة الحياء، ولكنَّ يوسف يدرك تماماً مصيره إذا استسلم لإغراء وفتنة النساء، ولهوى نفسه؛ فالمصير أن يوصم بالجهل، ويا له من عار أن يوصف بالجهل وهو الذي آتاه الله حكماً وعلماً، وهو الذي وصفه الله بأنه من المحسنين، إن هذا المصير يُشعر يوسف بتفاهة مكانته عند الله وانحطاطها، كما يُشعره بعدم احترام الذات؛ بل واحتقارها، مما يؤدي أيضاً إلى فقدان الثقة بنفسه.


النبي السجين:

رغم أن اختيار السجن قد يضع يوسف - عليه السلام - في موقف يكون فيه من الصاغرين - في أعين الناس على الأقل - إلا أن ذلك يحميه من الفتنة وأسبابها، كما أنه يرفع مقامه عند الله - تعالى - وقد استجاب الله لدعائه، وأنقذه من تسلُّط الهوى وسلطة المال والجاه؛ فصرف عنه كيد النساء؛ إذ حُكم عليه بالسجن حكماً احتياطيّاً.

لم يكن يوسف في السجن وحيداً كما كان في الجُبِّ؛ بل دخل معه السجن فتيان، ولا شك أنه قد نشأت بين الفتيان الثلاثة ألفة؛ جعلت كل واحد منهم يروي قصة سجنه، ويجد العزاء من خلال الاستماع إلى قصتَيْ زميليه الآخرين.

وتمضي الأيام ثقيلة في السجن، في انتظار الحكم النهائي، وفي صباح أحد الأيام، يقبل الفتيان على يوسف ليرويا ما رأيا في المنام، ويسألانه تأويل ما بدا لهما غريباً، وذلك لما توسَّما فيه من ذكاء وحسن خُلُق. ويبدو أن تأويل الأحلام شيءٌ كان يستأثر باهتمام الناس آنذاك استئثاراً كبيراً؛ إذ بعد رؤيا يوسف التي قصَّها لأبيه، تأتي في هذه السورة رؤيا الفتيان، ثم ستصادفنا في نفس السورة رؤيا ملك مصر، وهذا مما يدل على أهمية الرُّؤَى في فهم السلوك والتنبُّؤ به، ولكن عملية تعبير الرُّؤَى تحتاج إلى فهمٍ دقيقٍ، وذكاءٍ عالٍ؛ لما تحمله من رموز تبدو لغير الأذكياء طلاسم، يصعب فهمها وإدراك مراميها، ناهيك عن التنبُّؤ بما سيقع بناءً على تحليلها وتفسيرها.

ويتَّضح من سورة يوسف أن الرُّؤَى مصدرٌ للتنبؤ بالسلوك الذي قد يقع في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد، وذلك من خلال دراسة الرؤى الثلاث الواردة في هذه السورة، وهي: رؤيا يوسف، ورؤيا الفتيان، ورؤيا الملك. ومما لا شك فيه أن الرؤيا - كما يُفهم من هذه السورة - لا تختصُّ بالأنبياء والمؤمنين فقط، كما لا يُشترط أن يفهم صاحبها أبعادها ومراميها قبل وقوعها، مما يستدعي الاستعانة بذوي الاختصاص في هذا المجال، مما يدل أيضاً على أن تعبير الرؤيا قد يصبح علماً مستقلاًّ عن بقية العلوم، له موضوعه ومنهجه، وإن كان يرتبط بمواضيع أخرى، مثل علم النفس، وعلم الأعصاب، والفسيولوجيا، وعلم الاجتماع الثقافي، الخ.


فماذا رأي الفتيان في المنام، وهما في السجن ينتظران مصيريهما؟ ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف:36]. لم يتسرع يوسف في إعطاء الجواب، وإنْ طمأنهما من البداية بأنه على دراية بعلم التأويل، الذي علمه الله إيَّاه، وأنه سيعبِّر لهما رؤيَيْهما، فراح أولاً يبيِّن لهما كيف لم يركن إلى أسلوب حياة الكافرين، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، واتَّبع ملة آبائه الأنبياء: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وقرر يوسف - عليه السلام - أن الإيمان بالله، وعدم الشرك به من فضل الله عليه، وعلي آبائه، وعلي الناس، ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون، كما أكَّد على أن أكثر الناس لا يعلمون؛ لأنهم يعبدون أرباباً متفرقين، بدلاً من عبادة الله الواحد القهَّار.

وبعد هذا التذكير الذي قام به يوسف لتحضير نفسيَّة الفتيان، بدأ في تأويل رؤيَيْهما؛ حيث قال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف:41]. فانظر إلى الأسلوب المباشر في تفسير الرؤيا، بعد التحضير النفسي الذي قام به قبل ذلك، وانظر إلى الاختصار الشديد والواضح جدا في عملية التأويل، وانظر إلى المعاني الرمزية في الرؤيا، وكيف استطاع يوسف - عليه السلام - بذكائه ونفاذ بصيرته، أن يدرك - بإلهام من الله تعالى - القيمة التنبُّئيَّة للرؤيا، بناءً على فهمه لموقفَيْ صاحبَيْه في السجن، وبناءً على ما كانا يشعران به ويفكران فيه.

وإيماناً منه بنجاة أحدهما؛ طلب منه يوسف - عليه السلام - أن يتذكره بعد خروجه، وأن يذكره عند ربه، لعله يعيد النظر في الحكم الصادر ضده ظلماً وبهتاناً، ولكن الفتى انشغل بأمور دنياه، ونسي تماماً ما وصَّاه به يوسف، ولم يتذكر التماس يوسف بأن يذكر قصته عند الملك، إلا بعد أن سمع رؤيا الملك، وقد مضت قبل ذلك بضع سنين، قضاها يوسف - عليه السلام - في السجن صابراً محتسباً، ولك أن تتصور مختلف الانفعالات والأفكار التي جالت بذهن يوسف وهو يقاسي وحيداً آلام السجن، بعيداً عن أهله ووطنه، ولكنْ لم يكن يوسف وحيداً في السجن؛ بل كان الوحي معه، وكان يدرك تماماً مغزى الرؤيا التي رآها؛ فكان ذلك عزاءه ومحطَّ آماله، فلم ييئس، ولم يقنط، وبقي ينتظر الفرج.


رؤيا الملك:

ويشاء الله - تعالى - أن يُرى الملك رؤيا لم يستطع فهم مغزاها؛ فلجأ إلى حاشيته، يقصُّ رؤياه، لعله يجد لها تفسيراً: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [يوسف:43]. فكيف أجابه الملأ الذين لم يفهموا معاني الرموز - (البقرات والسنبلات والسنين) - في الرؤيا؟ ﴿ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴾ [يوسف:44]. قد يبدو من هذا الجواب أن تأويل الأحلام لم يكنْ شيئاً معروفاً - كعلم - عند حاشية الملك، كما قد يرجع إلى أن أغلب الناس حينئذ - بل إلى الآن - لم يكونوا يعتقدون بأن للأحلام معاني ودلالات، وقدرة على التنبُّؤ بما سيقع مستقبلاً؛ بل يعتبرون الأحلام عبارة عن أضغاث، أي: خيالات وأوهام لا معنى لها، وفي هذا الموقف تجاهل - إن لم يكن جهلاً - لأحد مصادر المعرفة، التي قد تُفيد في فهم السلوك وغيره من الظواهر، إن بنيت على أساس من العلم المنهجي، بدلاً من "التخريف والتجديف" والادعاءات الكاذبة! ورغم هذا التجاهل والجهل، فقد اعترفت حاشية الملك بأنه لا علم لها بتأويل الأحلام؛ وفي هذا الاعتراف ما قد يدل على التواضع وعدم الادِّعاء، وإن كان إقراراً بجهلهم.


وجاء دور الذاكرة ليؤدي واجبه؛ فقد تذكر الذي كان في السجن مع يوسف صاحبَ سجنه، وتذكر قدرته على تأويل الأحلام؛ فطلب الترخيص له، ليسأل يوسف عن تعبير رؤيا الملك، وأسرع الخطى إلى السجن، وما التقى بيوسف حتى راح يستفتيه في رؤيا الملك ودلالتها، قائلاً: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾ [يوسف:46]. فكان جواب يوسف - بعد أن أدرك المغزى الرمزي للرؤيا - عن السؤال مباشرةً، حيث قال: ﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف:47-49].



