على الرغم مما رأيناه في المقالين السابقين من اعتراف الرسول بغير المسلمين أيًّا كانت طوائفهم، وكيف كان قبوله لهم متجاوزًا كل مساحات الاختلاف العقائدي الشاسعة التي تفصل بينهم وبينه .. على الرغم من كل ذلك فإن السؤال التالي يطرح نفسه بإلحاح: هل اعترف الآخرون بالرسول أو بالمسلمين؟!..
ماذا كان موقف اليهود من رسول الله ؟!
لقد كان التكذيب والإعراض والإنكار من أول يوم!! فكل الشواهد تقول: إن اليهود كانوا يعرفون أمر رسول الله وهو بمكة المكرمة، وهو ما رجحه إسرائيل ولفنسون[1] في دراسته عن اليهود -وإن كنا نختلف معه في كثير من الآراء- إلا أن هذا الاستنباط يبدو صحيحًا..
يقول ولفنسون: «ونرجح أن اليهود لم يغفلوا عن الحركة الإسلامية لأنها متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية والاجتماعية، خصوصًا إذا لاحظنا اتجاه الدعوة الإسلامية صوب المدينة أواخر سنوات مكة، وميل زعماء الخزرج إلى الاتصال بالرسول ، ونحن نعلم ما كان بينهم وبين اليهود من الحقد؛ مما جعل زعماء بني النضير وقريظة يراقبون حركاتهم، ثم نعلم أن الإسلام لم ينتشر خفية في يثرب، وكان مصعب بن عمير[2] يدعو الناس إلى الله ورسوله على مرأى من جميع البطون، ثم إننا نعلم أن عددًا من تجار اليهود كان يشترك في مواسم الحج، فمن البعيد أن يجهل اليهود تلك الشئون...»[3].
وأضيف إلى ما قاله ولفنسون أن القرآن المكي صرَّح بأن علماء بني إسرائيل قد عرفوا صدق هذا الرسول ، قال تعالى في سورة الشعراء -وهي سورة مكية-: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197].
فكانت هذه آيةً للمشركين في مكة.. فمعنى ذلك أن المشركين سألوا اليهود عن صفة الرسول فوجدوه في كتبهم، فلا شكَّ أن اليهود قد عرفوا عند ذلك أن الرسول المنتظر هو محمد .
وقد ذكر ابن إسحاق[4] ما يؤيد ذلك، حيث حكى إرسال قريش للنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى يثرب لسؤال أحبار اليهود عن الرجل الذي بُعث فيهم، فدلَّهم أحبار اليهود على عدة مسائل جاءت في التوراة ولا يعرفها إلا نبيٌّ، وبالفعل حمل القرشيان هذه الأسئلة إلى رسول الله ، وأجاب عنها بما هو في كتب التوراة، وكان هذا الموقف سببًا في نزول سورة الكهف[5]، وهكذا وضح للجميع أن الرسول صادق.
وقد ذكر ابن كثير[6] -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] عدة روايات تشير إلى معرفة اليهود بأمر رسول الله في فترة مكة المكرمة.
اليهود والرسول في المدينة
وكل هذه الشواهد تؤكد أن اليهود ما كانوا يجهلون الرسول بصفته التي جاءت في كتبهم، وأنهم كانوا يتوقعون ظهوره في هذا الزمان، ثم مرت الأيام وهاجر رسول الله إلى المدينة، ومن أول أيامه هناك حاول أن يتقرب إلى اليهود قدر المستطاع لكونهم أهل كتاب، وإسلامهم ينبغي أن يكون متوقعًا.
ولم يكن هذا التقرب منه عن طريق المعاهدات فقط، إنما كان في أمور تعبدية مهمَّة، وخاصة بشعيرتين من أهم شعائر الإسلام، وهما الصلاة والصيام..
فالصلاة في أول فترات المدينة كانت إلى بيت المقدس في فلسطين -وهي قبلة اليهود، وقبلة الأنبياء السابقين- وظل ذلك الوضع لمدة ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا متصلة[7].
وأما الصيام فكان كصيام اليهود، وهو صيام يوم عاشوراء.
موقف إسلام عبد الله بن سلام
إذًا، كانت هناك خلفية علمية عند اليهود تشير إلى أن هذا وقت نبي آخر الزمان، وكان عندهم علم أن هذا الرسول قد تجمعت فيه الدلائل والمبشرات التي جاءت في كتبهم، ثم إنه يتودد إليهم ويتلطف بهم، ويعتبرهم امتدادًا طبيعيًّا للمؤمنين في حركة التاريخ في الأرض.. ومع كل هذا، فماذا كان ردُّ فعلهم لظهور رسول الله ؟!
