نحن بحاجة إلى الهجرة ودروس الهجرة في كل وقت من الأوقات
ونحن بحاجة إلى الهجرة ودروس الهجرة في هذه المراحل من حياة المسلمين وحياة البشر على الخصوص
وبحاجة إلى الصفات والمزايا التي اتصف بها المهاجر العظيم r ، ولولاها لم تكن الهجرة ، ولم تبلغ غايتَها ، ولم يكن لها ما كان من النتائج والآثار
فالهجرةُ إيمان وعمل وإرادة وإصرار
والهجرةُعقلوتفكيروتدبير ، وتهيئةٌللوسائلوالأسباب ، وأخذٌبالوسائلوالأسباب
والهجرةُ رجولة وشجاعة وتضحية ، وثقة مطلقة بالله عزَّ وجلَّ
والهجرة أيضاً حصيلةٌ لمرحلة من العمل والجهد المضني ، كما هي مُرْتَكَزٌ ومُنْطَلَقٌ لمرحلة أخرى من العمل والجهد
لم تكن الهجرة عملاً اعتباطيّاً مرتجلاً ، وما كان يمكن أن تكون ؛ ولكن كان لها مقدّماتُها ، وما سبقها من التخطيط والتمهيد مقدمات الهجرة :
كان رسول الله rلا يكتفي بدعوة أهله وعشيرته وعامة الناس في مكة ؛ ولكنه كان يُعْنى بعرض نفسه ودعوته على القبائل العربية التي كانت تفد للحج والعمرة أو غيرها من الأغراض
قال ربيعة بن عَبّاد يصف مشهداً من مشاهد عَرْضِ رسول الله r نفسَه ودعوتَه على القبائل :
- إنّي لَغلام شاب مع أبي بمنىً ، ورسولُ الله rيقفُ على منازل القبائل من العرب فيقول :
- « يا بني فلان ، إنّي رسولُ الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأَنْداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوا بي وتمنعوني(1) ، حتى أبين عن الله ما بعثني به .. »
ولقد روت لنا كتب السيرة :
« أنّه أتي كِنْدَةَ في منازلهم .. فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، وعرض عليهم نفسه فأبَوْا عليه »
وَ « أنّه أتى كَلْباً في منازلهم .. فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه .. فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم »
وَ « أنّه أتى بني حنيفة في منازلهم ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبحَ رَدّاً منهم »
و « أنّه أتى بني عامرِ بن صَعْصَعة ، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، وعرض عليهم نفسه ، فقال أحد زعمائهم : (بَيْحَرَةُ بن فِراس) في نفسه : والله لو أَنّي أخذتُ هذا الفتى من قريش ، لأكلتُ به العرب ، ثم قال له :
- أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك ، ثمّ أَظْهَرَكَ اللهُ على من خالفك ، أيكون لنا الأمرُ من بعدك ؟
قال r:
- « الأمرُ إلى اللهِ يضعه حيث يشاء »
قال بَيْحَرَة :
- أفَتُهْدَفُ نحورُنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟! لا حاجة لنا بأمرك ؛ فأبوا عليه
ولم يكتف رسول الله rبعرض نفسه ودعوته على القبائل الوافدة في المواسم ؛ ولكنه « كان لا يسمع بقادم يقدَم مكة من العرب ، له اسم وشرف ، إلا تصدّى له فدعاه إلى الله ، وعرض عليه نفسه »
يَقَظَةٌ مستمرة ، ودعوةٌ مستمرة ، ومحاولةٌ مستمرة لاكتساب الناس من خارج مكة ومن داخلها ، أفراداً وجماعاتٍ ، لدينه ودعوته ، لا يُقْعِدُه عن ذلك تَعَبٌ ولا نَصَب ، ولا صدٌّ ولا ردّ ، ولا إيذاء ولا إخفاق
ومن جملة من التقى بهم أو سعى إليهم على مدَى سنواتٍ ناسٌ من الأَوْسِ والْخَزْرَجِ من المدينة
« قدمَ سُوَيْدُ بن صامت ، أحدُ بني عمرو بن عَوْف ، مكةَ حاجّاً أو معتمراً(2) ، فتصدّى له رسول الله r حين سمع به ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام
فقال له سويد :
- فلعلّ معك مثلَ الذي معي ؟
قال رسول الله r :
- « وما الذي معك ؟ »
قال :
- مَجَلَّةُ(3) لقمان
فقال له رسول الله r :
- اعرضها عليّ
فعرضها عليه ، فقال له : « إنّ هذا لَكلامٌ حسن ، والذي معي أفضلُ من هذا ، قرآنٌ أنزله الله تعالى عليّ ، هو هدىً ونور ، فتلا عليه رسول الله r القرآن ، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعُد منه ، وقال : - إن هذا لقولٌ حسن . ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتله الخزرج » .
