رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة التَّاسعة عشرة: الصُّلح خير
قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
وردت القاعدة التي تتضمّنها هذه الآية الكريمة، في سياق المشكلات التي تطرأ بين الزوجين، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وفي هذه القاعدة من الدِّلالات ما يستحقُّ الوقوف أمامه والتَّنويه به.
من أولى دلالات هذه القاعدة، أنَّ الإسلامَ يتعاملُ مع واقع الأسرة كما هو، لا يفترضُ فيه المثاليَّة والكمال، ولا يُسيء الظَّنَّ به ويصمه بالضَّعف والهوان، بل يراه كما هو كيانٌ متفرِّد، يعرض له النّقص لكنّه قابلٌ للرُّقيِّ في مدارج الكمال، وبالتالي فلا يخلو بيتٌ من وجود المشكلات، بل لم تخلُ بيوتُ الأنبياء من ذلك، ومنها بيتُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، لم تخلُ من مشكلاتٍ طارئةٍ عارضة، ولكن عندما نجعل القاعدة الكبرى في حياتنا قائمةً على أساسِ أنَّ الصُّلح خيرٌ وأولى من كلِّ نزاعٍ وخصام، فعندئذٍ يكون الوئام قريبًا.
ومن دلالات هذه القاعدة، المستندة إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، أنَّ هذا الصُّلح ينبغي في الأصل أن يُعقد في إطار العلاقة بين الزوجين، وفي سياق استجابتهما للهدايات القرآنيِّة الواردة بخصوص ما يجب على كلٍّ منهما تجاه الآخر، من حفظ الميثاق الغليظ الذي تقوم عليه العلاقة بينهما، فالأصل أن لا تتدخَّل أطرافٌ أخرى لإجراء هذا الصُّلح، إلا في الحالات الاستثنائية، عندما يعجزان عن القيام بذلك، وعندما يُخشى أن يَدِبَّ الشّقاقُ بينهما، كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35]، فلا يلزم بعث الحكمين، ولا أن يدخل بين الزوجين في الأصل أحدٌ، ولا أولادهما، بل ذلك يكون حالة استثناء، ولا ينبغي أن تتكرَّر، ما دام أنَّ الزَّوجين يُدركان معنى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وفي قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، قال العلماء في المقصود بقوله: إن يُريدا إصلاحًا الزَّوجان، وقال آخرون: هما الحَكَمان، وكلاهما صحيح، فلا بدَّ أن يُريد كلٌّ من الزوجين الصلح صادقَيْن في ذلك، وكذلك ينبغي للحكمين، أن يُضمرا صدق النِّيَّة في الإصلاح بين الزَّوجين، وقد ورد أثرٌ عن عمر رضي الله عنه أنه بعث حكمينِ؛ فلم يحدث الصُّلح؛ فعاقبهما، بناءً على أنّ مفهوم الآية، يدلُّ على أنّ التوفيق بين الزّوجين، رهنٌ بإرادة الحكمين ، وروي عن مالكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ فِي الْحَكَمَيْنِ: ”أنَّ إِلَيْهِمَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَالْاجْتِمَاعَ“، قال مالك: ”وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَجُوزُ قَوْلُهُمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فِي الْفُرْقَةِ وَالْاجْتِمَاعِ“.
وبين العفو والصَّفح الذي مرَّ بنا في قاعدةٍ سابقة، وبين الإصلاح علاقةٌ وثيقة، لكنَّهما مختلفان، فالعفوُ والصَّفح يكون بالتَّجاوز كلِّيَّةً من أحد الزَّوجين عن خطأٍ صدر من الطَّرف الآخر، أمَّا الصُّلح فإنَّه عبارةٌ عن اتِّفاقٍ على أمرٍ معين، يؤدّي إلى حلِّ بعض المشكلات الزَّوجيَّة، على أساس أن يتنازل كلٌّ من الطّرفين عن موقفه؛ فيُبرما بينهما صلحًا على هذا الأساس، فعلى سبيل المثال، لو احتاجت الزوجة إلى مبلغٍ من المال، لحاجةٍ لم يرَ الزَّوجُ أهمِّيَّتها، فأصرَّت على موقفها، فليعقدا بينهما صلحًا على أن يعطيها بعض المبلغ، وهكذا فالصُّلح وصولٌ إلى حلٍّ وسط يُرضي الطَّرفين في كلِّ نزاعٍ يختلفان فيه. وحري بنا أن نجعل الصُّلح ديدننا في كلِّ خلافٍ أو اختلافٍ بين الزَّوجين تشاحا فيه بحقوقهما، في كلِّ أمرٍ من الأمور- مظلَّةً يلجأ إليها الزوجان إذا تعذر صفح أحدهما، أصلح الله قلوبنا؛ فإنَّها إذا صلحت، صلحت بيوتنا، والله تعالى أعلم.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة العِشرون: التَّغافل مطلوب
قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
هذه القاعدة، وردت في سياق الحادثة التي تناولتها سورة التَّحريم، وذلك في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]! قال كثيرٌ من المفسّرين، أنَّ هذا السِّياق يتعلَّقُ بأمِّ المؤمنين حفصةَ رضي الله عنها، لما (أسرَّ لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تُخبر بهِ أحدًا، فحدَّثت به عائشةَ رضي الله عنها، وأخبره اللهُ بذلك الخبرِ الَّذي أذاعته، فعرَّفها صلى الله عليه وسلم، ببعضِ ما قالت، وأعرضَ عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحِلمًا).
فَحْوى هذه القاعدة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمّا تبيَّن له ما جرى بين حفصةَ وعائشةَ رضي الله عنهما، من صغوِ قلوبهما نحو ما لا ينبغي لهنَّ، من الورع والأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهي مشكلةٌ واجهت بيت النُّبوَّة، فكان من منهج التَّعامل النَّبويِّ مع هذا الحدث، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بما قالته حفصةُ لعائشة رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}، أي: لم يُعرِّفها بكلِّ ما يعلمه، ففي هذه القاعدة درسٌ لأرباب الأسر، أنَّ أحدهم قد يتبيَّن له في بيته أمرٌ من الأمور، لا يُرضيه، فمن الحكمةِ ومن أجل استقرار البيتِ، ومن أجل السُّموِّ والعلوِّ به، أن لا يذكر من ذلك الأمر، إلا ما يكون لازمًا لعودة الحياة إلى طبيعتها واستقرارها، وممَّا يؤكد أهمية هذا المسلك التَّربويِّ الرَّحيم، أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أعرض عن بعض هذا الأمر، رغم أنَّ الله تعالى هو الذي أطلعه عليه.
فأين نحنُ من هذا المنهج النَّبويِّ التّربويِّ الحكيم، في التّعامل مع المشكلات الأسريّة؟! إنَّ نظرةً عجلى إلى واقعنا، تكشفُ لنا، عن وجود انحرافٍ واضح عن هذه الجادَّة المستقيمة، نحو طَرَفَي الإفراط والتّفريط: فنجد بعض الأزواج، إذا اكتشف وقوعَ شريك حياته، في خطأٍ أو خطيئةٍ كان يجتهدُ في إخفائها؛ واجهه بها، وكشف له عن كلِّ ما يعرفُه عنها، بل قد يتجاوزُ ذلك إلى ما تقودُه إليه ظنونه وأوهامه، غير مبالٍ بما قد يُسبِّبه لأهله أو أولاده، من جُرحٍ نفسيٍّ وإحراجٍ وانكسار. وبالمقابل فإنَّ بعض الأزواج، إذا وقع له ذلك، لم يُبالِ بالأمرِ، ولا يحرَّك له ساكنًا. والمنهج النّبويّ وسطٌ بين الإفراط والتّفريط، وبين الانفعال والبرود، فهو منهجٌ تربويٌّ، ينتبه إلى الخطأ أو الخطيئة، وينبِّه عليها، دون أن يبقى واقفًا عندها، بل يُوجِّه المخطئ إلى أفق التّوبة، ويُذكِّره أنَّ الله تعالى هو الّذي أذِن بكشف ستره، وأنّه وليُّ عباده المؤمنين، كما قال تعالى في شأن حفصة وعائشة رضي الله عنهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
إنَّ المربّي الحكيم، يلجأُ إلى هذا المنهج القائم على الإعراض عن بعضٍ، وإظهار بعض، عندما تدعو إليه الحاجة إلى الإصلاح وتقتضيه، وأمَّا في بعض الأحوال، فالحكمة تقتضي أن يتغافل وليُّ الأمر، ولا يظهر شيئًا، ليس بدافع البرود وعدم المبالاة، بل لداعية الحكمة وبعد النَّظر، فهو سيتغافلُ في هذه اللحظة، لكي يواجه الأمر بوسائل وأساليب أخرى، تكون أكثر تأثيرًا، وأعرفُ بعض الأزواج، إذا دخل بيته وشعر أنَّ في البيت شيئًا لا يرضاه؛ تقهقر إلى الوراء، وأشعر أولاده أنَّه داخلٌ، ولذلك قال الحسن رحمه الله: ”ما استقصى كريمٌ قطُّ“.