ونلاحظ هنا أن يوسف - عليه السلام - لم يكن أسير انفعالاته؛ إذ راح يقدم الجواب عن طيب خاطر، ولم يحاول استغلال الموقف.

ولاشك أن الملك قد أعجب إعجاباً شديداً بتعبير يوسف لرؤياه؛ فأمر بإحضاره، ولكن يوسف لم يمتثل هذه المرة لطلب الملك، بل ردَّ الرسول رداً جميلاً، طالباً منه أن يرجع إلى الملك، ويسأله عن النسوة اللاتي قطَّعنَ أيديهنَّ، وكِدْنَ له؛ لوضعه في السجن، حيث لبث بضع سنين، وفي هذا تعبير عن غضب يوسف على السلطة الحاكمة، التي لم تحاول تحرِّي الحقيقة وإنصاف المظلومين، وكان من أهداف يوسف من وراء ذلك: أن يدفع الملك ليتحرَّى بنفسه ما حدث، حتى تنجلي حقيقة الموقف، وينكشف المجرم، ويبرِّئ يوسف ذمَّته.


محاكمة النساء:

عندما سأل الملك نسوة المدينة عن مراودتهنَّ ليوسف، ومن هو المسئول عن ذلك، اعترفت النساء ببراءة يوسف، وعند هذا الحدِّ لم يكن هناك أمام امرأة العزيز إلا الاعتراف والإقرار بما قامت به؛ فقالت: ﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف:51]. لقد اعترفت امرأة العزيز؛ فبرَّأت ساحة يوسف، وشهدت بصدقه، وبالتالي كذبها، وحمَّلت نفسه مسؤولية ما حدث، مشيرةً بصراحة إلى نفسها التي أمرتها بالسوء؛ أي: بالهوى والخضوع إلى نداءات اللذة، والتعسُّف في استخدام السلطة، ولا شك أن الانفعالات التي سيطرت على امرأة العزيز في هذه اللحظات قد تمثلت في الشعور بالإثم والندم على ما بدر منها، والغضب على سلوكها، مع مسحةٍ من الحزن.

ومما يُستخلص من قول امرأة العزيز: هو أن النفس أمَّارةٌ بالسوء أصلاً، أي: أن نوازع الشر جزء من الطبيعة البشرية، وهذه النوازع - حسب قولها - هي الغالبة عليه، ولا ينجو منها إلا مَنْ رحمه الله، وتداركه بغفرانه، مما يدل على أن الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - واستدرار رحمته منجاةٌ من الوقوع فريسةً سهلةً لنوازع الشر؛ الشيء الذي يكوِّن في النفس مقاومةً روحيةً لهذه النوازع، التي وإن كان لا يقضي عليها تماما، إلا أنها تضعف بازدياد الإيمان، واستبدال نوازع الشر بنوازع الخير والرحمة والمغفرة، ويرينا هذا الإدراك مثالاً لكيفية تأثير الجانب الروحي في الجانب الوجداني وفي السلوك، كما يرينا إدراك امرأة العزيز لعدم فلاح مسعى الخائنين وكيدهم، رغم تجنيدهم القوي للانفعالات السلبيَّة الهدَّامة، مثل الغضب والغيرة والحسد.


أما الملك الذي قاضي النساء، فقد اقتنع تماماً ببراءة يوسف، ولم يخبرنا القرآن الكريم كيف حكم على امرأة العزيز؛ بل يخبرنا أن الملك اتخذ قراراً سريعاً بإحضار يوسف، وجعله من المقربين. وفي هذا القرار إنصافٌ ليوسف - عليه السلام - من جهة، وتعويضٌ لما تعرَّض له من ظلم واضطهاد من جهة أخرى، خاصةً وأن الملك أراد أن يستخلصه لنفسه، مما أشعر يوسف بمودَّة وتقدير الملك له، كيف لا، وقد قال له الملك: ﴿ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف:54].

ولقد أورد الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيره لسورة يوسف عن قتادة: أن هذا دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، إذا علم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بذلك" [ 9، ص329].


تعليق على الرؤى الثلاث في سورة يوسف:

1 - الملاحَظ أن كل الرؤى رمزية في مضمونها وأشخاصها، ويتطلَّب فهمها تأويل الرموز الواردة فيها.



2 - أن للرؤى دلالات ثقافية مرتبطة بالبيئة الجغرافية؛ وبدون فهم الثقافة السائدة؛ لا يمكن فهم وتأويل الرؤيا، فالرؤيا الأولي: (ليوسف - عليه السلام -) تتعلق برموز فلكية (الشمس، والقمر، والكواكب)، وهي رمز للعلوّ، وتتضمن تلك الرؤيا موضوع السجود؛ والسجود لا يكون إلا لعظيم (الله، الملك). والرؤيا الثانية: (لأصحاب يوسف في السجن)، تتضمن (الخمر، والخبز، والطير). والرؤيا الثالثة: (للملك) ذات مضمون زراعي (سنبلات، وبقرات).



3 - أن الرُّؤَى ذات قيمة تنبُّئيَّة؛ أي: القدرة على استكشاف ما سيجري في المستقبل، سواء كان هذا المستقبل قريباً أم بعيداً.



4 - أن الرُّؤَى قد لا تتحقق إلا بعد مرور سنوات عديدة، كما هو الشأن في رؤيا يوسف.



5 - أن الرُّؤَى تؤثر في الجانب الوجداني في الإنسان، فغالباً ما تحيره وتقلقه، وقد تدهشه وتحزنه، كما قد تسرُّه!! فالرؤيا قد تحمل بُشْرَى كما قد تحمل نذيراً؛ وبالتالي فهي تؤثر في أبعاد الإنسان: الوجدانية، والعقلية، والسلوكية.



6 - ليس كل ما يراه الإنسان في الأحلام عبارة عن رُؤَى؛ فقد يكون بعض ما يراه الإنسان في المنام أضغاث أحلام، وبالرغم من ذلك؛ فإن لهذه الأضغاث معاني وأهدافاً، ولكنها لا تحمل بالضرورة قيمة تنبُّئيَّة.



7 - قد تدل الأحلام على الصراعات، وإشباع الرغبات التي لا يستطيع الفرد إشباعها في اليقظة، ولكن الرؤيا غير ذلك؛ إذ أن قيمتها تتمثل في التنبُّؤ أساساً.



8 - تأتي الرؤيا واضحةً، وإن كانت بصفة رمزية، وقد تتكرر نفس الرؤيا عدة مرات، بينما تأتي الأحلام غير واضحة، ويقع فيها خلط، ولذا تسمَّى بالأضغاث؛ فالأضغاث جمع ضِغْث، وهي حزمة من الحشيش التي تخلط فيها الأعشاب الطرية بالأعشاب اليابسة؛ وكذلك تكون الأحلام مختلطة في أغلب الأحيان.


يوسف القائد:

بالإضافة إلى ما اتصَّف به يوسف - عليه السلام - من حسن الخَلْق والخُلُق، وما آتاه الله من العلم والحكمة؛ فقد برزت صفة القيادة في شخصيته؛ إذ بمجرد ما شعر بتقريب الملك له، ورغبة هذا الأخير في تحميله مسؤوليةً ما، ومكافأته على صبره، وعلى ما أبداه من الحكمة والمعرفة، تبرَّع بعرض خدماته لتحمُّل مسؤولية الخزينة والاقتصاد.

لقد أدرك يوسف أن البلاد ستعرف سبع سنين من الرخاء، تعقبها أزمةٌ اقتصاديةٌ تدوم سبع سنوات أيضاً، يسودها القحط والجفاف والمجاعة، مما يستدعي قيادةً تتميز بالأمانة والعلم؛ وهاتان خاصَّتان أساسيتان في القيادة، وخاصةً في المجال الاقتصادي، أمانةٌ وعلمٌ خلال سنوات الرخاء؛ حتى لا يحدث الإسراف والتبذير، والمحاباة وخدمة المصالح الشخصية، وعلمٌ بفنون التسيير، والتقويم، والتخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والإنتاج، وكذلك الأمانة والعلم خلال سنوات الأزمة؛ حتى يتحمَّل الناس عواقبها الوخيمة بالعدل، وتحقيق حسن التوزيع، وترشيد الاستهلاك، والتخطيط للخروج من الأزمة بتجنيد القوى العاملة إلى أقصى الحدود، وتشجيع الناس على الإنتاج أكثر من الاستهلاك؛ لتحقيق النمو الاقتصادي.

