بقلم: د. صلاح سلطان الخطوة الأولى: العلم: مما لا شك فيه أن طلب العلم يرفع الإنسان إلى أعلى الدرجات لقوله تعالى: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: من الآية 11). ويلحق بالملائكة الشهود على الوحدانية لقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران: من الآية 18)، وهو أول باب لمعرفة الرحمن، وفهم رسالة الإسلام، ومعرفة مداخل الشيطان، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد" (سنن الترمذي- كتاب العلم عن رسول الله- باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة- حديث رقم: 2681), وأقترح لذلك ما يلي: 1. الانتظام في حلقات تجويد وتفسير وحفظ القرآن الكريم كله أو جزء منه. 2. قراءة الأربعين النووية وحفظها وهي من أصح الأحاديث النبوية، ثم قراءة في كتاب رياض الصالحين بابًا كل أسبوع مع بعض إخوانك أو أخواتك في الله، وتجعلون الأهم هو التواصي بتطبيق ما جاء فيه. 3. دراسة السيرة النبوية من كتاب الرحيق المختوم للمباركافوري، أو كتاب آخر موثق. 4. دراسة الأخلاق الإسلامية، ولعل من أفضلها ما كتبه الشيخ الغزالي في كتابه "خلق المسلم". 5. دراسة مدخل إلى العقيدة الإسلامية في العقيدة الطحاوية والعقيدة الإسلامية لسيد سابق. 6. دراسة كتاب في علوم الحديث مثل كتاب مصطلح الحديث للشيخ محمود الطحان. 7. دراسة كتاب في أصول الفقه وأيسره الآن كتاب "تيسير أصول الفقه" للدكتور عبد الله الجديع، وإضاءات على متن الورقات د. عبد السلام بن إبراهيم الحصين. 8. دراسة مدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي. 9. تعميق الصلة باللغة العربية، وقراءة الشعر والأدب العربي بشكل منتظم، وتكوين ملكة لغوية تؤدي إلى أن تكون العربية لغة انتماء، وغيرها لغات استعمال. 10. قراءة في الفقه الإسلامي للحديث "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" رواه البخاري، ويحسن في هذا البدء بكتاب "فقه السنة"، ثم من أراد التوسع ففي كتاب "الفقه الإسلامي وأدلته" للدكتور وهبه الزحيلي، ثم قراءة في كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد. 11. قراءة كتاب "شمس الله تشرق على الغرب" للدكتورة زجريد هونكا، وهو أفضل ما كتب عن روائع الحضارة الإسلامية. 12. قراءة متأنية في كتب العلماء والدعاة الموثوق منهم خاصة الذين يجمعون بين الحجة الشرعية والخشية القلبية، ويلتزمون منهج الإسلام في الوسطية. 13. متابعة نشرات الأخبار في الفضائيات، والجرائد والمجلات الموثوق بها حتى يعلم المسلم ماذا يجري في العالم حوله عامة، ولأمته الإسلامية خاصة؛ حيث روى الحاكم بسنده عن حذيفة وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم" (مستدرك الحاكم- كتاب الرقاق- حديث رقم: 7902). هذه الخطوة ضرورية لأنها تربط الإنسان حقًّا بحقائق الوجود وأصله وهو الله تعالى، ثم رسالته في القرآن والسنة، وتاريخ الأمة وإنجازاتها الفقهية والأخلاقية والحضارية، وهي تحفظ للعقل نضارته ومرونته واتساعه، وتحفظ للقلب قوته، وصفاءه ونضارته، وتحفظ للمسلم وقته أن يكون رخيصًا مصروفًا فيما لا يغني، لأن هذه تعطي الإنسان تواصلاً دائمًا مع هموم أمته وعالمه، وتشعره بالمسئولية عن الإصلاح والتغيير الذي يجب أن يبدأ من النفس أولاً. الخطوة الثانية: مجاهدة النفس:- إذا كان العلم يزيل الشبهات، فإن المجاهدة للنفس هي التي تعالج الشهوات، ومجاهدة النفس لكبح جماحها وامتلاك زمامها، وحملها على ما يرضي ربها، وتصفية كدرها، وتنقية فطرتها، ولذا كان الأمر الرباني لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه بالقيام بالليل والذكر الدائم بالنهار، وهو أمر يحتاج إلى رياضة نفسية وعزيمة إيمانية، وهمة أخلاقية، وإرادة قوية. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت). والمجاهدة بغير علم كمن يقود شاحنة كبيرة إلى جبل وعر توشك أن تهوي في مكان سحيق، أو من بذل النفس والمال حميةً جاهليةً أو عصبية قبلية، أو من أجهد نفسه ليجمع مالاً لأولاده دون تربية إيمانية، فيلقى منهم عقوقًا وإنكارًا للجميل، وإهمالاً له في ذات كبره. قال تعالى: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)﴾ (التوبة). ويمكن بيان مجاهدة النفس من جوانب عدة أهمها ما يلي: 1. تعريف مجاهدة النفس: قال ابن منظور المصري في "لسان العرب" في تعريف المجاهدة بأنها مصدر جاهد يجاهد جهادًا ومجاهدةً وهو مأخوذ من مادة "ج هـ د" التي تدل على المشقة. ويقال المجهود هو اللبن الذي أخرج زبده لأنه لا يخرج إلا بتعب ومشقة؛ ولذا لا يقال اجتهد فلان في حمل حبّة، بل اجتهد في حمل صخرة، لما في الصخرة من المشقة والعناء، وسمي قيام الليل تهجدًا لما فيه من تعب ومعاناة في حمل النفس على ترك النوم في الفراش الوثير ليقوم بين يدي الله رب العالمين. أما المجاهدة للنفس اصطلاحًا فقد عرفها الجرجاني في كتاب التعريفات (204) بأنها محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع، وقال المناوي هي حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى، وقيل هي بذل المستطاع في أمر المطاع وهو الله عز وجل. ويبدو لي أن أعرف مجاهدة النفس بأنها حمل النفس على أداء الواجبات، والتزامات المكارم والمروءات، وترك المحرمات، والترفع عن السفاسف والمكروهات. 2. أهمية مجاهدة النفس: 1. نجد في الواقع بعضًا من الأطباء يدخنون أو يشربون الخمور وهم أعلم الناس بضررهما لكن شهوتهم تغلبهم ولا يعقل أن يكون إصلاحهم عن طريق شرح آثار التدخين والخمر لأنهم أعلم من غيرهم في هذا، لكن لا بد من تدريبهم على مجاهدة النفس حتى يمنع نفسه من إدمانها. 2. لو جلس أي إنسان في قاعات التدريس في أحسن الجامعات أو المعاهد التدريبية فتعلم فنون الخطابة، وقواعد السباحة، وآداب القيادة للسيارات فلن يجدي هذا العلم شيئًا حتى يجاهد الإنسان نفسه في مواجهة الجمهور خطيبًا، أو ينزل إلى عباب البحار أو حمامات السباحة، أو يتحرك بالسيارة في الطرقات، وهي تحتاج إلى مواجهة الخوف والهلع الذي يعتري كل من يبدأ شيئًا جديدًا مثل ذلك. 3. إن مواجهة ضغط شهوة الرجال إلى النساء أو النساء إلى الرجال والوصول إلى غض البصر وحفظ الفرج لا يحدث فقط باستحضار نصوص العفة، وعقوبة مقترف الزنا أو مقدماته، بل يلزم أن يواجه هذا الطوفان من سعار الشهوة بالصيام الذي هو وجاء لهذه الشهوة في وسط المثيرات حولنا، وبالقيام الذي يعظم الخشية لله، وبمواجهة النفس في نزواتها أن يخوض مع الخائضين سواء عن طريق الإنترنت أو التليفزيون أو الأفلام الهابطة والمجلات الفاسدة، ويلزم مع هذا إشغال النفس بالحلال الطيب من التريض، وأن يكون يومه وليله مليئين بالواجبات الشريفة، والأعمال الكثيفة فإن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أيما مفسدة كما قال الشاعر. 4. مهما توسع الأخ أو الأخت في حفظ النصوص الشرعية والآثار التربوية عن فضل القيام والصلاة مع الخشوع والخضوع، وسكب الدموع خشية رب الأرض والسماوات، فلن يحصل على انتظامه في القيام والصلاة على وقتها والخشوع في أركانها حتى يجاهد نفسه ويعصر قلبه، ويظل ذاكرًا لذنبه، متذكرًا موقفه بين يدي ربه، وعندئذ سيذوق حلاوة مجاهدته، ولذا قال أحد الصالحين: جاهدت نفسي في قيام الليل عامًا فذقت حلاوته عشرين عامًا، وهو معنى قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)﴾ (السجدة: ١٦). 5. يقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نفسي، مرة لي ومرة عليّ. ويقول الحسن البصري: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك. راجع إحياء علوم الدين للغزالي ص (3/71). 6. ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (172) أن أبا بكر الصديق كتب لعمر بن الخطاب عندما استخلفه: إن أول ما أحذرك منه نفسك التي بين جنبيك. فإذا كان سيدنا أبو بكر يرى أن أول الخطر من نفس عمر، ويرى سفيان الثوري أن علاج أهواء النفس من أشق الأعمال، ويرى الحسن البصري أن جهاد النفس أشد من اللجام للدابة الجموح، فإننا يجب أن نهتم في هذه الفتن المتراكبة والأهواء المتعاقبة، والأجواء الهابطة بأعلى درجات المجاهدة للنفس حتى يسلس قيادها، ولذا قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40)﴾ (النازعات). 7. ومن الآيات يبدو جليًا أن مدار الصلاح والنجاح والفوز بالجنة على جهاد النفس ومعالجة الأهواء، وأن الإخفاق في ذلك يورد الإنسان المهالك ويعرضه لغضبة ربه وشدة نقمته والاكتواء بناره. 3. صور من المجاهدة للنفس: 1- قصة طالوت: اجتاز قوم طالوت اختبارين ورسبوا في اختبار هوى النفس حتى مع المباح، حيث ادعى عشرات الآلاف أنهم يعزمون على الجهاد، فلما كُتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، وهؤلاء القليل كانت عندهم شبهات علمية في الفهم لصفات القائد، وخرج بعضهم وعالج العلم بعضًا آخر عندما ذكر لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم، ومع نجاحهم في الاختبارين، لكن يحكي القرآن بأسى شديد أن كثيرًا منهم لم يوفقوا في مواجهة أهوائهم، كما قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)﴾ (البقرة). 2- عرب الجاهلية لما أسلموا: لم يكن الأمر سهلاً أن يتحول عرب الجاهلية من مجالس السكر في الليل، والظلم بالنهار إلى عبّادٍ قائمين في الليل، وصوّامٍ خاشعين في النهار، حتى نزل القرآن في آخر سورة المزمل يطلب التخفيف على أنفسهم، بل مرّ هذا- قطعًا- عبر مجاهدة كبيرة للنفس. 3- روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أن أنس بن النضر قال- بعد أن فاتته غزوة بدر- لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون دخل يضرب في صفوف الكافرين حتى وُجد به بضع وثمانون ضربة بالسيف، وطعنة بالرمح ورمية بسهم، وقد قُتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. ونزل فيه قوله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ (الأحزاب: من الآية ٢٣)، وهذا قطعًا مرّ عبر مجاهدة كبيرة للنفس حتى ينال هذا الرضا الرباني. 4- هاجر كثيرٌ من هؤلاء المخلصين لدينهم وأمتهم إلى أوروبا وأمريكا والصين وأستراليا واليابان وكانت الأهواء حولهم تدعوهم إلى تلبية غرائز النفس والانغماس في شهوات المجتمع لكنهم كانوا أوفياء لدينهم وجاهدوا أنفسهم وأحيوا ليلهم بالقيام والذكر والدعاء والقنوت، وأحيوا نهارهم بالحركة والدعوة وبناء المراكز الإسلامية والمدارس والمؤسسات التي صارت واجهات للدعوة الإسلامية تقدم للناس النور والخير والهدى والرشاد، وهؤلاء أرجو أن يصدق فيهم حديث الإمام مسلم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إليّ"، والهرج هو الفتن واختلاط الأمور وقلة من يُعين على الطاعة؛ لأن العبادة هنا تحتاج إلى مجاهدة شديدة. 4. كيف نجاهد أنفسنا؟ هذا ماسنعرفه غدا الثلاثاء بأذن الله وجزاكم الله خيرا