إنَّ تغافلَ الزوج عن بعض ما تأتيه الزَّوجةُ، أو تغافلُ الزَّوجة عن بعض ما يأتيه زوجها، أو تغافلهما معًا أو أحدهما عن بعض انحرافاتِ أولادهما، بحيث لا يُخل بالواجب الشّرعي أمرٌ حميدٌ في كثير من الأحيان، وأمّا إذا اقتضى الواجب الشرعي تنبيهًا؛ فإنّه يُقتصر على ما يحقق المطلوب، ويُزيل المخالفة دون توسُّع؛ لأنَّ المراد هو تحقيق الاستقرار والاستقامة على دين الله، لا جرح النفوس وإذلالها! وكثير من النّاس تكفيه الإشارة، وكم تغافل كثيرٌ من الأزواج عن أخطاء زوجاتهم، فعاشوا معهنَّ باستقرار، وقد أخرج أبو داود، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ)، قَالَ الْمَنَاوِيُّ: (وَمَقْصُود الْحَدِيث: حَثُّ الْإِمَامِ عَلَى التَّغَافُل، وَعَدَمِ تَتَبُّع الْعَوْرَات). وروى البيهقيُّ في مناقب الإمام أحمد عن عثمان بن زائدة قال: (العافية عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في التغافل) يقول الراوي: فحدَّثت به أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: (العافية عشرة أجزاء، كلُّها في التَّغافل).
ومن المعلوم أنَّ التَّغافل غير الغفلة، فالغفلة تؤدي إلى الضَّياع وتضييع الأمانة، أما التّغافل فمسلك تربويٌّ حكيم إن استخدم بعقل، كما قال الشّاعر:
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ معاتبًا *** صديقَك لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبه
فينبغي علينا أن نتغافل عن بعض الأمور، انشغالًا بالنَّظر إلى الغاياتِ والأمور المُهمَّات، فاجعلوا هذه القاعدة، ضمن منهجكم في التربية، بل ضمن منهجكم في الحياة كلِّها، فستكون العاقبة هي الخيرُ والصَّفاء، حفظكم الله وأدام مودَّتكم.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الحادية والعشرون: إرضاءُ الزوجةِ حسن في غير معصيةِ
قال الله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
كثيرٌ مِنَ النَّاسِ -وبخاصَّةٍ الأزواجُ- يَفهمُ هذه الآيةَ على غيرِ وجهِها، فيَظنُّ أنَّ طَلبَ رِضَا الزوجةِ لا يليقُ بالرَّجلِ، ويَستدلُ بهذه الآيةِ استدلالًا خَاطِئًا على النَّهِي عَنْ إرضاءِ الزوجاتِ، ويَجعلُها قاعدةً!
والحقُّ أنَّ هذهِ الآيةَ لا يجبُ أنْ تُفصلَ عنْ سياقِها، قالَ تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}؛ أيْ أنَّ من حَرَّم على نفسه ما أحلَّ اللهُ له يبتغي مرضاةَ أزواجِه، وهو أسوة كالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أتى ما لا يَنبغِي له ولا يجوزُ.
ولو أنَّ إنسانًا قال: أنا لا أرغبُ أنْ آكلَ العسلَ أو أنْ أَشْرَبَهُ، فهذا لا يأثمُ بذلكَ حتَّى لوْ لمْ يَشْرَبْه طُولَ عمرِه، لكنْ لوْ أنَّه حرَّمه على نفسِه مِنْ أجلِ رضا زوجِه، وكانت للناس به أسوة فإنَّ الآيةَ تُخاطبُه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}، فلا يجوزُ لَهُ ذلكَ.
ويجبُ أن نُفرِّقَ بين حالَينِ؛ الأُولَى حال بعضِ الرِّجالِ الذينَ -معَ الأسف- يستجيبونَ لطلباتِ زوجاتِهم وإن كانت فيما حرَّم اللهُ، فيُدخِلُ الواحدُ منهم آلاتِ اللهوِ والأغاني في بيتِه، ثمَّ يقولُ: ماذا أَفعلُ؟ أريدُ أنْ أُرْضِيَ زوجَتي! يَذهبُ إلى أماكِنَ محرَّمَةٍ، فإن عُوتِبَ يقولُ: أريدُ رِضا زوجتِي، وهكذا يقعُ في كثيرٍ منَ المخالفات بسببِ طلبِ رضا زوجتِه.
فهنا نقولُ لهذا الرجلِ: لا تبتغي مرضاة أزواج فيما لا يرضى الله! {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} فيما فيه مفسدة! قدْ عاتبَ اللهُ عز وجل نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم لأنَّهُ حرَّمَ على نفسِه ما أباحَه اللهُ له طلبًا لرضا أزواجِه، فكيفَ بمنْ يطلبُ رضا زوجِه بارتكابِ المحرماتِ والموبقاتِ؟ هذا أمرٌ عظيمٌ.
والحالُ الثانيةُ على النقيضِ؛ حيثُ تَطلبُ الزوجةُ منْ زوجِها أمرًا مباحًا مشروعًا، فيقولُ: لا، أنا الذي أُبادِرُ، أمَّا أنتِ فلا أطيعُكِ حتى لا يُعَيَّر في بعض المجالسِ: بأن فلانًا يطيعُ زوجتَه ويبحثُ عنْ رِضاها. فهذَا يَنظرُ لبعضِ الأعرافِ الفاسدةِ ويجعلُ لهَا اعتبارًا، حتَّى إذَا قِيلَ لهُ في مجلسٍ: يا فلانُ! أَتبحثُ عنْ رضا زوجتِك وطاعتِها؟ قال: أبدًا واللهِ!
والحق ُّالذي لا مَحيدَ عنْهُ، أنَّ إرضاءَ الزوجةِ فِيما أباحَ اللهُ تعالى وفيما لا ضررَ فيهِ جائز، بل قد يكون مشروعًا إذا تضمن مصلحة، وهو منْ أهمِّ عواملِ استقرارِ الحياةِ الزوجيَّةِ، فكيف بإرضائِها فيما استحبَّه الله أو أوجبه، وأمَّا إرضاؤها فيما حرَّمه اللهُ فممنوعٌ، هذا هو المنهجُ الوَسَطُ، لا إفراطَ ولا تفريطَ، فلا نُحرّمُ ما أحلَّ اللهُ لنا إرضاءً لزوجاتِنا، ولا نَمتنعُ عنْ إرضاءِ زوجاتِنا خَوْفًا مِنْ عُرفٍ جاهليٍّ باطلٍ، أنْ يُقالَ فلانٌ يَبحثُ عَنْ رضا زوجتِه.
فإذا كانَ البحثُ عنْ رضا الزوجةِ في الحقِّ وِفْقَ ما أباحَ اللهُ تعالى، فضلًا عما شرعَ اللهُ تعالى، قد يكون عبادة وخُلُقًا ممدوحًا بالنظر إلى عاقبته، فكيف بإرضائها في حقوقها، وما يجب لها، وما هو داخل في أمر العشرة بالمعروف؟! ولنَا في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ، فعنْ عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (دَخَلَ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ فَقَالَ لِي: يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَامَ بِالْبَابِ وَجِئْتُهُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى عَاتِقَهُ فَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ. قَالَتْ: «وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا» فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ، فَقَامَ لِي ثُمَّ قَالَ: «حَسْبُكِ؟» فَقُلْتُ: «لَا تَعْجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَتْ: «وَمَا لِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ») ، فأيُّ إرضاءٍ للزوجةِ أكثرُ مِنْ هذا؟
فلا ينبغي لنَا إذًا أن نَفهمَ هذهِ الآيةَ على غيرِ وجهِهِا، ولَا أنْ نَنظرَ للمرأةِ نَظْرةَ احتقارٍ وانتقاصٍ، كما سادَ في بعض الأعرافِ، حتَّى يَشْعُرَ الواحدُ منْهُمْ أنَّه مِنَ الْمذمَّةِ والضَّعفِ والذلِ أن يُقالَ إِنَّهُ يريدُ رِضا زوجتِه، بلْ واللهِ إنَّهُ لمِنَ الكَرمِ والشَّرفِ والقوةِ والعزةِ أنْ يَبْحَثَ الإنسانُ عَنْ رِضَا زوجتِه فيما أباحَ اللهُ، فالعزيزُ من يُعِز زوجتَه والكريمُ مَنْ يُكرمُها، والذليلُ مَنْ يُهينُها بغيرِ حقٍّ.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, القاعدة الثانية والعشرون: التدرجُ في العقوبةِ منهجُ الإصلاح
قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ} [النساء:34].
تضمنتِ الآيةُ الكريمةُ قاعدةً جليلةً لعلاجِ الخَطَأ والخَللِ الذي قَدْ يَظْهرُ مِنَ الزوجةِ، فبيّنتْ أنَّ العلاجَ يكون مرحليًا: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}؛ يعني إذا زاد الخلاف، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}.
لقدْ جاءت التشريعات المتعلقةُ بالحياةِ الزوجيةِ لتحقيق الاستقرار والعدلِ والطمأنينةِ في البيوتِ، وهيَ مقدماتٌ مهمةٌ لتحقيقِ الاستقرار في المجتمع، فلْننتبهْ لتصرفاتِنا بِناءً على ضوء هذه الآيةِ العظيمة.
