قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)) [سورة الصف:2-3].
أخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال: كان ناس من المؤمـنـيـن قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لودِدنا أنَّ الله عز وجل دلَّنا على أحبِّ الأعمال إليه فـنـعمـل بها ، فأخبر الله تعالى نـبـيــه ، -صلى الله عليه وسلم- أن أحب الأعمال: إيـمـانٌ به ، لا شك فيه ، وجهادُ أهل معـصـيـتـه ، الذين خالفوا الإيمان ، ولم يُقِرّوا به.
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ…)) (1).
وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو مقرر في علم الأصول ، فإن الآية الكريمة ، تبقى أبعد مدى من الحادثة الفردية التـي نزلـت لمـواجهـتـهــا ، وأشل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها ، فهي تحيط بكل حالة من الحالات التي يقع فيها الانفصام بين الإيمان والحركة به أو بين القول والعمل ، أو العلم والعمل.
والعلم لا يراد به أصلاً إلا العمل ، وكل علم لا يفيد عملاً ، ولا يتوقف عليه حفظ مقاصد الشريعة ، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ، والعلم المعتبر شرعاً ، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله ، على الإطلاق ، هو العلم الباعث على العمل ، الذي لا يخلِّي صاحبه جارياً مع هداه كيفما كان. بل هو المقيد صاحبه بمقتضاه ، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً.
وعندئذ يصير العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة لصاحبه ، يأبى للعالم أن يخالفه ؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتياداً وإن تخلّف فإنـمـــا يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة (2).
وليس عالماً ذاك الذي لم يعمل بعلمه ، ولا يستحق وصف التكريم هذا ، فعن علي - رضي الله عنه - قال: (يا حملة العلم: اعملوا به ، فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافـــق علمه عمله ، وسيكون أقوام يحملون العلم ، لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم عـلانـيـتـهـم ، ويخالف علمهم عملهم ، يقعدون حِلقاً ، يباهي بعضهم بعضاً ؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم إلى الله عز وجل).
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: (العالم الذي وافق علمه عمله ، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله) .
وقال الثوري: (العلماء إذا علوا عملوا ، فإذا عملوا شُغِلوا…). وقال: (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل)(3).
فالذين لا يعملون بعلمهم ولا يتسق سلوكهم مع عملهم ، فضلاً عن أن يكونوا من الراسخين في العلم ، وإنما هم رواة أخبار وحفظة أسفار ، والفقه فيما رووه أمر آخر وراء هذا. أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم.
وهـنــا ينبغي أن يوجّه اللوم ، والعتاب كلُ العتاب ، لمن يفعل ذلك ، وحـسـبــك أن الله تعالى سـمّـــى ذلك الانفصام بين القول والعمل مقتاً ، بل جعله أكبر المقت وأشدّ البغض ، فقال: ((كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)).
وما سمَّى الله تعالى شيئاً بهذا الاسم ، ولا أطلقه عليه إلا في أمرين:
أولهما: الجدال في الله وآياته بغير سلطان وعلم ، فقال سبحانه: ((الَذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بـِغَـيْـرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وعِندَ الَذِينَ آمَنُوا)) [غافر/35].
وثانيهما: نكاح الرجل زوجة أبيه المتوفى عنها أو المطلقة ، كما كان يفعله الجاهليون ، فقال سبحانه وتـعـــالى: ((ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ومَقْتاً وسَاءَ سَبِيلاً))[النساء/22].
ومن هذا نعلم عظم الآفة الكبيرة والداء الخطير في الانفصام بين القول والعمل ، أو بين الإيمان والسلوك.
إن الإيمان ليس مـجـــرد كـلـمـات يديرها الإنسان على لسانه ، ويتحلى بها أمام الناس ويتشدق بها في المناسبات دون أن يكون لها أثرها في سلوكه وواقعه ، ودون أن تترجم إلى واقع حي يراه الناس ، فيكون هـــذا الـواقـع العملي الظاهر والالتزام مؤشراً على الإيمان الصحيح وعمقه في نفس صاحبه.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله تعالى -:
(إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظـهــرت آثــاره فـي السـلــوك والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية ، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور ، تـتـحـرك لـتـحـقــق مدلولها في الخارج ، ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى حركة في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضع يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية لتبقى حية متصلّة بالينبوع الأصيل) (4).
والمؤمن لا يخالف قوله فعله ، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير والبر ، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن يدعوهم ، وليكون لـكــلامــه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم ، بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه ، ليروا فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمـامـهـــم على الأرض وليـشـعّ بنوره على من حوله ، فيضيء الطريق للسالكين ، وتنفتح عليه العيون ويقع فـي القلوب ، فيحمل الناس بذلك على التأسي والاتباع.. فهو يدعو بـسـلــوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أســــوة ، فـقـد كان عليه الصلاة والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به ، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم.
وعن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - فقلت: أخبريني عن خلق رسول اله -صلى الله عليه وسـلــم- ، فـقـالـت: أمـا تقرأ القرآن؟ قلت: بلى ، قالت: »كان خلقه القرآن« (5) ، فمهما أمره القرآن بشيء امتثله ، ومهما نهاه عنه تركه.
وهــي إجـابــة دقيقة من عائشة - رضي الله عنها - وهي إجابة موجزة جامعة أيضاً ، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات العظمة ، فحسبك أن يكون عليه الصلاة والسلام ، ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن الكريم ، فإذا أردت أن تعرف أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فانظر إلى القرآن الكريم واقرأ ما فيه من آيات تحث على الأخلاق ، وإذا أردت أن ترى القرآن الكريم واقعاً عملياً في حياة الناس فانظر إلى خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وادرس سيرته بكل وعي وعناية واهتمام وبقلب مفتوح عـلــى الخير ، وبعزيمة صادقة ، تحمل على التأسي والمتابعة.. فكل واحد منهما يدل على الآخر…