عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ .
قال المصنف : الصالقة : التي تَرْفع صوتها عند المصيبة .
في الحديث مسائل :
1 = هذا الحديث رواه البخاري تعليقا .
فإن البخاري قال : وقال الحكم بن موسى - فَذَكَرَ الإسناد والمتن – .
قال ابن حجر : وَقَع في رواية أبي الوقت حدثنا الحكم . وهو وَهْـم ، فإن الذين جَمَعُوا رِجَال البخاري في صحيحه أطْبَقُوا على تَرْك ذِكْرِه في شُيُوخِه ؛ فَدَلَّ على أنَّ الصَّوَاب رِوَاية الجماعة بِصِيغَة التعليق ، وقد وَصَلَه مُسلم في صحيحه .
2 = البراءة من صَاحِب مَعصِيَة يَدُلّ على عِظَم ذلك الذَّنْب . وهذه الأفعال المذكورة مِن الكَبائر .
3 = كان سُفيان بن عُيينة يُمسِك عن تفسير مثل هذا اللفظ لِيَكُون أوْقَع في النّفوس ، وأبْلغ في الزَّجْر .
وهذا مَسْلَك مُطَّرِد عند أهل العِلْم في أحاديث الوعيد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ عَنْ سُفْيَانَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . اهـ .
4 = الصَّالِقة : التي تَرْفع صوتها عند المصيبة . كما فسَّرَه الْمُصَنِّف رحمه الله .
وهو مأخُوذ مِن الصَّلْق ، وهو شِدّة رَفْع الصوت .
والْمُراد به في هذا الحديث رَفْع الصَّوت عند الْمُصِيبة تَسَخُّطا وجَزَعا .
وفي رواية لمسلم : " أنا بَرِيء مِمَّن حَلَق وسَلَق وخَرَق " ، والسَّلْق بِمعنى الصَّلْق .
5 = الْحَالِقَة : التي تَحْلِق شَعْرها عند الْمُصِيبَة خَاصَّة ، وإن كان يَحْرُم على المرأة حَلْق شَعِر رأسها عموما . إلا أنه أعْظَم عِند الْمُصِيبة ، وهذا يُؤكِّد على أنَّ الذَّنْب قد يَحْتَف به ما يَجْعله مُسْتَعظما .
6 = الشَّاقَّـة : التي تَشُقّ ثوبها عند المصيبة .
وسيأتي حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ليس مِنَّا مَن لَطَم الْخُدُود ، وشَقّ الْجُيوب ، ودَعَا بِدَعْوى الجاهلية .
7 = القاسم الْمُشْتَرَك بين هذه الأفعال : هو إظْهَار الْجَزَع والـتَّتسَخُّط ، وحَقيقة ذلك الاعْتِراض على أقْدَار الله .
وذلك أنَّ مَن رَضِي فله الرِّضا ، ومن سَخِط فعليه السُّخْط .
ويُلْحَق بِهذه الأشياء كُلّ مَا مِن شَأنه إظْهَار الْجَزَع والتَّسَخُّط ؛ لأنَّ الْحُكْم يَدُور مَع عِلَّتِه وُجُودا وعَدَما .
وقد بيّن ابن حجر أن الْحُزن لا يُنافي الرضا بالقضاء .
وقال في قول عائشة رضي الله عنها : لَمّا جاء النبي صلى الله عليه وسلم قَتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يُعْرَف فيه الحزن .
قال : ويؤخذ منه أن ظهور الحزن على الإنسان إذا أُصيب بمصيبة لا يُخرجه عن كونه صابرا راضيا إذا كان قلبه مطمئنا ، بل قد يُقال : إن من كان يَنْزَعج بالمصيبة ويُعَالِج نفسه على الرضا والصبر أرْفَع رتبة ممن لا يَبالي بِوقوع المصيبة أصلا ، أشار إلى ذلك الطبري وأطال في تقريره . اهـ .
وقال شيخنا العثيمين رحمه الله في ذِكر أنواع التسخُّط :
النوع الثالث : أن يكون بالجوارح كَلَطْم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور وما أشبه ذلك ، وكل هذا حرام مُنَافٍ للصبر الواجب .
وقال رحمه الله : إن اقترن بالْحُزن شيء مِن الْمُحَرَّم ؛ كَلَطْم الخدود ، وشَقّ الجيوب ، ونَتْف الشعور صار من هذه الناحية حراما ؛ لأنه اقترن بِفِعْل مُحْرَّم .