والآية تُرشِدُ إلى البدءِ أولًا بالوعظِ عند ظهور بوادر النشوز وقبل أن يستفحل الأمر؛ أن يَعِظَها زوجُها ويُخوّفَها باللهِ، فإن انتهتْ فالحمدُ لله، فإنْ لمْ تنتهِ ولم يَنفَعِ الوعظُ فلهُ أنْ يَنْتَقِلَ إِلَى التي بعدها {وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ}.
والهجرُ علَى نوعين:
الأولُّ: أنْ يَمتنعَ عنِ الكلامِ مَعَهَا إلَى ثلاثةِ أيام، وإنْ زادَ علَى ثلاثةِ أيامٍ فلا يَقْطَعُها بالكُليَّةِ، بل يُسلِّمُ عليها ويَردُّ عليها السلامَ، ولكنْ تَجِدُ مِنْ معاملتِه خلافَ ما تَعْهَدُهُ منهُ، من التبسط في الحديث والمعاملة.
والثاني: هَجْرٌ في المضجعِ، أي يكونُ معَها في فرِاشٍ واحدِ لكنَّه لا يُكَلِّمُها ولا يُداعِبُها ولا يقربها، وهذا مِنْ أشدِّ ما يقعُ علَى المرأةِ.
وينبغي التَّنبهُ إلى قولِهِ تعالى: {فِی ٱلۡمَضَاجِعِ}، لَمْ يَقُلْ يهجِّرها من البيت بأن تذهَبَ لأهلِها، ولم يَقُلْ (واهجروهن في البيوتِ)، بَلْ يَبْقَى مَعهَا في بيتِها، يأكلُ ويشربُ، ولكنْ يهجرُها في الفِراش، وفي الفراش فقط! فلا ينامُ في غرفةٍ مستقلةٍ، وإنْ كانَ هذا جائزًا من حيث الأصل، سائغًا أحيانًا، وبخاصة إذا وجد سببه.
فإذا لم يُجْدِ ما سبقَ مِنْ أنواعِ التأديبِ، تأتي المرحلةُ الأخيرةُ، {وَٱضۡرِبُوهُنَّ}، فآخِرُ الدواءِ الكي، ولا بدَّ هنا مِنْ تنبيهاتٍ:
الأول: أنَّ الضربَ المرادَ هو الضربُ غيرُ المُبَرِّح.
الثاني: أنَّ الأمرَ هنا مصروفٌ عنِ الوجوبِ إلى الِإباحةِ.
الثالث: أنَّهُ لا يُنتقلُ لهذا العلاجِ إلا بعدَ فشلِ ما سواه، بل لا يجوز الضرب إلاّ لهذا السبب أو سبب معتبر شرعًا.
إنَّ مِنَ الأمورِ المؤْسِفَةِ، أنَّ فهمَ بعضِ الرجالِ الخاطئَ لمسألةِ القِوامةِ يجعلُهُ يَتعدَّى علَى زوجتِه بضربٍ مُبَرِّحٍ، وقد يضربُها لأقلِّ خطأٍ لا يستدعِي مثله الضربَ، وقدْ يبدأُ بالضربِ مباشرةً دونَ أنْ يكونَ هناكَ تدرجٌ في التأديبِ، وهذا كلُّه خطأٌ، فالآيةُ تُرشِدُ إلى التدرجِ، فالوعظُ أولًا، والوعظُ نفسُه درجاتٌ، فقد يكون رقيقًا وقد يكون شديدًا، بحسب الخطأ، ثم يأتي الهجر وهو درجاتٌ كذلك، وأخيرًا يأتي الضربُ إن ظن فيه صلاحًا.
إنَّ اختيارَ درجةِ التأديبِ المناسبةِ لكلِّ خطأٍ نوعٌ منْ أنواعِ الحكمةِ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]. يقولُ ابنُ القيمِ رحمه الله: ”الحكمةُ فعلُ ما يَنبغي كمَا يَنبغي، في الوقتِ الذي يَنبغي“ . فلا ينبغي أن يُجعلَ مَحلَّ الوعظِ الرقيقِ وعظٌ شديدٌ وعنيفٌ، ولا محلَّ الهجْرِ اليسيرِ هجْرٌ دائمٌ، ولا محلَ الهجرِ الضربُ، ولا أن تُضربَ المرأةُ ضربًا شديدًا مبرِّحًا، كلُّ هذا لا يجوز. بلِ الذي ينبغي هو انتهاجُ سبيلِ الحكمةِ، إذ المقصودُ هو العلاجُ لا الانتقامُ أو إيقاعُ العقوبةِ، وهذا معنىً عظيمٌ جدًا.
وأَذْكرُ في هذا المقامِ حالَ بعضِ منْ أعرِفُهُ من الأزواجِ، يقولُ: إذا وقعتْ مشكلةٌ منْ زوجتي فلا يمكنُ أن أُعاتِبَها وهي غضبانةٌ بلْ أَنتظرُ حتى تهدأَ، فإذا كانتْ في خير حالاتِها لَمَّحتُ للموضوع تلميحًا، فإن لم يُجدِ التلميحُ اضْطُرِرتُ إلى التصريحِ. وقدْ لا أُحدِّثُها مباشرةً، إنما أَنتظرُ يومًا أو يومين أو أسبوعًا، بلْ قدْ أنتظرُ -واللهِ- الشهرَ والشهرين والسنةَ، حتى يحينَ الوقتُ المناسِبُ لوعظِها في الموضوعِ، رَغْمَ أنَّه قدْ يكونُ أمرًا كبيرًا، بشرطِ ألا يُفَوِّتَ تأجيلُ الكلامِ مصلحةً ولا يُسبِّبُ ضررًا، يقولُ: والذي يُصبِّرني هذه المدةَ أنني أريدُ علاجَ الموضوعِ كي لا يتكررَ، فليسَ همِّي أنْ أُقيمَ الحجةَ عَليها، وبحمدِ اللهِ فإنَّه بهذه الطريقةِ قلّ أنْ يتكررَ الخطأُ. وبهذا استقامتْ حياتُهمْ واستقرَّتْ، واستقرَّتْ حياةُ أولادِهم أيضًا، لما يرون من والديهم، بل سمعت بعض أبناء طلاب العلم، وقد تجاوز العشرين سنة يقول: لم نسمع والدينا يعاتب أحدهما الآخر أمامنا أبدًا.
ومِنَ الحكمةِ أيضًا مَا أَعرِفُهُ عنْ بعضِ الأزواجِ، يقولُ: واللهِ لا أَذكُرُ أنني عاتبتُ زوجتي أمامَ الأولادِ أبدًا، ولا أنها عاتَبَتْني أمامَهم أبدًا. وهذا لا يَعني أنهما لا يَقَعانِ في الخطأِ أمامَ الأولادِ، لكنَّه اتفاقٌ بينهما غيرُ مكتوبٍ، ألَّا يُعاتِبَ أحدُهما الآخَرَ أمامَ الأولادِ؛ لأنَّ العِتابَ أمامَ الأولادِ، والخلافَ والشّجارَ أمامَهم يُحْدِثُ لديهم رَدَّةَ فعلٍ نفسيةً غيرَ مناسبةٍ، وهما في النهايةِ يُريدانِ علاجَ المشكلةِ لا إحداثَ مشكلةٍ جديدةٍ، فَيَبْحثانِ عنِ الوقتِ المناسبِ للكلامِ والعتابِ في حالةِ صفاءٍ، وفي خَلوةٍ بَعيدًا عنِ الأولادِ.
إنَّ قدوتَنا صلى الله عليه وسلم الذي أُوحِيَ إليهِ بهذهِ الآيةِ وَعَظَ وهَجَرَ، لكنّه لمْ يَضربْ صغيرًا وَلا كبيرًا وَلا رجلًا وَلا امرأةً قطّ، إلّا ما كانَ في المعاركِ منْ قتالِ الكفارِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ. وقدْ وقعتْ في بيته -بأبي هو وأمي- مشكلاتٌ، فوعظَ فيها وذكَّرَ، ووقعَ فيه ما جَعلَه يَهْجرُ أزواجَه شهرًا، لكنّه صلى الله عليه وسلم لمْ يَضْربْ أبدًا، بلْ حتَّى في قضيةِ المُتظاهِرَتينِ – وهِيَ قضيةٌ عظيمةٌ جدًا- لمْ يضربِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بلْ إنَّه لمْ يَضرِبْ خادِمَه كمَا ذَكَرَت عائشة رضي الله عنها، فهذا خُلُقُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي أَثنىَ اللهُ عليهِ بقولِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیم} [القلم:4]، فينبغِي لنا التأسِّي به. ثمَّ إنَّه عِنْدَمَا رَخّصَ بِضَرْبِ النساءِ عَلِمَ بِشكْوَى بعضِهنَّ منْ ضَرْبِ أزواجِهنَّ فقالَ: (لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ) .