وهكذا مُكِّن ليوسف - عليه السلام - في الأرض؛ فأصبح يتبوَّأ منصباً رفيعاً، تحيطه العناية الإلهية في جهوده القائمة على إتقان العمل والإخلاص فيه، والسعي حثيثاً لتحسين فنون الزراعة، وما يرتبط بها من سقي، وتعهُّد، ورعاية، وحصاد، وجمع، وتخزين، وتوزيع. ولابد أن يكون الإنتاج في سنوات الرخاء أعلى من الاستهلاك، ولابد أن يكون احتياطي الموارد الغذائية كبيراً، ومبنيّاً على حسابات دقيقة؛ بحيث يغطي هذا الاحتياطي حاجة المجتمع خلال سنوات الأزمة.


ومما يستخلص من هذا الموقف:

أولاً: حاجة التنمية الاقتصادية - وتنمية المجتمع بصفة عامة - إلى قيادة رشيدة، من خصائصها الرئيسة: العلم، والأمانة، وإتقان العمل، وما ينضوي تحتها من خصائص فرعية.


ثانياً: ينبغي أن يكون السلوك الإنتاجي مدروساً؛ بحيث يحقِّق فائضاً في الإنتاج؛ فلا يمكن أن تتحقق تنميةٌ اقتصاديةٌ إذا كان الإنتاج مساوياً للاستهلاك، ويزداد الأمر سوءاً إذا كان الإنتاج أقل من الاستهلاك، كما هو الحال في الدول المتخلفة. وقد أفاض مالك بن نبي - مثلاً - في شرح العلاقة بين الحقوق والواجبات، والإنتاج والاستهلاك [10].


ثالثاً: يتطلب التمكُّن والتمكين في الأرض خصائص قيادية، كنتيجة للعلم والحكمة، والتمحيص والابتلاء، والخبرة والممارسة.


رابعاً: تتطلب القيادة المرتبطة بالوحي والإيمان والتقوى الاعتقاد الجازم في الحصول على الأجر في الآخرة، وأنه أحسن من كل أجر، بالإضافة إلى الخصائص الأخرى المشار إليها أعلاه.


ومسَّ القحط والجدب مصر والمناطق الأخرى، وبدأت القوافل تتوافد على خزينة الملك للحصول على المواد الغذائية - (الحبوب خاصةً) - التي تولى يوسف - عليه السلام - الإشراف على توزيعها، وجاء أخوته ضمن مَنْ جاء، فعرفهم، ولكنْ لم يعرفوه، وكيف يعرفونه وهم قد تخلصوا منه، وباعوه بثمن بخس، وتوقعوا له مصيراً سيئاً؟! ولاشك أن يوسف قد اندهش لرؤية إخوته، ولكنه لم يُبْدِ دهشته؛ بل ونجح في التحكم في انفعالاته، وضبط سلوكه كما ينبغي؛ فوفَّاهم الكيلَ، وعاملهم بإحسانٍ، وأنزلهم منزلاً حسناً.

ويتطلب منَّا هذا السلوك وقفة تأمل؛ لنرى أن يوسف الذي أُلقي في الجُبِّ، ويوسف الذي تعرض للفتنة، ويوسف الذي سُجن بضع سنين، ويوسف الذي تولى خزائن الأرض، قد أُرشد بالوحي خلال كل هذه المراحل من جهة، وأُنضج بالتجارب والخبرات المتعددة والمثيرة من جهة أخرى، وهذا ما جعل سلوكه مع إخوته وغيرهم يتَّسم بالنضج، والرُّشد، والاتِّزان الوجداني.


بالإضافة إلى هذا؛ فإن ليوسف هدفاً هاماً، وهو الإتيان بأخيه الشقيق إلى مصر؛ لكي يراه ويطمئن على أبيه. قد استعمل يوسف الترغيب والترهيب للحصول على هذا الهدف، فقال: ﴿ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ [يوسف:59]. ولا يخفى أن استعمال الترغيب أهمُّ من استعمال الترهيب للحصول على الهدف؛ ولذلك فقد عمد يوسف - عليه السلام - أولاً إلى استقبال إخوته استقبالاً جيداً، وإنزالهم منزلاً طيباً، وجهَّزهم أحسن تجهيز.

وبعد ذلك عمد إلى الترهيب، وذلك بتهديدهم بعدم الكيل لهم، وعدم الاقتراب منه إذا لم يحضروا أخاهم من أبيهم المرة القادمة، وقد نجحت خطة يوسف - عليه السلام - في إقناع إخوته بضرورة إحضار أخيهم، وزيادةً في الضغط على إخوته، فقد أمر بإرجاع بضاعتهم لكي يستخدموها كحجة عند أبيهم حتى يقتنع بضرورة إرسال شقيق يوسف معهم بالفعل؛ فقد قالوا لأبيهم بأنهم قد مُنعوا من الكيل؛ إلا أن يرسل معهم أخاهم، واعدينَ بأنهم سيحمونه: ﴿ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف:63]. ولكنَّ أباهم لم يصدِّق وعدهم، وكيف يصدِّقهم وقد وعدوه من قبل حمايةَ يوسف، ثم ادَّعوا بأن الذئب قد أكله؟! وطافت ذكرى يوسف الحزينة بذهن النبي يعقوب - عليه السلام - فذكَّر نفسه وأبناءه بأن الله هو ﴿ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].


وعندما فتح الأبناء متاعهم اكتشفوا أن بضاعتهم قد رُدَّت إليهم مع الكيل؛ فأصيبوا بالدهشة، وبشيءٍ من الغضب والحزن على ذلك؛ فراحوا يستخدمون ردَّ البضاعة كورقة ضغط نفسيٍّ على أبيهم؛ فقالوا: ﴿ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ [يوسف:65]. لكنَّ أباهم الذي هزته ذكرى يوسف الحزينة لم يقتنع بسهولة، وهذا أمر طَبَعِيٌّ؛ لأن تغيير اتجاه شخص ما نحو أشخاص آخرين كان قد اتخذ موقفاً سلبيًّا ضدهم، يتطلب جهداً كبيراً في التأثير على جوانبه العقلية والوجدانية مجتمعة، وبالفعل؛ فإن أباهم لم يقتنع حتى أعطوه عهداً ومَوْثِقاً من الله بحماية أخيهم، وعدم التفريط فيه، وأَشْهَدَهم الله - تعالى - على ما قالوا.


وكشأن الآباء المهتمين بأبنائهم؛ راح النبي يعقوب - عليه السلام - يوصي أبناءه بعدم الدخول من باب واحد عند وصولهم إلى مصر؛ بل ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة، فلماذا أوصاهم أبوهم بذلك؟ وما هي الحاجة التي أخفاها يعقوب في نفسه؟

يقال أن عدد إخوة يوسف هو أحد عشر أخاً، وتفسَّر نصيحة أبيهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة بخوفه عليهم من الإصابة بعيون الحاسدين، ورغم دخول أبناء يعقوب من أبواب متفرقة، "إلا أنهم أصابهم ما أصابهم من تفرُّق وافتضاح" كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره". ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيره "الكشاف" عن الإصابة بالعين، إنه: " يجوز أن يُحْدِثَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللاً من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاءً من الله، وامتحاناً لعباده؛ ليتميز المحقِّقون من أهل الحشو؛ فيقول المحقِّق: هذا فعل الله، ويقول الحَشَوِيُّ: هو أثر العين، كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [المدثر: 31]. وعن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه كان يعوِّذ الحسنَ والحسينَ، فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامَّة، ومن كل شيطان وهامَّة)) [6، ص333].

وقد يُردُّ على رأي الزَّمَخْشَرِيِّ هذا برأي أهل السنة والجماعة، الذين يرون أن العين حقٌّ، وأن تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسبِّبات، كربط الإحراق بالنار، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى [ 11، ص488].