8 = فيه الْحَثّ على الصَّبر والتَّصَبُّر عند الْمُصِيبَة . وأنَّ الصَّبْر عِند الصَّدْمَة الأُولَى . كما في الحديث المتّفق عليه .
وأنَّ مَن لَم يَصْبِر صَبْر الْكِرَام ، سَلا سُلْوان البهائم !
وأن الرضا مَنْزِلة فوق التسليم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما " الرضا " فقد تنازع العلماء والمشايخ مِن أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء : هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين : فَعَلَى الأول يكون من أعمال المقتصدين ، وعلى الثاني يكون من أعمال المقرَّبِين .
قال عمر بن عبد العزيز : الرضا عزيز ، ولكن الصبر مُعَوّل المؤمن .
9 = لا يُعذِّب الله بِدَمْع العين ، ولا بِحُزْن القَلْب ، كما قال عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الإنسان لا يَتَحكَّم بِهذه الأشياء ، وإنّما يُعذِّب بِما تَجاوز ذلك مما يتحكّم فيه الإنسان ، ويَملِك التصرّف فيه ، مِن ضَرْب خُدود ، وشَقّ جِيوب ، ونِيَاحة ، وحَلْق شَعر أو جَزِّه تسَخُّطا وجَزَعا .
وسيأتي حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ليس مِـنَّا مَن لَطَم الْخُدُود ، وشَقّ الْجُيوب ، ودَعَا بِدَعْوى الجاهلية .
10 = جاء في روايات الحديث سَبَب إيرَاد أبي موسى للحديث ، وهو مَا رَواه البخاري ومسلم مِن طَريق أبي بُردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال : وَجِع أبو موسى وَجَعًا ، فَغُشِي عليه ورأسه في حِجْر امْرأة من أهله ، فلم يَسْتَطِع أن يَرُدّ عليها شيئا ، فَلَمَّا أفَاق قال : أنا بَرِيء مِمَّن بَرِئ مِنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِئ مِن الصَّالِقَة والْحَالِقَة والشَّاقَّـة .
وفي رواية لِمُسْلِم : أُغْمِي على أبي موسى ، وأقْبَلَت امْرَأته أم عبد الله تَصِيح بِرَنَّـة ، ثم أفَاق ، قال : ألم تعلمي ؟ وكان يُحَدِّثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا بَرِيء مِمَّن حَلَق وسَلَق وخَرَق .
وهذا يُؤكِّد أنَّ الْمَيِّت يُعذَّب بِبُكاء الْحِيّ ، إذا كان ذلك مِن عادة أهله ، وكان يَراهم حال تَكليفه ولا ينهاهم عن ذلك .
ولذلك أنْكَر أبو موسى هنا ، وتبرأ مِمَّن تبرَّأ مِنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد عقد الإمام البخاري بابًا ، فقال :
باب قَول النبي صلى الله عليه وسلم : " يُعَذَّب الْمَيت بِبَعْض بُكَاء أهْلِه عليه " إذا كان النَّوْح مِن سُنَّتِه ، لِقَول الله تَعَالى :( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ، وقَال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكُم رَاعٍ ومَسؤول عن رَعِيَّتِه " فإذا لم يَكُن مِن سُنَّتِه فَهو كَمَا قَالتْ عَائشَة رَضي الله عَنها : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، وهو كَقَولِه : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ذُنُوبًا (إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) ، ومَا يُرَخَّص مِن الـبُكَاء في غَير نَوْح ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تُقْتَل نَفْس ظُلْمًا إلاَّ كَان على ابنِ آدَم الأوَّل كِفْل مِن دَمِها ؛ وذلك لأنه أوَّل مَن سَنَّ القَتْل . اهـ .
وقوله رحمه الله : " فَهو كَمَا قَالتْ عَائشَة رَضي الله عَنها " أي : مِثل استدلال عائشة رضي الله عنها ، فإنها قد اسْتَدَلَّتْ بِهَذِه الآيَة على تَخْصِيص تَعْذِيب الْمَيِّت بِبُكَاء الْحَيّ بالْكَافِر .
والله تعالى أعلم .
hgfvhxm lAl~Qk jE/iAv hg[.u uk] hglwdfm hglwdfm hgfvhxm hg[au jE/iAv