فالرجلُ مثلًا عندَه مِنَ القوةِ مَا يَجعلُه قادرًا علَى أنْ يكدحَ ويعملَ الساعاتِ الطوالَ، أمَّا المرأةُ فلَا؛ لذا تأتي المرأةُ العاملةُ إلى البيتِ مُرْهَقةً مُتعَبةً، بينما يأتي الرجلُ الذي يقومُ بنفسِ العملِ وهو نشيطٌ، بلْ ربّما يَستطيعُ أنْ يُواصِلَ ساعاتٍ وساعاتٍ، فالبنية الجسمية والنفسية تساعده على ذلك، {وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ}. وأيضًا فإنّ مِنْ خصائصِ المرأةِ أنَّ لها حالاتِ ضعفٍ خاصةً بها، كالطَمْثِ والنِّفاسِ، فهذا مما ينبغي مراعاتُه.
وعندما يطلبُ الرجلُ مِنْ زوجِهِ شيئًا ليسَ مِنْ خصائصِها، فمِنْ حقِّها أنْ تقولَ: هَذا فَوْقَ طاقتي وليسَ مِنَ أعمالي، فما خُلقتُ لهذا {وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ}.
وكذلكَ الرجلُ، قد تُطلبُ منْهُ بعضُ الأعمالِ وهيَ ليستْ مِنَ شاكلته ولا تُناسِبُ خَصائصَه، فمِنْ حَقِّه أنْ يَقوْلَ: هذا ليسَ منْ عَملي، ولا يُناسِبُ خصائصِي، وَهوَ مِنْ عَملِ المرأةِ ويُناسبُها.
فالآيةُ إذن تُثْبِتُ حقوقًا وخصائصَ للرجلِ وحقوقًا وخصائصَ للمرأةِ، وعلَى كلًّ منهما أنْ يستخدمَ خصائصَه فيما خُلقتْ له، ولا يُطالِبَ الآخرَ بِما يُخالِفُ خصائصَه، فكلٌّ مُيسرٌ لمِا خُلِقَ لهُ.
فإذا فهمنا الآيةَ بهذا الفهمِ، وعَمِلْنا بهذهِ القاعدةِ، تحققتِ السعادةُ والهناءُ -بإذنِ اللهِ- ونكونُ قدْ استخدمنا الحكمةَ في موضعِها الصَّحيحِ.
ومِنَ المهمِّ هنا التنبيهُ إلى الفَرقِ بين العدلِ بينَ الرجلِ والمرأةِ وبينَ المساواةِ بينهما؛ فالغربيونَ -وَمَنْ تابعَهم- يدَّعونَ المساواةَ، ويُريدونَ تسويةَ المرأةِ بالرجلِ، وهمْ -واللهِ- كاذبونَ في دَعواهُمْ، ثُمَّ إنَّهم فوقَ بطلانِ دَعْواهُم لمْ يُسَوُّوا المرأةَ بالرجلِ، بلْ عندَهُم فرقٌ عظيمٌ وتفضيلٌ للرجلِ ظلمًا وعدوانًا، حتَّى في الرواتبِ والمناصبِ، هذا فضلًا عَنْ إهانةِ المرأةِ بما يَدّعونَه مِنْ إعطائِها حريتَها، وحقيقتُه حريةُ الشَّهَوَاتِ حتَّى تُصبِحَ المرأةُ رخيصةً مبتذلةً أو سلعةً يتبادلُها الرجالُ. أما الإسلام فقائم على العدل، الذي يراعي الخصائص والمزايا وما يناسبها من الحقوق والتكاليف، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فالإسلام جاء بالعدل التام، ولا يلزم من العدل المساواة، ومن أدلة ذلك المواريث فقد قسمها الله تعالى بعدله، وهناك اختلاف بين الورثة، حسب قربهم وما كُلِّف به ذكرهم وأنثاهم.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الرابعة والعشرون: الرضَا بقدرِ اللهِ مفتاحُ الخيرٍ
قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء].
هذهِ الآيةُ الكريمةُ قريبة من الآيةِ السابقةِ {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، وقدْ قالَ تعالى فيها: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، ولمْ يقلْ: (ما فضَّلَ اللهُ بهِ الرجالَ -أو بعضَ الرجالِ- على النساءِ)، فهناكَ أمورٌ عندَ المرأةِ ليستْ عندَ الرجلِ، وهيَ مِنْ خصائصِها التي فضَّلَها اللهُ بها، وقدْ يَتَمناها بعضُ الرجالِ، وهناكَ أمورٌ عندَ الرجلِ ليستْ عندَ المرأةِ، وهيَ مِنْ خَصائصِه التي فضَّلَه اللهُ تعالى بها، وقدْ تَتَمناها بعضُ النساءِ. فكلٌّ منهما فضَّله اللهُ بجوانبَ ليستْ عندَ الآخَرِ، والفهمُ الصحيحُ لمثلِ هذهِ الآياتِ أنْ يَرضَى كلٌّ منهما -رجلًا كانَ أو امرأةً- بما أعطاهُ اللهُ، ولا يتَمنَّى ما أعطاه للآخَرِ؛ لأنَّه يكونُ اعتراضًا على أمرِ اللهِ وعلَى خَلقِ اللهِ، واللهُ تعالى يقولُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
إنَّ الإخلالَ بهذهِ القاعدةِ -لا سيما فيما يتعلَّقُ بالآيةِ الكريمةِ- يقعُ عندَ النساءِ أكثرُ مما يقعُ عندَ الرجالِ، فكثيرٌ مِنَ النساءِ تتمنَّى مَا فضَّلَ اللهُ به الرجالَ عليها، وتنسَى ما أعطاها اللهُ، وقدْ تقولُ إحداهُنَّ -هداها اللهُ- ليتني كنتُ رجلًا لفَعلتُ كذا وكذا، ليتَ الطلاقَ بيدي، أوْ ليتَ القِوامةَ بيدي، وهكذا، فهذا لا ينبغِي ؛ لأنّه تعدٍّ علَى حدودِ اللهِ، وتمني ما فضَّل اللهُ به الرجلَ علَى المرأةِ، فيجبُ أنْ تُدرِكَ المرأةُ أنَّ هذا شرعُ اللهِ تعالى وأنَّ ما تتمناه مخالف لأمر الله تعالى.
وفي المقابلِ فإنَّ محاولةَ استغلالِ آياتِ التفضيلِ للانتقاصِ مِنَ المرأةِ، أوْ تنزيلَ حديثِ (ناقصاتُ عقلٍ ودينٍ) في غيرِ موضعِه خللٌ آخر، فإنًّ مَا جعلَه اللهُ تعالى نقصًا في المرأةِ، فيه خيرٌ لها مِنْ وجهٍ آخرَ، لكنَّ كثيرًا مِنَ الرجالِ لا يُدرِكُونَ ذلكَ، ولوْ فَهِموا هذا الحديثَ علَى وجهِهِ الصحيحِ لعَرَفوا أنَّ فيه مِنَ الخيرِ للمرأةِ الشيءَ العظيمَ.
إنَّ التفاضلَ بينَ الرجلِ والمرأةِ له حِكَمٌ بالغةٌ، مِنْ أعظمِها أنْ يُكمِّلَ كلٌ منهما الآخرَ لتقومَ الحياةُ وتَستمرَ على ظهرِ الأرضِ، وأمَّا في الآخرةِ فإنَّ التمايزَ والتفاضلَ يكونُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، وأصل التكليف واحد، بمعنى أن كلًا من الجنسين مكلف بحسب خصائصه، وسيجازيه الله بحسب ما أعطاه وأقدره عليه، ولذلكَ قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124].
وممَّا ينبغي أن يُعلمَ أنَّ التفضيلَ ليسَ بينَ الرجالِ والنساءِ فحسبْ، بلْ إنَّ اللهَ تعالى فَضَّل بعضَ الرجالِ على بعضٍ، وفَضَّل بعضَ النساءِ على بعضٍ، {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، لا ينبغي قَصْرُه على تفضيلِ الرجلِ على المرأةِ، ولا المرأةِ على الرجلِ، فالرجالُ يتفاضلونَ فيما بينَهم، والنساءُ يتفاضلْنَ فيما بينهُن، هذا واقعٌ مُشاهَدٌ، وإن كان السياق في صدد: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32]. ولا ينفي ذلك وجود التفاضل بين الجنس الواحد من الرجال والنساء، فأبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنه أفضلُ هذه الأمةِ بعدَ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، وعمرُ رضي الله عنه أفضلُ هذهِ الأمةِ بعدَ أبي بكرٍ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ) ، أيْ هناكَ رجالٌ لمْ يَكملوا، واللهُ سبحانه وتعالى بيَّنَ أنه فضَّلَ بعضَ النبيينَ على بعضٍ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ولكنْ لا ينبغي أنْ نقولَ: فلانٌ مِنَ الأنبياءِ أفضلُ مِنْ فلانٍ، علَى وجهِ الغضِّ مِنْ حقَّه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ ابْنِ مَتَّى) ، وفي الحديث الآخر، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ) ، فكلُّهم أنبياءُ اللهِ تعالى وكلُّهم لهم مكانتُهم. فَفَرْقٌ بينَ التفضيلِ المقرِّرِ لحقيقةٍ واقعةٍ، وبينَ التفضيلِ الخاصِّ الذي قدْ يُفْهَمُ منهُ الانتقاصُ.
