إنَّ بناءَ الحضارة الإنسانيَّة مهمَّة شاقَّة تستغرِقُ زَمَنًا طويلاً، مِلؤُه العملُ الجادُّ الدَّؤوب، الذي ينبعثُ من همَّةٍ عالية وعزمٍ أكيد، ويشارك في بناء الحضارة شتَّى فئاتِ المجتمع، مع تفاوُت طاقاتها، وتنوُّع مَهاراتها؛ فمثلاً يُشارِكُ علماء الشريعة في البناء عن طريق إرساء الأسس الأخلاقيَّة والعقَديَّة للمجتمع، وكذلك يُشارك العلماء والمفكِّرون والإداريُّون في بناء الهيكل المادي للحضارة، مُتمثِّلاً في مُنشآت مختلفة الوَظائف، تعملُ سويًّا في تَناغُم خطط له نحو وجهةٍ واحدةٍ ومَصَبٍّ مُشترَك.
إنَّ البناء مسؤوليَّةُ الجميع، ولكلِّ فردٍ نصيبُه بحسَب وعيِه وإدراكه للرسالة العُظمى المَنُوطة بالمجتمع المسلم، وهي عبادةُ الله وعِمارةُ الأرض وفْق وحيِه وشرعِه.
في هذا المقال سوف نتحدَّثُ عن عادةٍ حميدةٍ تزيدُ من نصيبنا في بناء المجتمع المسلم، وترتَقِي بعَطائنا وتُعجِّل من نُضج الثَّمرة، وسوف نستنبطُ هذه العادة الحميدة من حديثٍ نبويٍّ عظيم؛ عن أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه - قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ جاء رجلٌ على راحلةٍ له، فجعَل يصرفُ بصرَه يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كان معه فضلُ ظهرٍ، فليعدْ به على مَن لا ظهرَ له، ومَن كان معه فضل زادٍ، فليعدْ به على مَن لا زاد له))، فذكَر من أصناف المال ما ذكَر، حتى رأينا أنَّه لا حقَّ لأحدٍ منَّا في فضلٍ؛ رواه مسلم.
في هذا الحديث نصيحةٌ نبويَّةٌ على المشاركة بالفضل والزائد من الأرزاق والنِّعَمِ؛ لكي يعمَّ الخير مساحةً أكبر في المجتمع المسلم، ويَذكُر الحديث مِثالَيْن من الفضْل، هما: الفضل في الظَّهر؛ أي: الراحلة، والفضل في الزاد ممَّا يُؤكَل ويُشرَب، والعِبرة في الحديث تتعدَّى هذين المثالين إلى كُلِّ أنواع الفضل، كما أشار إلى هذا راوي الحديث.
وفي هذا المقام سوف نَذكُر نوعَيْن من الفضل يحتاجُ إليهما المجتمع المسلم:
الفضل في الوقت، والفضل في العِلم والمهارات المختلفة.
إنَّ المشاركة بالوقت والعِلم عادةٌ إسلاميَّة أصيلةٌ اصطَلح البعضُ في عصرِنا على تسميتِها بالعمل التطوُّعي أو الخيري.
إنَّ الناظر في بعض المجتمعات لَيَرى الكثيرَ من الأوقات المهدَرة، والطاقات المعطَّلة، التي تضيع في الترفيه أو في الراحة الزائدَيْنِ عن الحاجة، ولو نظَرْنا في التاريخ لأدرَكْنا أنَّ انتشارَ الإسلام في أرجاء المعمورة ما هو إلا نتيجة لتضحيات الصَّحابة والسَّلف الصالح، وعملهم التطوُّعي، وتركهم لأوطانهم وأهليهم في سبيل الجهاد والدعوة إلى الله.
إنَّ الكثير من المنشآت والمؤسَّسات الخيريَّة يحتاجُ إلى المتطوِّعين؛ نظرًا إلى ضَعْفِ الموازنات الماليَّة، أو إلى زيادةٍ في عدد المنتفِعين من خِدماتها.
ونذكُر بعض هذه المنشآت للمثال لا للحصر: لجان البِرِّ التي تجمعُ الصَّدقات وأموال الزكاة، والمنشآت والهيئات التي تتخصَّص في الدعوة إلى الله وتعليم عُلوم اللغة العربيَّة والشريعة للمُقيمين في هذه البلاد، والمستشفيات الطبيَّة الخيريَّة التي تُعِينُ الدُّوَل الإسلاميَّة الفقيرة.
إنَّ العمل التطوُّعي هو مشاركةٌ إيجابيَّة في بناء الحضارة، وهو نوعٌ من أنواع الصَّدقات التي يقبَلُها الله طيِّبةً ممَّن طابت نيَّتُه؛ فيُنمِّيها له ويدَّخر أجرَها عنده ليومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم، وعملٍ خالص صالح مقبول.