ومهما يكن؛ فإن موضوع (الإصابة بالعين) في حاجة إلى مزيد من الدراسات الشرعية والنفسية والثقافية؛ لتوضيح حقيقتها، وكيفية إحداث التأثير في الآخرين، وسبل علاجها بالرُّقية الشرعية مثلاً.


ورغم احتياط النبي يعقوب - عليه السلام - بهدف حماية أبنائه، فقد كان يعلم تماماً بأن ذلك الاحتياط - الدخول من أبواب متفرقة - لن يغني عنهم من الله شيئاً؛ فلله الحكم، وعليه فليتوكل المتوكلون. وهنا حكمةٌ بالغةٌ تتجلى في إيمان يعقوب - عليه السلام - بضرورة التوكل على الله - تعالى - واعتقاده الجازم بأن الحكم بيده - تعالى - ورغم اعتقاده الجازم، فإن ذلك لم يمنعه من اتخاذ الأسباب الضرورية، واعتماد الاحتياطات المناسبة لحماية أبنائه مما قد يصيبهم إن دخلوا من باب واحد، وفي هذا الموقف تمييزٌ واضحٌ بين التوكل والتواكل.


لم تكن نصيحة النبي يعقوب - عليه السلام - لأبنائه صادرةً من قلب أبٍ رحيمٍ شفيقٍ على أبنائه فحسب؛ بل إن نصيحته قائمةٌ على علمٍ أيضاً، وهذا العلم مما آتاه الله إيَّاه، حيث وصفه الله تعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف:68]. وتشير الآية الكريمة إلى أن هذا العلم مما يجهله أكثر الناس، ولذلك لم يخبر أبناءه لماذا ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة؛ بل كتم حاجته من وراء ذلك، ولاشك أن الأبناء قد قبلوا نصيحة أبيهم، وعملوا بها؛ ففرح لذلك، وانشرح صدره.


وأقبل إخوة يوسف مع أخيهم غير الشقيق؛ فانفرد يوسف - عليه السلام - بأخيه الشقيق، فكشف له عن شخصيته الحقيقية، فقال: ﴿ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف:69]. لقد أراد يوسف أن يدخل السرور إلى قلب أخيه، وطرد الحزن منه جرَّاء ما كان يرتكبه إخوته الآخرون من حماقات، وكانت لحظاتٍ رائعةً، سادتها الدهشة والمفاجأة السارَّة، وفرح اللقاء بعد أحزان الفراق. ولكم أن تتصوروا سرور أخوَيْن شقيقَيْن التقيا بعد عدة سنوات من الحزن وانعدام بارقة أيِّ أمل، ويشاء الله ويمهد الأسباب للقاء الأخوَيْن في مكانٍ لم يخطر لهما من قبل على بال، ولكم أن تتخيلوا دهشة شقيق يوسف عندما يكشف له شقيقه عن شخصيته، وكيف لا يندهش وقد أُخبر من طرف إخوته أن الذئب قد افترس يوسف، وجاؤوا بقميصه ملطخاً بالدماء؟! كيف لا يندهش، وقد رأى بأمِّ عينيه دماً على قميص شقيقه؟! والآن يرى بأم عينيه يوسفَ وقد تبوَّأ مكانةً عظيمةً في قصر الملك؟! كيف لا يفاجأ، بينما لم يكن طموحه في مجيئه مع إخوته إلى مصر يتعدى الحصول على كيل بعير من الحبوب، والرجوع به إلى أبيه سالماً مع إخوته؟!.


وتتوالى المفاجآت، حيث ينادي المنادي إخوة يوسف، ويتهمهم بالسرقة، فيصابون بالدهشة والتعجب، فيقبلون على المنادي يستفسرون عمَّا ضاع، ويتعجب إخوة يوسف أكثر عندما يسمعون أن صِوَاع الملك قد سُرق، وأنه قد رُصدت مكافأةٌ لمَنْ يجده، وأن المنادي متحمسٌ جداً للحصول على المكافأة، ونلاحظ هنا قوة الدَّافعية عند المنادي، وتأثيرها في سلوكه بفعل المكافأة المغرية (حمل بعير). وتحت تأثير المفاجأة الشديدة والاتهام القوي، راح إخوة يوسف يحلفون لدفع التهمة عنهم، بأنهم ما جاؤوا إلى مصر ليفسدوا في الأرض، أو ليسرقوا، وإنما جاؤوا تجاراً، يستبدلون سلعة بسلعة.

ولكن ما هو جزاء إخوة يوسف إن وُجد صِوَاع الملك في رحالهم؟ لابد أن يعترفوا بجرمهم، وأن يقبلوا حكم الملك - أو من ينوب عنه - فيهم، كيف لا يقبلون بحكم الملك وهم ينكرون أنهم سارقون، وأنهم مفسدون، أو أنهم كاذبون؟!.


وبدأ التفتيش، ولتضليل إخوة يوسف بأن الأمر غير مدبَّر؛ بدأ في تفتيش أوعية إخوته غير الأشقاء قبل وعاء أخيه الشقيق، ولكنَّ الصِّوَاع لم يوجد إلا في رَحْل أخيه، وبهذا الإجراء الذي اتخذه يوسف؛ تمكَّن من أن يضمن بقاء أخيه معه بطريقة قانونية، وهذا يتطلَّب علماً، وفوق كل ذي علم عليم.


واندهش إخوة يوسف، وأخذتهم المفاجأة؛ فأصيبوا باضطراب شديد ظهر على وجوههم، وفي حركاتهم، وبعد استيعاب الصدمة تفطَّنوا إلى ضرورة الدفاع عن أنفسهم، وتبرير ما حدث بأيِّ شكل من الأشكال، فلم يجدوا عذراً ولا مبرِّراً مقبولاً إلاَّ أن يتهموا أخاهم بالسرقة، مضيفين إلى ذلك اتهام يوسف نفسه بالسرقة؛ وكأن لسان حالهم يقول: إن أخانا غير الشقيق قد سرق مثلما سرق أخوه الشقيق من قبل، بينما نحن الإخوة الأشقاء لسنا سارقين؛ فالعيب في الأخوَيْن الشقيقَيْن - يوسف وأخوه - وليس فينا.


ورغم صدور هذا الاتهام الخطير من طرف شبانٍ ثبتت عليهم السرقة؛ فلم يكن في وسع يوسف - عليه السلام - إلا أن يكون حليماً معهم، ولم يظهر ما شعر به بسبب هذا الاتهام، بل أخفى انفعالاته. ورغم ذلك؛ فإنه لم يتمالك نفسه في وصف إخوته بأنهم أشراراً ﴿ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ [يوسف:77]، وأنه يترك ما يصفون به يوسف وأخاه لله - تعالى- الذي يعلم كل شيء، وكأن يوسف بهذا القول يريد أن يوقظ الضمير عند أخوته، ويشعرهم بالذنب لما اقترفوه في حقِّ يوسف عند إلقائه في الجُبِّ، وبيعه مثل العبيد، وأكل ثمنه، ثم اتهامه بالسرقة.


ورغم صعوبة الموقف الذي وجد أخوه يوسف أنفسهم فيه أمام حاكم قوي، أقام عليهم الحجة بالسرقة، فقد تذكروا وعدهم لأبيهم بالحفاظ على أخيهم؛ فراحوا يستعطفون العزيز - يوسف - أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم، مبرِّرين استعطافهم من جهةٍ بكبر سنِّ أبيهم ﴿ شَيْخاً كَبِيراً ﴾ [يوسف:78] الذي لن يتحمل صدمة ضياع ابنه الثاني، وبمدح العزيز ووصفه بالإحسان من جهةٍ أخرى، ونلاحظ هنا أن حجة إخوة يوسف في استعطافهم للعزيز قائمةٌ أساساً على تجنيد الجانب الوجداني عند العزيز؛ لعله يلين ويستجيب لاستعطافهم، ولكنَّ ردَّ العزيز كان منطقياً وعقلانياً؛ إذ رفض استعطافهم مبرِّرا ذلك بإقامة العدل؛ إذ ليس من العدل أن يأخذ شخصاً ما بجريرة شخصٍ آخر، وكيف يقام العدل إذا أُطلق (المجرم) الذي ثبتت عليه (السرقة)، وسُجن (البريء)؟!.