وكما يتفاضلُ الرجالُ تتفاضلُ النساءُ، فلسنَ سواءً، قال عليه الصلاة والسلام: (وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) ، وأمهاتُ المؤمنينَ، وَهُنَّ زوجاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعضُهنَّ أفضلُ مِنْ بعضٍ.
فما دَامَ هذا التفضيلُ مِنَ اللهِ؛ سواءٌ خِلقةً أوْ سببًا أوْ كَرمًا، وليسَ تقصيرًا مِنَ الإنسانِ، فعليهِ أنْ يرضَى بما قدَّره اللهُ لَه، ولا يتمنَّى مَا قدَّرهُ لغيرِهِ ولمْ يُقَدِّرْهُ لَهُ {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
ولأجل أن تستقيم حياتُنا فلابد من معرفة هذا التفاضل، ولابد من إجرائه مجراه الصحيح بحيث يقوم كل بواجبه وما يناسبه، ولا يطلب ما لا يلائمه، فإذا عَرَفَتِ الزوجةُ أنَّ اللهَ قدْ فضَّلَ الزوجَ في أشياءَ، وعَرفَ الزوجُ أنَّ اللهَ فضَّلَ الزوجةَ في أشياءَ، وَتَعَامَلَ كلٌّ منهما معَ صاحبِه في ضَوءِ {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، استقامتِ الحياةُ الزوجيةُ، وبدونِها لا تستقرُ ولا يَحْدُثُ الأنْسُ ولا التكاملُ ولا الاستقرارُ.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الخامسة والعشرون: الإنفاقُ في حدودِ الاستطاعةِ
قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
هذهِ القاعدةُ لو سُلَّم لها فإنها تعالج كثيرًا مِنَ المشكلاتِ الأُسْريَّةِ، وتُزيلُ كثيرًا مِنْ أسبابِ عدمِ الاستقرارِ في البيوتِ، إذْ إنَّ مِنْ أكثرِ أسبابِ عدمِ الاستقرارِ ووجودِ الشِّجارِ والخِلافِ في البيوتِ هوَ عدمُ العمل بهذهِ القاعدةِ، حيثُ تُطالِبُ الزوجةُ زوجَها بأكثرَ مِنْ طاقتِه وقدرتِهِ، فإنَّه إنْ استجابَ لها وتحمَّلَ مِنَ الديونِ ما تحمَّلَ حتَّى أثقلتْهُ، تحوَّلتْ حياتُه إلَى جحيمٍ بسببِ مُطالباتِ أصحابِ الدَّينِ وكثرةِ تفكيرِهِ في سبيلِ الخلاصِ، فالدَّينُ كما يقولونَ: همٌّ بالليلِ وذلٌّ بالنَّهارِ، ولهذَا تعوَّذَ منهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأرشدَ أمتَه إلَى التعوُّذِ منْهُ. فإنْ وَقَعَ ذلكَ رجَعَ الرجلُ باللَّومِ علَى زوجتِه وعَدَّها سببَ ما هوَ فيهِ مِنْ بلاءٍ، لمطالبتِها بأمورٍ لا يَقدِرُ عليها، فيَحدُثُ الخِصامُ والشِّقاقُ ثُمَّ قدْ يقعُ الفِراقُ كمَا نرَى ونسمعُ كثيرًا. وفي المقابلِ إنْ رَفضَ الزوجُ طلباتِها تبرَّمتْ مِنَ الحياةِ التي تَعِيشُها، وجَعَلتْ هذا الرفضَ سببًا للشِّقاقِ والخلافِ والشجارِ.
أمَّا الآيةُ الكريمةُ، فإنَّها ترْسُمُ السبيلَ القويمَ للإنفاقِ، وتضعُه في نصابه الصحيح، فعمومها تَدخُل فيه نفقتُه علَى البيتِ والزوجةِ والأولادِ.
إنَّ مِنْ أسبابِ مُطالبةِ المرأةِ زوجَها فوقَ طاقتِه، مراعاتها أحوال قرابات أو جارات! تُريدُ مِنْ زوجِها أنْ يُنفِقَ كما يُنفقُ الأغنياءُ، وأحيانًا قدْ تكونُ قدرةُ الزوجِ محدودةً {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وأزواجُ أخواتِها أو جاراتها مِنَ الأغنياءِ الأثرياءِ، فتضغَطُ علَى زوجِها تُريدُ مثلَ أَخَواتِها، فإنْ كانَ لأختِها بيتٌ أو قصرٌ وهيَ وزوجُها يَسْكُنَانِ شقةً بالإيجارِ، فإنَّها تضغطُ عليه تُريد مثلَ مَا لأختِها، أوْ إن كانَ لدَى أختِها سيارةٌ وسائقٌ وخادمٌ، طالبتْ زوجَها بمثلِ ذلكَ، بينما قدْ تكونُ سيارتُه بالتقسيطِ! فالمطالبات والحال كهذه خَلَلٌ كبيرٌ، عاقبته وخيمة! تأثم بها، وربما تؤثمه! بل ربما تدخله السجن! والذي لها هو أن تُطالبَه بما يَقدِرُ عليه مِنَ النفقةِ بالمعروفِ.
إنَّ مسألةَ الإنفاقِ يحْكُمُها العُرفُ، والعُرفُ أن يُنفِقَ كلُّ إنسانٍ بقدْرِ أشباهه في المكانة والاستطاعة، فلا يكلف الفقير ومتوسط الدخل نفقة الأغنياء! ولا يجوز للغني أن يقتر فينفق نفقة الفقراء {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، فعلَى الزوجِ أنْ يُنفِقَ علَى زوجتِه وأسرتِه بمقدارِ إمكاناتِهِ دونَ إسرافٍ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].
أما إذا كانَ الزوجُ يَملِكُ وَيقدِرُ ومِنْ ثَمَّ قتَّر على زوجتِه وأولادِه، فهذا خَللٌ كبيرٌ أيضًا، إذْ كمَا أنَّ على المرأةِ أنْ تُراعِي زوجَها في قدراتِه، فعليهِ هو أيضًا أن ينفقَ مما أنعم الله به عليه دونَ إسرافٍ أو تقتيرٍ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وكما أن الإسراف آفة فالتقتير مثلها! وبعضَ الأزواجِ له سعة قد بسط له في الرزق ومعَ ذلكَ يُقتِّرُ على زوجتِهِ وأولاده، وفي هذا البابِ أمثلةٌ يَنْدَى لها الجبينُ:
فهذهِ زوجةٌ تُقْسِمُ أنَّهُ قدْ تمرُّ سنةٌ كاملةٌ دونَ أنْ يُنفِقَ عليها زوجُها، وأخرى تقولُ إنَّها هيَ التي تُنفِقُ علَى البيتِ رغمَ أنَّه قادرٌ مستطيعٌ، بلْ هناكَ رجالٌ أغنياءٌ وزوجاتُهم يطلُبْنَ الصدقاتِ مِنَ النَّاسِ، فتأتي إحدَاهُنَّ إلى جيرانِها وتقولُ: لا تَرمُوا شيئًا، أعْطُونا إياهُ نُصْلِحْه ونَلبَسْه أو نَبِعْه لنُنفقَ على أنفسِنا! بعضُهن تشتغلُ في البيتِ جاهدةً معَ المطاعمِ، تَكِدُّ الليلَ والنَّهارَ، لا لشيءٍ إلا مِنْ أجلِ أنْ تُنفِقَ على نَفسِها وأولادِها؛ لأنَّ زوجَها بخيلٌ شحيحٌ، فنقولُ لكلِّ هؤلاءِ: هذا ظلمٌ لا يَجوزُ، {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، فكما أنَّ هذهِ الآيةَ تُعطي حقًا للزوجِ، وتُنبِّه الزوجةَ ألا تطلبَ منْهُ أكثرَ مما يَقدِرُ عليه، فكذلكَ هِي تُعطي للزوجةِ والأولادِ حقًا بأنْ يُنفِقَ عليهمْ مما آتاه اللهُ ويوسِّعَ عليهم كما وُسِّعَ عليه {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، أما إذا قُدِرَ عليه رزقُه {فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ}.
إنَّ مِنْ أسبابِ استقرارِ الحياةِ الزوجيةِ أنْ يعملَ الزوجانِ بهذه القاعدةِ ويُذكِّرَ كلٌّ منهما صاحبَه بها إنْ ذَهِلَ عنها، فإذا طلبتِ الزوجةُ أكبرَ منْ طاقتِه يُذكِّرُها بقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ﴾، وإذا كانَ قادرًا وقَتَّرَ في الإنفاقِ تُذكِّرُه بأنَّه لا يَنبغي لهُ ذلكَ {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ}.