فإنْ كان رجالٌ من قومه لَيقولونَ : إنّا لَنراه قد قُتل وهو مسلم . وكان قتلُه قبلَ يومِ بُعاث .
كان سُوَيْد فرصةً ضاعت ، ومُنطَلَقاً محتَمَلاً للدعوة لم يتحقّق ، ولكنّ رسولَ الله r يمضي في نهجه ومحاولته دون توقّف أو كَلَل
سمع رسولُ r بقدوم أبي الْحَيْسَرِ أنسِ بن رافع من المدينة إلى مكة ومعه فتيةٌ من بني عبدِ الأَشْهَل ، فيهم إياسُ بنُ معاذ ، يلتمسون الحِلْفَ من قُرَيْشٍ على قومهم من الخزرج ، فأتاهم فجلس إليهم ، فقال لهم :
- « هل لكم في خيرٍ مما جئتم له ؟
فقالوا له :
- وما ذاك ؟
قال :
- « أنا رسول الله ، بعثني إلى العباد ، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وأنزل عليَّ الكتاب ، ثمّ ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن
فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاماً حَدَثاً :
- أيْ قَوْم ، هذا واللهِ خيرٌ مما جئتم له
فأخذ أبو الْحَيْسر ، أنسُ بن رافع حَفْنَةً من تراب البطحاء ، فضرب بها وجهَ إياس بن معاذ ، وقال دعنا منك ، فَلَعَمْري لقد جئنا لغير هذا
فصمت إياس ، وقام رسول الله r عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعةُ بُعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياسُ بن معاذ أن هلك .
قال محمود بن لبيد راوي الخبر :
- فأخبرني من حضر إياسَ بن معاذ من قومه عند موته : أنّهم لم يزالوا يسمعونه يُهَلِّل الله تعالى ويكبِّره ويُحَمِّده ويسبّحه حتى مات ، فما كانوا يشكّون أن قدْ مات مسلماً ، لقد كان استشعرَ الإسلامَ في ذلك المجلس ، حين سمع من رسول الله r ما سمع »
وضاعت فرصةٌ أخرى ، وربما ضاعتْ غيرَها أيضاً فُرَصٌ ؛ ولكن رسول الله r يمضي في نهجه ومحاولته دون توقّف أو كلل بدء إسلام الأنصار :
قال ابن اسحاق :
- فلما أراد الله عزَّ وجلَّ إظهارَ دينه ، وإعزازَ نبيّه r ، وإنجازَ موعدهِ له ، خرج رسول الله r في المَوْسِم الذي لَقِيَه فيه النّفَر من الأنصار ، فعرض نفسَه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فبينما هو عند العقبة ، لقي رَهْطاً(4) من الخزرج أراد الله بهم خيراً .. »
قال لهم رسول الله r :
- « ألا تجلسون أكلمكم ؟ »
- قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن .. فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا :
- إنّا قد تركنا قومَنا ، ولا قومَ بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللهُ بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، وتعرضُ عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجلَ أَعَزُّ منك .
ثمّ انصرفوا عن رسول الله r راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدّقوا
قال ابن اسحاق :
- وهم فيما ذُكِرَ لي سِتّةُ نَفَر من الخزرج .. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله r ، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكرٌ من رسول الله r
- للكلام صلة -
الحواشي : (1) منعَ الجارَ : أجاره وحماه . (2)كان سُويْد إنما يسميه قومه فيهم الكامل – كما جاء في شرح سيرة ابن هشام . (3) المجلة : الصحيفة . وفي رواية : حكمة لقمان .
(4)الرهط : الجماعة من ثلاثة أو سبعة أو إلى عشرة ، أو ما دون العشرة .