ألجم منطق العزيز ألسنة الشبان الذين أصيبوا بإحباط شديد، وفقدوا الأمل في إقناع العزيز واسترجاع أخيهم؛ فأخذوا يتناجون فيما بينهم ويتشاورون، فالموقف صعبٌ ومحرجٌ بالنسبة إليهم للغاية، سواءٌ أمام العزيز، أم أمام أبيهم الذي أخذ منهم مَوْثِقاً في عدم التفريط في أخيهم؛ وقد ذكَّرهم بهذا المَوْثِق أخوهم الأكبر، كما ذكَّرهم بتفريطهم في يوسف من قبل؛ إذ إن التفريط في أخيهم هذا سيضاف إلى تفريطهم في يوسف من قبل، مما سيُفقد مصداقيتهم عند أبيهم، ولذا أصرَّ أخوهم الأكبر على البقاء في مدينة العزيز؛ حتى يتلقى إذناً من أبيه بالمغادرة، أو يجعل الله له أمراً، وهو خير الحاكمين. ويطلب منهم أخوهم الأكبر بشيءٍ من الغضب الممزوج بالحزن أن يرجعوا إلى أبيهم، ويرووا له ما حدث بالضبط؛ قولوا لأبيكم: إن ابنك قد سرق ونحن نشهد على ذلك فقد أُخرج الصِّوَاع من رَحْلِه أمام أعيننا. وقولوا له: إن لم تصدِّقنا فاسأل القافلة التي جئنا فيها، واسأل أهل المدينة. وقولوا له أيضاً: لقد آتيناك مَوْثِقًا من الله أن نحافظ على أخينا، ولكنَّنا لم نكن نعلم الغيب، ولم نكن ندري بأنه سيسرق صِوَاع الملك، واشرحوا له أن هذه الحقائق كلها شهادات على صدقنا، وأنني قد بقيت هنا في انتظار أوامره؛ التزاماً بالعهد الذي عاهدناه عليه.


فكيف كان ردُّ فعل النبي يعقوب - عليه السلام - أمام هذا الخَطْب الجليل؟ ها هو ابنه الثاني يضيع منه كما ضاع يوسف من قبل، وسبب الضياع تهمة السرقة، وأي سرقة؟ سرقة صِوَاع الملك الذي أخرج من رَحْلِه أمام الملأ. ولا شك، أن الخبر طارت به الركبان، وانتقل من فاهٍ إلى فاهٍ، ومن قافلةٍ لقافلةٍ، ومن قبيلةٍ إلى أخرى.


ورغم تأكيد أبنائه لصدقهم؛ فإن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يصدِّقهم، واتهمهم بأن أنفسهم قد دفعتهم ليدبِّروا مكيدةً لأخيهم، كما دبَّروا مكيدةً ليوسف من قبل، ولكن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يجد دليلاً على اتهامهم؛ فاكتفى بالإشارة ملتجِأً إلى الصبر الجميل، متيقِّناً بأن الله - تعالى - سيجمعه مع ابنَيْه، كما يقتضي علمه وحكمته.


لم يجد النبي يعقوب - عليه السلام - بُدّاً من الابتعاد عن أبنائه؛ فقد أصبح لا يطيق الموقف، واستولى عليه الحزن الشديد (الاكتئاب)؛ بل أصيب بصدمة شديدة من الإحباط والاكتئاب أثرت في عينيه؛ فكُفَّ بصره، لعجزه عن التعبير الصريح عن ألمه، وتفريغ شحنات غضبه وحزنه جرَّاء تصرفات وأقوال أبنائه، وقد أدَّى به كبت انفعالاته إلى إصابته بكفِّ البصر، وفي هذا دليلٌ واضحٌ على كيفية تأثير الجانب الانفعالي في الجانب الجسمي - الحزن الشديد والعمى في هذه الحالة. وفي هذه الحالة إشارة إلى أن كبت الانفعالات قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية - جسمية ( اكتئاب، عمى، قرحة... الخ)، وليس الكبت الجنسي فقط هو الذي يؤدي إلى الاضطرابات النفسية، مثل العمى الهستيري، أو الشلل الهستيري، كما ادَّعى ذلك فرويد في (نظرية التحليل النفسي).


وفي الواقع؛ فإن حزن يعقوب - عليه السلام - كان شديداً وطويلاً إلى حدٍّ بَالَغَ فيه بعض المفسرين؛ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره" - مثلاً - يصف حزن النبي يعقوب، وطول مدته:

"الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض؛ فكأنه حدث من الحزن. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: أنه سأل جبريل - عليه السلام -: ((ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟)) قال: وَجْدُ سبعين ثكلى. قال: ((فما كان له من الأجر؟)) قال: مائة شهيد، وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قطُّ" [6، ص339]. وبعد أن يورد الزَّمَخْشَرِيُّ هذه الرواية دون مناقشة مدى صحتها عقلاً ونقلاً، وخاصةً فيما يتعلق بعدد سنوات الحزن، انتقل إلى مناقشة الحالة النفسية للنبي يعقوب؛ فقال: "فان قلتَ: كيف جاز لنبيِّ الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلَغ؟ قلتُ: الإنسان مجبولٌ على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حُمد صبره، وأن يضبط نفسه؛ حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.


ولقد بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدَه إبراهيم، وقال: ((القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الربَّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون)). وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب" [6، ص497].


ومما جاء في "الكشاف" أيضاً بخصوص موقف الرسول - صلي الله عليه وسلم - من الانفعالات: أنه قيل له - عليه الصلاة والسلام -: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ((ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتَيْن أحمقَيْن: صوت عند الفرح، وصوت عند التَّرَح)) [6، ص498].


وقد تفطَّن أبناء يعقوب لما يعانيه أبوهم من حزنٍ شديدٍ، ولما قد ينجرُّ عن ذلك من اضطرابات؛ بل ومن هلاك: ﴿ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ [يوسف:85]. فما كان جواب يعقوب - عليه السلام - على تعليق أبنائه؟ لم يرد النبي يعقوب - عليه السلام - أن يشكو حزنه وألمه الشديد لأبنائه، مقتصراً في ذلك على الله - تعالى - ذلك لأنه قد علم من الله - تعالى - ما لم يكن أبناؤه يعلمون، فماذا كان يعقوب - عليه السلام - يعلم من الله - تعالى -؟


أمر يعقوب - عليه السلام - أبناءه أن يذهبوا يتحسَّسوا أخبار يوسف وأخيه، مما يدل على اعتقاده الجازم بأن يوسف ما يزال حيّاً، وأن الله - تعالى - سيجمعه معه ومع أخيه؛ ولم يكتف النبي يعقوب - عليه السلام - بإصدار الأمر؛ بل أوصى أبناءه ألاَّ يصيبهم اليأس في البحث عن يوسف وأخيه، والحصول عليهما؛ إذ ليس من صفات المؤمنين اليأس من رَوْح الله؛ فالله رحيم كريم. وهنا يفتح النبي يعقوب - عليه السلام - أمام أبنائه باب التفاؤل بدلاً من التشاؤم، وطريق الخير بدلا من الشر، وسبيل الأخذ بالعزيمة والأسباب بدلاً من التخاذل، والإحباط، وروح الهزيمة والتواكل، رغم ما كان يعانيه.


وجهز أبناء يعقوب - عليه السلام - بضاعتهم ليقصدوا عزيز مصر مرةً أخرى للمقايضة، والحصول على صدقاته، ودخلوا على العزيز على خجلٍ واستحياء، وهم يشكون إليه الضُّرَّ الذي مسَّهم وأهلهم جرَّاء الجدب والقحط، وعرضوا عليه بضاعتهم، راجين منه أن يتصدَّق عليهم، وهم يدعون الله له أن يجزيه خير جزاء.