مسألةٌ مهمةٌ:
هلْ للزوجةِ أنْ تأخذَ مِنْ مالِ زوجِها الشحيحِ دونَ إذنِه لتُنفقَ على نفسِها وولدِها؟
قدْ ثبتَ أنَّ هندًا زوجةَ أبي سفيانَ رضي الله عنها شَكَتْ مِنْ شُحِّهِ وأنَّه لا يُنفقُ النفقةَ التامَّةَ، فأذِنَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تأخذَ مِنْ مالِه ما يَكفيها وولدَها بالمعروفِ دونَ علمِهِ وإذنِهِ، وقدِ اختُلِفَ في هذا الإذنِ؛ هلْ هوَ مِنْ بابِ الفُتيا فتعم كل من كانت تلك حالها أو هو من باب القَضاءِ؛ فتفتقر من عداها إلى حكم قاض؟
ومهما يكنْ مِنْ أمرٍ فلا بدَّ مِنَ التنبهِ لأمورٍ:
الأولُ: أنْ يكونَ الأخذُ بالمعروفِ لا أنْ تُطْلِقَ الزوجةُ يدَها وتأخذَ ما تشاءُ مِنْ مالِه.
الثاني: أنَّ هذا يكونُ في حالِ شُحِّ الزوجِ وتَقتيرِه، أمَّا إنْ كانَ يُنفقُ مِنْ سَعته فلا ينبغي ذلكَ، إلا إنْ عَلمتِ الزوجةُ أنَّ زوْجَها يَسمحُ ولا يُمانِعُ، إذ قدْ يَترَتْبُ على أخذِها بدونِ علمِه مَا لا تُحمَدُ عُقْباه، وأنا أعرفُ رجلًا كريمًا علِمَ أنَّ زوجتَه أخذتْ مِنْ مالِه بدونِ إذنِه، فسألَها: هلْ طلبتِ ولم أعطِك؟ قالت: لا ولكنني احتجتُ المالَ، فطلَّقها بسببِ ذلكَ.
الثالث: إذا كانَ أخذُ المرأةِ مِنْ هذا المالِ دونَ أنْ يَشْعرَ الزوجُ، وكانَ علمُه لاحقًا لنْ يُؤثِّرَ على الحياةِ الزوجيةِ فهنا نقولُ خُذي ما يكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ، أمَّا إذَا كانَ سَيترتبُ على أخذِ المالِ مفسدةٌ أعظمُ، مثلُ شِقاقٍ يُحيلُ الحياةَ الزوجيةَ جحيمًا أو طلاقًا، فالعاقلةُ لا تفعلُ ذلكَ بلْ تتحمَّلُ الشُحَّ والجُوعَ على طلاقٍ وفِراقٍ؛ لأنَّه عندَ تزاحمِ المفاسدِ يُراعَى أنَّ المفسدةَ الكبرى تُدفَعُ بالصُّغرى، ولا شكَّ أنَّ المفسدةَ الكبرى هي الخِلافُ والشِّقاقُ والفِراقُ والطلاقُ. ويمكنُ في هذهِ الحالِ أنْ تُوسِّطَ المرأةُ بعضَ قرابتِها أو قرابةِ الزوجِ أو بعضَ مَنْ يأخذُ بقولِهم، فإنْ أعيتَها الحيلُ ولم تعُدْ تَقْدِرُ على تأمينِ حاجاتِها، فيُمكنُها أنْ تلجأَ للقضاءِ لتطلبَ حقَّها مِنَ النفقةِ لها ولأولادِها، وإنْ كنتُ لا أميلُ إلى ذلكَ، فالخلاف شر، ولكن بعض الدواء قد لا يكون منه بد وهو مر! وآخر الدواء الكي.
رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة السادسة والعشرون: لا يَحِلُّ مال المسلمِ إلا عنْ طيبِ نفسٍ
قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29].
هذهِ الآيةُ عامةٌ، وتضعُ قاعدةً عظيمةً ومنهجَ حياةٍ في التعاملِ الماليّ، فمنَ المؤسفِ مَا انتشرَ اليومَ منْ أكلِ كثيرٍ منَ الأزواجِ أموالَ زوجاتهِم بالباطلِ، تكونُ موظفةً ولها دخلٌ، أوْ غنيةً لديها مالٌ، فيَبدأُ بالضغطِ عليها لِيَأخُذَ مِنْ راتبِها أوْ مِنْ مَالهِا دُونَ رضاها، وقدْ نهَى الله تعالى عنْ ذلكَ، حيث نهَى عنْ أنْ نأكلَ أموالَنا بالباطلِ في أكثرِ منْ موضعٍ في القرآنِ، فلا بدَّ منَ التراضِي كمَا في النساءِ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. وفي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة"! وفي بعض ألفاظه قدم المرأة على اليتيم!
وهنا مسألةٌ عظيمةٌ جدًا، فالْمُعَوَّلُ عليهِ هوَ الرضا الحقيقيُّ النابعُ منَ القلبِ، يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء]، فلمْ يقلْ طِبْنَ لكمْ (لسانًا)، فقد يطِيبُ لسان بعضِ الزوجاتِ وقلبُها لمْ يَطِبْ، بلْ ﴿نَفۡسا﴾، أمَّا أنْ ترضَى الزوجةُ خَشيةَ غَضبِ الزوجِ أوْ تكديرِه صَفوَ حياتِها أو تَطليقِها أو تَهديدِه بالزواجِ منْ أخرَى إنْ لمْ تُعطهِ، فليسَ هذا هوَ المقصود، ُكمَا أنَّه ليسَ مِنَ المروءةِ، فقد يكون من باب الإكراه المعنوي، والإكراه بدون حق محرم.
إنَّ مما ينبغي أنْ يعلمَه الأزواجُ أنَّ النفقةَ منَ الناحيةِ الشرعيةِ واجبةٌ علَى الزوجِ حتَّى لوْ كانَ فقيرًا وهيَ غنيةٌ وَرِثتِ الأموالَ منْ أبيها، أوْ عندَها تجارةٌ، ولا يَحِقُّ لهُ أنْ يأخذَ ريالًا واحدًا منها ولا درهمًا ولا دينارًا منْ غيرِ رضاها، إنَّما عليهِ أنْ يُنفقَ النفقةَ الشرعيةَ في حدودِ طاقتِه، إلا إذا تبَرعتْ أو تَصدَّقتْ عَنْ طيبِ نفسٍ، كما حَدَثَ منِ ابنِ مسعودٍ وزوجتِهِ زينب رضي الله عنها، إذْ لما دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم النساءَ للنفقةِ، أرادتْ زينبُ زوجةُ ابنِ مسعودٍ أنْ تتصدَّقَ، فقالَ لها: أنَا وابنُك أحقُّ منْ تصدّقتِ عليهم؛ لأنَّه فقيرٌ رضي الله عنه، فذَهبتْ تسألُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ" . فعندما تُعطِي المرأةُ لزوجِها مالًا يكونُ صدقةً لها، ولكنْ لا ينبغِي أنْ تَقولَ له هذهِ صدقةٌ، فبعضُ الأزواجِ لا يَتَحمَّلُ هذا الأمرَ.
وأيضًا لا ينبغِي أنْ تَمُنَّ عليه، بلْ تُنفِقُ عليه بطِيبةِ نفسٍ وسماحةٍ دونَ مِنّةٍ، وإلَّا فبعضُ الزوجاتِ تُنفِقُ على زوجِها لكنَّها تَمُنُّ عليهِ وتَضغَطُ عليهِ وتَستخدمُ هذا المالَ -معَ كلِّ أسفٍ- لإهانتِه وإذلالِه، فهذا لا يجوزُ {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، فالمنُّ منْ أشدِ الأذى، وحتَّى الزوجُّ لا ينبغي أنْ يَمُنَّ على زوجتِه بما يُقدِّمُ لها، وبهذا تستقيمُ الحياةُ ويتحققُّ الاستقرارُ، وإلا قدْ يكونُ الشقاءُ والبلاءُ والتعاسةُ، وقدْ يقعُ الفِراقُ، واللهُ المستعانُ.
القاعدة السابعة والعشرون: أعن زوجك على البِرِّ تكن شريكًا في الأجر
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
هذهِ القاعدةُ مهمةٌ إذا كانَ الزوجُ منْ طلابِ العلمِ والدعاةِ وأصحابِ المشاريعِ الخيريةِ -وهوَ الأكثرُ- أو كانتِ الزوجةُ مِنَ الدعاةِ المُشتغِلاتِ بالعملِ الخيريِّ وهوَ أقلُ، حيثُ يُمكنُ أنْ يَكْثُرَ تَشكِّي الزوجةِ بحجةِ أنَّ زوجَها لا يُعطيهم حقوقَهم؛ لأّنَّه كثيرُ الغيابِ ومشغولٌ بغيرِهم، وإنَّ مِنْ أسبابِ الاستقرارِ هوَ مَا ذكَره اللهُ هنا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، بِأنْ تكونَ هناكَ مشاركةٌ وتعاونٌ بينَ الزوجِ وزوجِه في العملِ، والتعاونُ لهُ أوجهٌ كثيرةٌ جدًا، ومنْ أهمِّها الرِّضا بعملِ زوجِها، وكذلكَ رِضا الزوجِ بعملِ زوجتِه في هذهِ المشاريعِ الخيريةِ، وهذا يبدأُ بإدراكِ كلا الزوجينِ أنَّ عملَ صاحبِه في هذهِ المجالاتِ خيرٌ وأجرٌ وقُرْبةٌ لله تعالى، فعلَى المرأةِ أنْ تستحضر أنها بصبرها تكونُ شريكةً في الأجرِ ما لمْ تَتَضَجَرْ أو تشتكِ؛ لأنَّها إذا اشتكتْ فقد أعلنت بغضها لما هو فيه، ومنعت عذرها، فتفقدُ أجرَها، وهذا غالبًا لنْ يُؤثرَ علَى زوجِها بلْ سيستمرُ كمَا هو، فتكونُ قد فقدتِ الأجرَ ولمْ تنلْ شيئًا بشكواها.