لقد اعترف أقل القليل منهم بالرسول ، ووقعت منهم مواقف مخزية في الإنكار والإعراض، ومن أشهر هذه المواقف موقفهم من إسلام حَبرهم عبد الله بن سلام[8] t..
وموقف آخر يرويه صفوان بن عسَّال[11] t قال: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: لاَ تَقُلْ نَبِيٌّ؛ إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ!!
فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ،فَقَالَ لَهُما : «لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ».
قَالَ: فقَبَّلا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، فَقَالاَ: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ!!
قَالَ : «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟».
قَالا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لاَ يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِه نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ»[12].
فهذان اليهوديان رفضا الإيمان واتباع الرسول خوفًا على نفسيهما.. وهكذا كان عموم اليهود: بعضهم يُكذِّب جحودًا، وآخرون يكذبون رعاية لمصالحهم ووضعهم الاجتماعي والسياسي، وغيرهم يكذب لخوفهم على أنفسهم. وهكذا كان موقف اليهود منذ البداية تجاه رسول الله .
موقف حيي بن أخطب مع رسول الله
ولسنا ننسى في هذا الصدد موقف حُيي بن أخطب زعيم بني النضير مع رسول الله ..
تروي أم المؤمنين صفية بنت حيي -رضي الله عنها- فتقول: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني؛ لم ألقهما في ولد قط أهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله قباء (قرية بني عمرو بن عوف) غدا إليه أبي وعمي (أبو ياسر بن أخطب) مغلِّسين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهُوَ هُوَ؟!
قال: نعم والله!!
قال: تعرِفُهُ بنَعْتِهِ وصِفَتِهِ؟!
قال: نعم والله!!
قال: فماذا في نفسك منه؟
قال: عداوته -والله- ما بقيتُ[13]!! [1] إسرائيل ولفنسون: باحث يهودي حصل على درجة الدكتوراه من مصر تحت إشراف الدكتور طه حسين، وكانت أطروحته تدور حول اليهود في البلاد العربية.
[2] مصعب بن عمير: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرًا، وبعثه رسول الله سفيرًا إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن، ويعلمهم الدين. استشهد في غزوة أحد. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 4/36، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 8002.
[3] ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ص106-108، بتصرف.
[4] ابن إسحاق: هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار، رأى أنس بن مالك، وروى عن عطاء والزهري، كان صدوقًا من بحور العلم، وله غرائب في سعة ما روى، واختُلِفَ في الاحتجاج به، وحديثه حسن، وقد صححه جماعة. مات سنة 151هـ. انظر: الذهبي: الكاشف 2/156.
[5] ابن هشام: السيرة النبوية 1/210، 211، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/98.
[6] ابن كثير: هو الإمام الحافظ الحجة المؤرخ، عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي. ولد سنة 700هـ بقرية "مجدل" من أعمال دمشق. من أشهر مؤلفاته: "تفسير القرآن العظيم"، و"البداية والنهاية". ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/123، وابن العماد: شذرات الذهب 6/231.
[7] البخاري: كتاب أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 390، وأيضًا: كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة 4222، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة 525.
[8] عبد الله بن سلام: هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، من ولد يوسف بن يعقوب ^. كان حليفًا للأنصار، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله عبد الله. توفي بالمدينة سنة 43هـ. انظر: ابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 4725، وابن الأثير: أسد الغابة 3/176، وابن عبد البر: الاستيعاب 2/382.
[9] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {øŒÎ)ur tA$s% š•/u‘ Ïps3Í´¯»n=yJù=Ï9 ’ÎoTÎ) ×@Ïã%y` ’Îû ÇÚö‘F{$# Zpxÿ‹Î=yz} 3151، وأيضًا: كتاب الفضائل، باب كيف آخى النبي بين أصحابه 3723، وكتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة 4210.
[10] أحمد عن ابن عباس 2483، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 13902.
[11] هو صفوان بن عسال، غزا مع النبي اثنتي عشرة غزوة، وقد أتى النبي وهو متكئ في المسجد على برد له أحمر فقلت: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم. قال: "مرحبًا بطالب العلم؛ إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها". أخرجه الثلاثة.
[12] الترمذي 2733 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وذكره ابن ماجه مختصرًا 3705.