وحان الوقت الذي ينبغي أن يكشف فيه العزيز عن سرِّه لأبناء يعقوب - عليه السلام - ففاجأهم بقوله: ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [يوسف:89]. لم تكن المفاجأة في سؤال العزيز عن يوسف وأخيه فقط؛ بل في صيغة السؤال؛ حيث وجَّه إليهم سؤالاً استنكاريّاً، قرن العزيز فيه بين يوسف وأخيه من جهة، ووصف فيه سلوكهم بالجهل من جهة أخرى، ولعل صيغة السؤال ومؤشرات أخرى - قد تكون غير لفظية - هي التي نبَّهت أبناء يعقوب - عليه السلام - إلى أنهم بحضرة أخيهم يوسف.

ورغم المفاجأة الشديدة التي صعقتهم، فقد راحوا يتأملون بتمعن وجه العزيز، ويتبادلون النظرات وهم يهمسون، و﴿ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ﴾ [يوسف:90]!!! ولمراقب هذا المشهد أن يتصور مدى الانفعال الشديد الذي أصاب إخوة يوسف جرَّاء المفاجأة، وجرَّاء انكشاف الحقيقة أمامهم، ولا شك أن ألسنتهم قد شُلَّت للحظات، وانسحب الدم بسرعة من وجوههم الشاحبة، ودقَّت قلوهم بسرعة فائقة، وارتجفت أوصالهم فَرَقاً وخجلاً من فعلهم الشنيع مع يوسف، وترقُّباً للخطر الذي أحدق بهم؛ فطأطؤوا رؤوسهم خوفاً وخجلاً.


احتفظ العزيز بهدوئه المعتاد، وأكدَّ لهم أنه هو يوسف ومعه أخوه، شاكراً نعم الله عليهما، مذكرا إياهم بأن التقوى والصبر هما وسيلتان للحصول على الأجر والثواب من عند الله، وتنبغي الإشارة هنا إلى اقتران التقوى بالصبر، مما يدل على الارتباط القوي بين الصفتين، وتأثيرهما في السلوك عند ارتباطهما.


وهذا الارتباط يدلنا على أن الصبر الحقيقي هو القائم على التقوى والإحسان، وليس الصبر القائم على الانهزام النفسي، والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنك تعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يراك، وإذا كنتَ في موقف البلاء والامتحان؛ فإنك تعتقد جازماً بأنه يراك ويرعاك. ويعضد هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق:2-3].


ويدلنا أيضاً هذا الارتباط بين التقوى والصبر على كيفية تأثير الجانب الروحي - التقوى - في الجانب السلوكي - الصبر - وقد تجلى تقوى يوسف في سلوكه مع امرأة العزيز، ونسوة المدينة، وصاحبيه في السجن، وفي تأويله لرؤيا الملك، وفي تسييره لشؤون اقتصاد البلد خلال سنوات الرخاء، وخلال سنوات الكساد الاقتصادي، ويتجلى أيضاً في سلوك يوسف مع إخوته الذين كانوا في موقف ضعف شديد؛ بل وفي موقفٍ مخجلٍ ومخْزٍ، لم يكن أمامهم فيه بُدٌّ إلا الاعتراف بخطئهم، والإقرار بأن الله - تعالى - قد فضَّل يوسف عليهم، وأن هذا الفضل والإيثار ليس من طرف أبيهم؛ بل هو من فضله - تعالى - على يوسف، الذي حباه - تعالى - بأجمل الصفات والسمات الخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة؛ إعداداً له لمواقف صعبة، ومواقع قيادية عالية، ليست المسؤولية فيها هينة.


لم يعمد يوسف إلى تجريح شعور إخوته، كما لم يستغل الضعف الشديد الذي كانوا عليه أمامه؛ بل عمد إلى رفع اللوم عنهم، والدعاء بأن يغفر الله لهم زلاَّتهم، وهو أرحم الراحمين. فانظر كيف قابل القائد العظيم الخطأ بالعفو، و"العفو عند المقدرة"، وكيف بدَّل انفعالاتهم السلبيَّة الشديدة - خوف وخجل - بالدعاء والاستغفار لهم؛ لتطمئن قلوبهم، وتسكن جوارحهم، مذكِّراً إيَّاهم برحمة الله، وهو أرحم الراحمين.

وبعد أن يسكن روعهم، وينالوا قسطاً من الراحة، يطلب يوسف من إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيهم، ويرموه على وجهه؛ ليرتدَّ إليه بصره، كما يطلب منهم أن يحضروا أهلهم أجمعين؛ ليكرمهم ويقرِّبهم إليه، لما في ذلك من صلةٍ للرحم، ولنا وقفةٌ هنا مع قميص يوسف - عليه السلام -.


قميص يوسف:

ما هي العلاقة بين قميص يوسف واسترداد البصر؟ قد يقال: إن القضية كلها تتعلق بمعجزة، وعليه؛ فلا داعي للبحث: لماذا شُفي بصر النبي يعقوب - عليه السلام - بعد إلقاء قميص يوسف - عليه السلام - على وجهه.

ولكنَّ التفسير بالمعجزة وتصديق المعجزات لا يمنع المرء من البحث والاستكشاف؛ فقد حاول مثلاً مختصٌّ في طب العيون بمصر أن يجيب عن هذا السؤال، من خلال إجراء بحث تجريبي؛ لاستكشاف تأثير العَرَق في علاج بعض أمراض العيون، فعزا استرجاع البصر إلى عَرَق يوسف، الذي كان جافًّا على القميص، ولقد وجد هذا الطبيب من خلال البحث التجريبي الذي أجراه أن العَرَق يشفي من بعض أمراض العيون [12].


هذا تصورٌ للعلاقة التي قد تكون بين القميص واسترداد البصر، ومنهجٌ في البحث العلمي قائمٌ على التجريب، ولكن من الممكن تفسير هذه العلاقة تفسيراً آخراً، لاشك أن العرق الجاف في قميص يوسف يحمل رائحةً خاصةً به، يعرفها النبي يعقوب - عليه السلام - تمام المعرفة، وكيف لا يعرفها وقد تعوَّد ضمَّ يوسف إلى صدره؟! ثم إن الشخص الكفيف البصر غالباً ما تكون حاسة الشم عند مرهفة، وكذلك الحواس الأخرى، وعندما شمَّ النبي يعقوب - عليه السلام - رائحةَ القميص، أدرك أن القميص قميص يوسف، وأن الرائحة رائحته؛ فهو إذًا ما يزال حيّاً بالتأكيد، وأنه قد أرسل قميصه إليه كرسالة تُرجع إليه أملُه بقرب لقائه مع يوسف وأخيه.

ولاشك، أن هذه الرسالة كانت بمثابة صدمة إيجابية؛ أي أنها صدمةٌ في الاتجاه المعاكس للاكتئاب الشديد الذي أصيب به النبي يعقوب - عليه السلام - الذي صُدم بفقدان أعزِّ ولديْن لديه، وصُدم - دون شك - بسلوك أبنائه، وأصيب بخيبة أملٍ شديدةٍ جرَّاء سلوكهم الذي حركته انفعالات سلبيَّة شديدة، تمثلت في الغيرة من يوسف، وحقدهم على أبيهم؛ اعتقاداً منهم بأنه كان يفضِّل يوسف عليهم.


وقد حاول بعض المفسرين تفسير تأثير القميص في بصر النبي يعقوب بعوامل أخرى، حيث أورد الألوسي مثلاً عدة روايات، مفادها أن هذا القميص هو القميص المتوارث عن إبراهيم - عليه السلام - والذي كان في تعويذ يوسف، وأنه من قُمُص الجنة، وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله - تعالى. أو أنه كان القميص الذي قُدَّ من دُبُر [ 13، ص52].

وأورد الألوسي أيضاً: أن عودة البصر إلى النبي يعقوب "ليس إلا من خرق العادة، وليس الخارق بدعاً في هذه القصة" [ 13، ص55]. ويروي الألوسي تفسير ابن عباس الذي يتمثل في أن الله - تعالى - أشمَّ النبيَّ يعقوب ما عبق بالقميص من ريح يوسف - عليه السلام - من مسيرة ثمانية أيام، وفي روايةٍ عن الحسن: من مسيرة ثلاثين يوماً، وقيل: عشر ليالٍ [ 13، ص53]. وروى بعضهم - كما أورد الألوسي ذلك أيضاً - أن الريح استأذنت في إيصال عرق يوسف - عليه السلام - فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد: "صفقت الريح القميص؛ فراحت رواح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب - عليه السلام - فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص؛ فقال ما قال" [13، ص53].