وإنَّ مما ينبغي التنبهُ له في هذا المقامِ، أنَّ هذهِ الأعمالَ؛ كطلبِ العلمِ والدعوةِ والمشاركةِ في الأعمالِ الخيريةِ لا ينبغي أنْ تكونَ سببًا للتقصيرِ في حقِّ الأهلِ، إذْ كمَا أنَّ العملَ في الدعوةِ إلى اللهِ وفي بذلِ العلمِ والمشاركةِ في المشاريعِ الخيريةِ قربةٌ إلى اللهِ تعالى، فإنَّ القيامَ بحقوقِ الزوجةِ والأولادِ قربةٌ إلى اللهِ تعالى، فلا تبغي هذهِ علَى تلكَ، وليُعطَ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه كمَا ورَدَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبهذا تستقيمُ الحياةُ.
وإنَّ مما يُساهِمُ في إقناعِ الزوجةِ ويُعينُها علَى الصبرِ، أنْ يُبيِّنَ لها الزوجُ أنَّ مِنْ أعظمِ أسبابِ ما همْ فيهِ مِنْ خيرٍ ومِنْ سَعةِ رزقٍ وهناءٍ وطيبةِ نفسٍ -قدْ لا يوجدُ عندَ القريبين منْهم- هوَ مشاركتُه في هذهِ الأعمالِ العِلميةِ والدَّعويةِ والخيريةِ، وأنَّ دُعاءَ المسلمينَ لهُ ولزوجِه ولولدِه مِنْ أسبابِ هذا الاستقرارِ وهذهِ الحياةِ الهانئةِ السعيدةِ، وأنَّ من فضْل اللهِ تعالى أنْ سخَّرهم لخدمةِ عبادِه، فسخَّرَ اللهُ الناسَ للدعاءِ لهمْ، ثمَّ يَدعُوها للتأملِ فيما همْ فيهِ وأولادُهما منْ نعمٍ، فتزدادُ اطمئنانًا وتقِلُّ شكواها، بلْ إنَّ منْ أثرِ مثلِ هذا المنطقِ أنَّ زوجةَ أحدِ المشايخِ تقولُ لهُ: لولا أنَّنا نحتسبُ الأجرَ في عملِكم، ونطمعُ أنْ نكونَ شركاءَ في كلِّ مَا تَقومونَ بِهِ ما استطعنا الصبرَ علَى غيابِكم وأسفارِكم وانشغالِكم وتأخرِكم، فهذا معنىً جميلٌ وفقهٌ جميلٌ، ومُعينٌ بإذنِ اللهِ علَى استمرارِ الزوجِ أو الزوجةِ في عملِهما، وهوَ منْ أسبابِ سعادتِهما واستقرارِهما.
ومما ينبغي أنْ يُعلمَ أنَّ هذهِ الشكوَى منْ غيابِ الزوجِ دليلٌ علَى الحبِّ، وهوَ مِنْ أقوَى عواملِ الاستقرارِ، ولولاهُ لما اشتكتْ زوجةٌ، بلْ لربَّما فرِحَتْ لذهابِهِ وغيابِهِ وانصرافِهِ، لكنْ لحبِّها لهُ، ولما بينَهما منَ المودةِ والرحمةِ قد تُكثِرُ التَّشكِّيَ، وقدْ أشارَ إلَى ذلكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولِهِ: (تُكثرنَ الشِّكاةَ) ، ويَدْخُلُ في ذلكَ الشِّكاةُ بسببِ كثرةِ أعمالِ الأزواجِ وانشغالِهم وارتباطِهم، كما تَدْخُلُ قضايا أُخْرَى كالنَّفقةِ وغيرِها. فإذا كانت الشكوى لانشغالك فلا تضجر وانظر إلى الجانب المشرق فيها، واستثمره لتحقيق الرضا بالخير الذي أنت عليه.
وأخيرًا لا بدَّ أنْ نُؤكِّدَ علَى ضَرورةِ حِرْصِ الزوجِ علَى أنْ يُعطِيَ زوجتَه حقوقَها التِّي شَرَعَها اللهُ تعالى لهَا، وأنْ يُعوِّضَها ويُعوِّضَ أولادَها بأوقاتٍ يُخصِّصُها لهمْ، ومثلُ هذهِ العنايةِ مهمةٌ جدًا، حتَّى لا يقال له معَ كثرةِ أشغالِه وأسفارِه وانشغالاتِه وارتباطاتِه إنَّكَ قد قصّرتَ في حقِّنا الواجب، وإنْ حَدَثَ تقصيرٌ عَرَضِيُّ فإنَّه يُعوِّضُهُ بمَا هوَ خير في بعض أيام السَّنَةِ؛ في الإجازاتِ أو في غيرِها، وبالأسفارِ معَهم وبإكرامِهم، والمهم أن نجتهد في التحقق بهذه الآية {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، مع أزواجنا وأولادنا قبل غيرهم! فإن هذا مما يُحقِّقُ الاستقرارَ والرِّضا والسَّعادةَ بإذنِ اللهِ، في الأسرة، ولهذا أثره على البذل خارج نطاق الأسرة؛ لأن الزوج إذا شعر برضا زوجته أثناء قيامه بعمله خارج البيت، فإنه يزيده قوة ونشاطًا، ويجمع همته على عمله، بخلاف إذا كان يشعر بعدم رضاها أو سخطها، فإن لذلك أثرًا - في الغالب - على أدائه، واستقراره النفسي، فنجتهد في جعل بيوتنا مستقرة في حضورنا وغيابنا ليكون عطاؤنا مثمرًا ومقبولًا.
القاعدة الثامنة والعشرون: القِوَامَةُ مسؤوليةٌ وأمانةٌ
قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].
برَغْم أنَّ قِوامةَ الرَّجلِ في بيتِهِ تشريعٌ عظيمٌ، كفيلٌ بتحقيقِ الاستقرارِ والنَّجاحِ، والسَّكنِ والمَوَدَّةِ والرحمةِ في الحياةِ الزوجيةِ، إلّا أنَّها أصبحتْ -لسوءِ فَهمِها والغلو فيها- سببًا لتعاسةِ كثيرينَ؛ فبعضُ الأزواجِ يَستخدمُ هذهِ الآيةَ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} لاستعبادِ المرأةِ وقهرِها، والحدِّ ممَّا أعطاها اللهُ منْ حقوقٍ بحُجةِ أنَّ القِوامةَ لهُ، وهذا لهُ آثارٌ سلبيةٌ علَى المرأةِ يُؤدِي إلى تعاستِها، وعلَى الحياةِ الزوجيةِ وقد يُؤدِي إلى فقدِ استقرارِها أو فقدها! فقدْ تنتهِي -كما هو الواقع فِي كثيرٍ منَ الأحيانِ- بالطلاقِ. وفي المقابلِ، فإنَّ بعضَ الزوجاتِ تشتكِي منْ قيامِ الزوجِ بالقِوامةِ الشَّرعيةِ وإنْ لمْ يَظْلِمْ أوْ يَتعدَّ، وَمنهنَّ مَنْ تنظرُ لأصلِ القِوامةِ علَى أنَّه انتقاصٌ منْ مكانتِها أو ظلمٌ لهَا، وهذَا يُخشَى أنْ يكونَ اعتراضًا علَى حُكمِ اللهِ تعالى يُورِدُ صاحبتَه المهالكَ.
إنَّ العملَ بهذهِ الآيةِ كما أرادَ اللهُ سببٌ منْ أسبابِ تَحقُّقِ السَّكنِ والاستقرارِ في الحياةِ الزوجيةِ، فكمَا أنَّه لا بدَّ أنْ يكونَ للبلدِ قائدٌ -ملِكٌ أوْ أميرٌ أو رئيسٌ- لتستقيمَ أمورُه وتنضبطَ أحوالُه، كذلكَ لا بدَّ أنْ يكونَ للبيتِ قائدٌ لِتستقيمَ أمورُه، فبدونِ قائدٍ تَعُمُّ الفَوضَى وتضطربُ الأحوالُ:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ *** وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادُوا
مبدأُ القيادةُ أوِ القِوامةُ والإمارةُ والولايةُ منْ أهم الأمورِ، حتَّى في السفرِ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ)، فلا بدَّ منْ أميرٍ حتَّى في السفرِ العارضِ القصيرِ والعددِ المحدودِ، لأنَّ الصُّحبةَ واجتماعَ النَّاسِ يَحتاجُ إلَى قيادةٍ وتوجيهٍ وإلا حدَثَ النزاعُ والشِّقاقُ والخلافُ، ولكنْ إنْ حَصَلَ منَ القائدِ بغيٌ أوْ تعدٍّ وسوءُ استخدامٍ للسُّلطةِ، فإنَّ الخللَ يقعُ، سواءٌ علَى المستوى العامِ؛ في الدائرةِ أوِ الوزارةِ أوِ الدولةِ، أوْ علَى مستوًى أضيقَ كما في البيتِ والأسرة، وهذا لا يَعني أنَّ مبدأَ القيادةِ والقِوامةِ خاطئٌ في نفسِه، بلِ الخطأُ في التطبيقِ.
وَمِنَ النساءِ مَنْ تَصْبِرُ علَى زوجِها صبرًا جميلًا وتَضْرِبُ في ذلكَ أمثلةً رائعةً، فَمَهْمَا وَقَعَ مِنْ زوجِها في حقِّها ومهما أَخطَأَ عليها فهيَ لا تُغيِّرُ مِنْ حياتِها وأسلوبِها معَهُ أبدًا، وتَبْقَى تصرفاتُها وخدمتُها لهُ في حالةِ الغَضبِ والرِّضا متقاربةً قدرَ المُسْتطاعِ، وإلّا فإنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أنْ يكتُمَ كلَّ شيءٍ، هذَا لا يَكادُ يكونُ موجودًا.
ومنَ الصبرِ الجميلِ منْ أزواجِ النبيِّ -أمهاتِ المؤمنين رضي الله عنهن- أنَّه لمَّا أحبَّ أنْ يُمَرَّضَ في آخرِ حياتِهِ عندَ عائشةَ تنازلنَ كلُّهنَّ عنْ حقِّهنَّ بطيبِ نَفْسٍ فَبَقِيَ عنْدَها حتَّى مات صلى الله عليه وسلم وهوَ بينَ سَحْرِها ونَحْرِها، معَ أنَّ كلَّ واحدةٍ مِنهنَّ تتمنَى لوْ يكونُ عندَها، ففي الحديثِ أنَّه حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، ثمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ، وَحَاسَبْتُكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ)، فزوجاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُريدُ الواحدةُ لحظةً واحدةً معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعَ ذلكَ يَتنازلنَ وَيَصْبِرْنَ ابتغاءَ ما عندَ اللهِ تعالى، كمَا حَدَثَ يومَ التَّخييرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28، 29]، فَصَبَرْنَ وَاخْتَرْنَ كلُّهنَّ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخِرَةَ.
ومِنْ صورِ الصبرِ الجميلِ في الحياةِ الزوجيةِ، أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانتْ تَغضَبُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ رسولُ اللهِ - بأبِي هُوَ وأمِّي- لكنَّ هذا لا يُوقِعُها في المحظورِ، ففي الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لها: (إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ)، فكَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعرِفُ هذا مِنْ حالِها، لَكِنَّها لمْ تَفعلْ شيئًا آخَرَ.
وفي هذا الحديثِ درسٌ للرجالِ الذينَ يَرَوْنَ أنَّه ليسَ لأزواجِهم حقٌ في الغَضَبِ مِنْ تصرفاتِهِمْ مَهْمَا كانتْ، فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلمِ، وَمَعَ ذلكَ تَغْضَبُ منهُ أحبُّ أزواجِه إليْهِ، وهذَا مِنْ مُقْتَضَى بَشَريّتِها وَبَشَرِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم {أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ عليها صبرًا جميلًا، ويَكتَفِي بأنْ يقولَ لها إنَّه يَعلمُ حالَ رضاها وحالَ غضبِها!
وَقدْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ علَى قومِه وعلَى القريبِ والبعيدِ، يَصبرُ علَى صحابتِه، وَيصْبِرُ علَى أهلِ بيتِه وما يَحْدُثُ مِنْ زوجاتِه، وَيَحْتَمِلُ مَا يكونُ منهنَّ، وأمَّا ما كانَ يَحْدُثُ مِنْ عقابٍ كَهَجْرِهِنَّ شهرًا، فمنْ بابِ التربيةِ والتشريعِ أيضًا؛ لأنَّ حياتَه صلى الله عليه وسلم ليستْ قاصرةً عليهِ وإنَّما هوَ مُشرِّعٌ لغيرِه، وبمجموعِ أفعالِه تَتضِحُ الأمورُ وتتضحُ الصورةُ ولا يَتسلَّلُ الشَّيطانُ لسُوءِ فَهمِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} فيَظُنُّ البعضُ أنَّها تَعنِي التساهلَ والتفريطَ، بل الحكمة والحزم وأخذ النفس بما فيه الصلاح.
<<<<<<<<<<<<
القاعدة الثانية والثلاثون: علاج المشْكِلاتِ بالتَّوْبَةِ وَالْاسْتِغْفَارِ
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].
هذهِ الآيةُ الكريمةُ تضعُ منهجَ حياةٍ للمَرْءِ في تَعامُلِهِ معَ ما يَحُلُّ به مِنْ مصائبَ، وما يمرُّ بهِ منْ مشكلاتٍ ومكدِّراتٍ، فعندمَا يعلمُ أنَّه لا يَنْزل به بلاءٌ إلَّا بمعصيةٍ وأنَّه لا يُرْفَعُ إلَّا بتوبةٍ، فإنَّ نَظْرَتَهُ للأحداثِ وتعاملَه معَها سيختلِفُ اختلافًا كليًّا، وهذَا ما سَمِعْتُهُ منْ أحدِ الدُّعاةِ وطلَّابِ العِلمِ، يقولُ: هذهِ الآيةُ في سورةِ الشُّورَى غيّرتْ حياتِي، يقولُ: كُنتُ إذا وَقَعَ خللٌ في البيتِ أُبَادِرُ بالِعتابِ في بعضِ الأحيانِ، لكنَّه بعدَ أنْ تَدَبَّرت هذهِ الآيةَ وفَقِهتُهَا تَغيَّرَتْ حياتي، فإِذا وَقَعَ تقصيرٌ يسيرٌ منَ الزوجةِ أوِ الأولادِ أعمل بقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، أمَّا إنْ كانَ التقصيرُ كبيرًا -وهذَا هو المرادُ- يقولُ: أُدْرِكُ أَنَّه مَا وَقَعَ إلَّا بِسَببي، فهُوَ أثَرٌ لخطأٍ وَقَعْتُ فيهِ قَبْلَ ذلكَ، فأنَا البادئُ والبادئُ أظْلَمُ، وهذا لا يَعْنِي بِالضَّرورةِ أنَّه وَقَعَ منْهُ خطأٌ في حقِّ زوجتِه أوْ في حقِّ أولادِه، بلْ قدْ يكونُ قصَّرَ في حقٍّ مِنْ حقوقِ اللهِ وَوَقعَ في معصيةٍ فعاقَبَهُ اللهُ بتقصيرِ زوجتِه وأولادِه أوْ خطئِهم في حقِّه، وهذا الفِقْهُ فَهِمَهُ بعضُ السَّلفِ مِنْ قَبْلُ، يقولُ الفضيلُ بنُ عِياضٍ رحمه الله: (إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ حِمَارِي وَخَادِمِي)، أيْ يَرَى أثرَ المعصيةِ في خُلقِ الدَّابَّةِ وهيَ غيرُ مكلَّفةٍ، فَبَدَلَ أنْ تستجيبَ له وتَخضعَ يَجِدُ مِنْهَا أخلاقًا أخرَى، فَيَعْلَم أنَّ هذَا بسببِ المعصيةِ التي وَقَعَ فيها، يَقولُ صاحِبُنا: فإِذا وَجَدْتُ هذا بَدَأْتُ بمحاسبةِ نفسِي، وَرُحْتُ أستغفرُ اللهَ وأُصلِّي وأدعو وأُلِحُّ في الدُّعاءِ وَقَدْ أَتَصَدّقُ، وفي حالاتٍ كثيرةٍ لا يستغرقُ الأمرُ سِوَى وقتٍ يسيرٍ فَيكتشِفُ أنَّ الأمرَ تغيَّرَ تَمامًا معَ الزوجةِ والأولادِ، وربّما قَبْلَ أنْ يَنطقَ معَهم بكلِمَةٍ فيما وقَعُوا فيه منْ خطأٍ، بلْ قدْ يُفاجَأُ بزوجتِه تأتِي وتعتذِرُ لأنَّها أخطَأَتْ أوِ الأولادِ يَعتذِرُونَ، فكَما أنَّ الله تعالى سلَّطهُم عليهِ بذنبِهِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، فكذلكَ رَفَعَ البلاءَ، وأصلَحَ قلوبَهم لَمَّا أَصْلَحَ ما بينَه وبينَ الله.
يقولُ: فهذَا أَصَبَحَ مَنْهَجًا في حياتِي، فَبَدلَ أنْ أَبْقَى علَى ذنبِي الأول وأُضيفَ إلَى ذلكَ مشكلةً أخرَى داخلَ البيتِ، جعلتُ هذهِ القاعدةَ مُنْطَلَقًا في عِلاقتِي الأُسْريةِ، فتغيّرتْ كلُّ حياتِنا للأفضلِ.