ومما يلاحظ هنا أن الألوسي نفسه قد أورد تفسيراً نفسياً لطيفاً لعودة بصر النبي يعقوب - عليه السلام - حيث قال: " أنه - عليه السلام - انتعش حتى قويَ قلبه وحرارته الغريزية؛ فأوصل نوره إلى الدماغ، وأدَّاه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يَهُبُّ عليهم من المعشوق، كما قال الشاعر:

وَإِنِّي لأَسْتَشْفِي بِكُلِّ غَمَامَةٍ ♦♦♦ يَهُبُّ بِهَا مِنْ نَحْوِ أَرْضِكِ رِيحُ


وقال آخر:

أَلاَ يَا نَسِيمَ الصُّبْحِ مَا لَكَ كُلَّمَا
تَقَرَّبْتَ مِنَّا فَاحَ نَشْرُكَ طِيباَ
كَأَن سُلَيْمَى نُبِّئَتْ بِسِقَامِنا
فَأَعْطَتْكَ رَيَّاهَا فَجِئْتَ طَبِيباَ


[ 13، ص55 ].



وأورد الألوسي أيضاً تفسيراً طبيّاً للظاهرة، وإن كان لا يتفق مع هذا التفسير الطبِّي، حيث قال: "يمكن أن يقال: لعل يوسف - عليه السلام - علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب؛ فإذا أُلقي عليه؛ فلابد أن يشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوى الروح، ويزيل الضعف عن القوى؛ فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان، فهذا القدر ما يكفي معرفته بالعقل؛ فإن القوانين الطبية تدل على صحته، وأنا لا أرى ذلك" [ 13، ص53].


لم يناقش الألوسي مختلف التفاسير التي أوردها، ولم يتعرَّض إلى مدى موافقتها للمنطق أو للتجربة، بل اعتبر أغلبها - إذا استثنينا التفسير الأخير الذي لم يتفق معه - من باب الخوارق. والسؤال إن كان الأمر كما أوردتْ ذلك بعض التفاسير: لماذا لم تصل رائحة يوسف إلى النبي يعقوب - عليه السلام - من قبل، عندما كان يوسف في الجُبِّ، أو في السجن، أو حتى بعد خروجه من السجن؟ والسؤال الآخر الذي قد يُطرح: لماذا أغفل المفسرون ما ورد في الآية من ضرورة إلقاء القميص على وجه النبي يعقوب ليرتدَّ بصيراً؟


وقد يطرح هنا سؤال مُفاده: كيف عرف يوسف أن إلقاء قميصه على وجه أبيه سيُرجع إليه البصر؟ والجواب: أن ذلك قد يكون بالوحي، كما قد يكون نتيجة الخبرات الطبية والنفسية المعروفة آنذاك. ومهما يكن؛ فإن العلاج لحزن النبي يعقوب - عليه السلام - كان علاجاً (نفسياً - فسيولوجياً)، تمثَّل في استعمال الروائح (ريح يوسف)، وفي صدمةٍ قويةٍ تمثلت في إلقاء قميص يوسف على وجه يعقوب - عليه السلام - ولنتذكر أن إخوة يوسف قد أحضروا قميصه إلى أبيه وهو ملطخ بالدماء.

وقد يسند هذا الافتراض ما جاء في تفسير الألوسي أيضاً: أن أحد إخوة يوسف أصر على أن يكون هو حامل قميص يوسف إلى أبيه، حيث احتج بقوله: "قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص التَّرْحَة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفَرْحَة. فتركوه" [ 13، ص54].



وبعد هذه المناقشة البسيطة، قد يُكتفى بالقول بأن الموضوع كله لم يكن إلا معجزةً من الله - تعالى - ولا شك.


والظاهر من النص القرآني، أن النبي يعقوب - عليه السلام - كان ذا حاسة شمٍّ مرهفةِ جدّاً؛ إذ شم رائحة يوسف قبل إلقاء القميص على وجهه، حيث جاء في هذا المعنى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف:94]. ولا عجب أن تكون لدى بعض الأشخاص - وخاصة مكفوفي البصر والسمع - حاسة الشم قوية، خاصةً في بيئة جوها غير ملوث؛ حيث يكون انتشار الروائح أسرع وأشمل، وهذا معروف بالملاحظة. وعلى كلٍّ؛ فإن هذه الاجتهادات لا تنفي وجه المعجزة في هذا الشأن، وأن الله على كل شيء قدير.

ولكن جلساء يعقوب شكَّكوا في إحساسه، واتهموه بالضلال، غير أن مجيء البشير وإلقاء القميص على وجه النبي يعقوب - عليه السلام - وارتداد بصره إليه أدهشهم؛ فأخذوا يحملقون فيه، وهم لا يكادون يصدِّقون ما يرونه بأعينهم. أما سرور النبي يعقوب - عليه السلام - بالبُشْرَى فلا يمكن قياسه إلا قياساً كيفيّاً، تجلَّى في استرداد البصر بعد سنين طويلة من البكاء والحزن، حتى ابيضَّت عيناه، وهذا يدلنا على أن الأنباء السارة والبشائر العظيمة قد تفعل في الجسم ونفسية الإنسان ما لا يمكن تصوره، من ردود الأفعال، وأنماط السلوك المختلفة كاسترجاع البصر بعد العمى، واسترداد النطق بعد البكم، والحركة بعد الشلل.


ولكن سرور النبي يعقب - عليه السلام - لم يمنعه من تذكير أبنائه بما قال لهم سابقاً، بأنه قد يعلم من الله ما لا يعلمون، ولم يكن ذلك - بالتأكيد - إلا وحياً، وأمام الدليل الذي قام أمام أعينهم؛ لم يتمالك أبناء يعقوب إلا الاعتراف بذنوبهم وأخطائهم؛ فترجُّوا أباهم بحرارة أن يستغفر الله لهم. ولك عزيزي القارئ أن تتصور مدى الشعور بالذنب الذي أحس به أبناء يعقوب جرَّاء أخطائهم، فتجلَّى شعورهم هذا في الكلمات التي استعملوها؛ حيث قالوا: ﴿ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف:97]. فاعترفوا بالأخطاء وبالذنوب والشعور بالذنب، ولولا هذا الشعور ما طلبوا من أبيهم أن يستغفر الله لهم، لكنَّ طلبهم هذا وطلبهم من يوسف ذلك من قبل - ولا شك - كان سبيلاً للتخلص من الشعور الشديد بالذنب والخجل.

وإذا كان الاعتراف في القانون هو سيد الأدلة؛ فإنه من الناحية النفسية يخلِّص النفس البشرية من الصراع الذي قد تقع فيه، ومن الشعور الشديد بالذنب الذي يعذبها أشد العذاب، قد يتجاوز أي نوع من أنواع التعذيب الذي قد يتعرض له المذنب لو أقرَّ واعترف بذنبه، وإذا كان بعض المذنبين يعترفون بذنوبهم؛ للاستفادة من الظروف المخفَّفة نتيجة الاعتراف، فإن بعضهم يعترفون بذنوبهم لإراحة ضمائرهم - أولاً وقبل كل شيء - من العذاب النفسي الذي يعانونه.


وحزم النبي يعقوب - عليه السلام - أمتعته القليلة فوق جماله الهزيلة، ويمَّم وجهه شطر مصر مع أبنائه؛ للالتقاء بيوسف وأخيه، ويصلون إلى مصر منهوكي القوى بعد سفرٍ مُضْنٍ عبر صحارٍ وأراضٍ جرداءَ مقفرةَ.

وصل خبر وصولهم إلى العزيز، فيخرج مع أخيه وحاشيته لاستقبال أهله أحسن استقبال، ويُجلس أبوَيْه على أريكتين فخمتين، ولا يتمالك النبي يعقوب - عليه السلام - وحرمه وأبناؤه أنفسهم دون السجود للنبي يوسف - عليه السلام - لما رأوه من عظمة المُلْك، وجلال الموقف، وروعة المكان، وبديع الفنون، وحرارة الاستقبال. كما لم يتمالك يوسف - عليه السلام - نفسه من التعبير عن سروره، وشكره لله - تعالى - على ما حباه به من التفضيل، والمنزلة الرفيعة، والدرجة العالية؛ فذكَّر أباه برؤياه، ملمِّحاً إلى تأويلها بالموقف الذي وجدوا أنفسهم جميعا فيه، وهل هناك أحسن من وقوع الرؤيا كحقيقة تُرى بعد أن كانت نبوءة في عالم الغيب؟! وراح يوسف يعدِّد نعم الله - تعالى - عليه وعلى أهله، والتي تمثلت في:

• تحقُّق رؤياه التي رآها في طفولته.

• إخراجه من السجن بعد أن كادت له امرأة العزيز.

• مجيء أهله من البدو إلى الحضر، واجتماعه بهم.

• فشل الشيطان في الإيقاع والتفريق بينه وبين إخوته.


ولم يُغفل النبي يوسف - عليه السلام - بعد الحمد والشكر عن الدعاء بحسن الخاتمة؛ حتى يتوفاه الله مسلماً، ويلحقه بالصالحين من الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً.

كل هذه الأحداث التي شكَّلت قصة يوسف - عليه السلام - والابتلاء الذي مرَّ به خلال مختلف مراحل حياته؛ في طفولته عندما ألقى في الجُبِّ، وفي شبابه عندما افتتنتْ به امرأة العزيز، وكادت أن توقعه في حبائلها، ووضعه في السجن لرفضه الرضوخ لشهواتها، وفي رجولته عندما تولى تسيير اقتصاد مصر خلال سبع سنوات من الرخاء، ثم خلال سبع سنوات أخرى من الكساد الاقتصادي، عبارةٌ عن دروسٍ وعبرٍ لمن أراد أن يعتبر.

ولا شك أن السنوات التي قضاها يوسف - عليه السلام - في الحكم والتسيير قد مكَّنت يوسف من إقامة العدل والقسط بين الناس، ومحاربة الفساد والمحاباة، والظلم والعدوان، واللامبالاة، لقد كانت سنواتٌ لإرساء القيم الإيجابيَّة، وقلع جذور الممارسات السلبيَّة، وإعلاء كلمة الله، والإحسان إلى عباده.


هذه الأحداث كانت من أنباء الغيب التي لم يطَّلع عليها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي، الذي شكل المصدر المعرفي الوحيد لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وإلا لكانت الإسرائيليات قد طغت على معارفه، ولشوَّهت قصصه ورواياته.

وتأتينا قضيةٌ هامةٌ بعد هذه القصة، تكررت كثيراً في القرآن الكريم، وهي إقرار حقيقة، وهي أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وأن أكثرهم لا يشكرون، وأن أكثرهم لا يعلمون، وقد تكرر هذا التأكيد عدة مرات في القرآن الكريم، ويعضِّد هذا التكرار ما يُلاحظ بخصوص أغلبية سلوك الناس في هذه القضايا.


وقد جاء هذا التأكيد على موقف أغلبية الناس، ولو حرص النبي على إيمانهم، وقام بدعوتهم على أحسن ما يرام؛ فالقصة كلها عبرةٌ لمن أراد أن يعتبر من أولي الألباب، ولم تكن هذه القصة مفتراةٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أميناً، ولو كان من الذين اطَّلعوا على قصص التوراة والإنجيل؛ لجاءت روايته: إما مفتراةً كما افترى بنو إسرائيل وغيرهم على أنبيائهم، وإما مشوَّهةً يغلب عليها الخيال الجامح البعيد عن حقيقة الأحداث التي وقعت فعلاً ليوسف - عليه السلام - في مختلف مراحل عمره، ولحقيقة الأحداث من رخاء وكساد، التي حدثت في تلك الحِقْبة التاريخية.


ولعل هذه الرواية الصادقة التي صدرت عن مصدر معرفي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تصديقٌ للوحي الذي صدر من ربِّ العالمين للأنبياء والرسل - عليهم السلام - قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - عبر مراحل التاريخ.

وليس الهدف الخالد لهذا الوحي إلا إرساء دعائم الهدى والرحمة للمؤمنين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


خلاصة:

ماذا يُستخلص من قصة يوسف - عليه السلام - في القرآن الكريم؟

القصة والسورة - بصفة عامة - غنية بالعظات والعبر، كما أنها غنية بالسنن والمواضيع النفسية وغيرها، الجديرة بالبحث العلمي، مثل موضوع الرُّؤَى، وعوامل الاكتئاب، ودور العامل الروحي في علاج الاكتئاب، وعلاج الاضطرابات (النفسية - الجسمية) علاجاً نفسياً وروحياً. ومهما يكن؛ ففيما يأتي بعض ما يمكن أن يُستخلص من هذه القصة:

1 - ابتلاء الأنبياء والأخيار، واختبارهم في مواقف متباينة، كأن يكون الابتلاء مرةً في مواقف الشدة - الضعف والحزن مثلاً - ومرةً أخرى في مواقف الرخاء - القوة والسرور.



2 - تعرُّض الأنبياء والأخيار إلى الظلم من ذوي القربى، وذوي الجاه والسلطة، وأن هذا التعرُّض قد يقع جرَّاء سنن التدافع بين الأفراد والمجتمعات.



3 - لا يعني طول الابتلاء اليأس من روح الله - تعالى.



4 - الانفعالات والجانب الوجداني بصفة عامة جزءٌ أساسٌ في الطبيعة البشرية.



5 - تأثير الجانب الوجداني في السلوك، سواء كان هذا السلوك نشاطاً ذهنياً أم جسمياً، وقد يصل هذا التأثير إلى حدِّ تعطيل بعض وظائف الأعضاء.



6 - لا يدلُّ وقوع الظلم على الأخيار والأنبياء وطول مدته على انتصار الظلم على العدل، والباطل على الحق؛ فإن الله تعالى يُمْهل ولا يُهْمل.



7 - انتصار الحق على الباطل، والعدل على الجور، والخير على الشر، مهما طال الزمان، وساد الظلم والطغيان.



8 - العفو عند المقدرة من عوامل استتباب الأمن والعدل.



9 - القيادة الصالحة والفعالة شرطٌ أساسٌ لتسيير البلاد والعباد في الشدة والرخاء، وتحقيق العدل والنماء.



10 - انطباق سنن الطبيعة البشرية، وقوانين التدافع بين الناس على الأنبياء والأخيار، وإن كان الوحي يوجِّه الأنبياء والرسل ويعصمهم.



11 - أكثر الناس لا يشكرون نعم الله - تعالى - وفضائله عليهم؛ فكيف يشكرون غيرهم من الناس إن كانوا لله لا يشكرون؟!


المراجع:

1 - ابن نبي، مالك. الظاهرة القرآنية. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1984م.

2 - الغزي، عبد الله العلمي. مؤتمر تفسير سورة يوسف. ط1. دمشق: مطابع دار الفكر بدمشق، (1381 هـ / 1961م).

3 - ابن كثير، إسماعيل القرشي. تفسير القرآن العظيم، الرياض: دار طيبة، (1999م).

4 - الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. جـ2. القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (1954م).

5 - الرازي، محمد فخر الدين. التفسير الكبير. القاهرة: دار الفكر، د. ت.

6 - الزمخشري، جاد الله محمود بن عمر. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. جـ2. بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت.

7 - سيد. في ظلال القرآن. جـ4. ط5. بيروت: دار إحياء التراث العربي، (1386هـ/ 1967م).

8 - عشوي، مصطفى. " الجنوح في ضوء علم النفس ". حوليَّات جامعة الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2 (1992م)، 20 - 45.

9 - الصابوني، محمد على. صفوة التفاسير. جـ2. طـ4. بيروت: دار القرآن الكريم، 1402هـ/ 1981م.

10 - ابن نبي، مالك. شروط النهضة. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1996م.

11 - الإسكندري، ناصر الدين أحمد بن المنير. الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت.

12 - "براءة اختراع دولية لأول قطرة عيون قرآنية". مجلة الإعجاز العلمي، (1979م)، 3 - 5.

13 - الألوسي، أبو الثناء شهاب الدين. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت.


مصطفى مولود عشوي


الساعة الآن 04:10 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام