لقد كانت الحقيقة الأولى التي ظهرت في الأرض عند نزول جبريل عليه السلام لأول مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الدين الجديد "الإسلام" دين يقوم على العلم ويرفض الضلالات والأوهام جملة وتفصيلاً..
فقد نزل الوحي أول ما نزل بخمس آيات تتحدث حول قضية واحدة تقريبًا، وهى قضية العلم.. قال تعإلي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [1].
وهذا النزول الأول بهذه الكيفية عجيب من عدّة وجوه..
فهو عجيب لأن الله عز وجل قد اختار موضوعًا معينًا من آلاف المواضيع التي يتضمنها القرآن الكريم وبدأ به، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتنزل عليه القرآن أميٌ لا يقرأ ولا يكتب، فكان واضحًا أن هذا الموضوع الأول هو مفتاح فهم هذا الدين، ومفتاح فهم هذه الدنيا، بل وفهم الآخرة التي سيُقبل عليها الناس أجمعون.
ثم هو عجيب لأنه نزل يتحدث عن قضية ما اهتم بها العرب كثيرًا في هذه الآونة في عمق التاريخ، بل كانت الخرافات والأباطيل هي التي تحكم حياتهم من أولها إلى آخرها.. فكانوا يفتقرون إلى العلم في كل المجالات، اللهم إلا في مجال البلاغة والشعر، فكان هذا هو الميدان الذي تفوق فيها العرب وبرعوا، ولذلك نزل القرآن - وهو الأعجب - يتحداهم في هذا الذي برعوا فيه، معلنًا لهم أنه ينادى بالعلم والتفوق فيه في كل الجوانب، بما فيها تلك التي يجيدونها.
ثم هو عجيب أيضًا لأنه اختار وسيلة من وسائل التعلم تُعد الأشقّ والأصعب بين كل الوسائل، وهى القراءة.. لكنها ولا شك أرسخ من غيرها، فهي أرسخ من مجرد السماع، أو النظر، أو مجرد الاستنباط أو الاستنتاج..
فهو يُعْلِم للناس جميعًا من أول يوم ومن أول لحظة، أن الذي يريد أن يرتبط بهذا الدين لابد أن يبذل مجهودًا مُضنيًا في العلم والتعلم والقراءة.
لقد كان الإسلام بمثابة ثورة علمية حقيقية في بيئة ما ألفت روح العلم وما تعودت عليه، لدرجة أن المرحلة السابقة لنزول أول كلمات القرآن تعرف باسم "الجاهلية "!!.. فصفه "الجهل" ترتبط بما هو قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام ليبدأ العلم، ولِتُنَار الدنيا بنور الهداية الربانية.. قال تعإلي: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [2].
فليس هناك مكانٌ في هذا الدين للجهل أو الظنِّ أو الشكِّ أو الرِّيبَة.
لقد أمر الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم منذ الأيام الأولى للرسالة أن يعرض عن الجاهلين الذين يتمسكون بجاهليتهم، ويرفضون العلم.. قال تعإلي: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [3].
كما كان واضحًا منذ الأيام الأولى لهذا الدين أنه يرفض المناهج الظنية، وعليه فلا يمكن أن يبنى شرائعه وأحكامه وقوانينه وتصوراته ونظرياته إلا على أساس من إليقين.
فهذا رب العالمين سبحانه يقول في إعجازٍ ظاهرٍ يصف حياة الكافرين والمعرضين عن دينه عز وجل بقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [4].
فجعل الله عز وجل الفارق الرئيسي بين المؤمنين وبين الكافرين هو قضية العلم.. فالمؤمن يعلم والكافر يظن.. والمؤمن يبنى على إليقين، والكافر يبنى على الشك.
ولم تكن البداية فقط في هذا الكتاب المعجز "القرآن" هي التي تتحدث عن العلم وقيمته وأهميته، بل كان هذا منهجًا ثابتًا في هذا الدستور الخالد، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من الحديث عن العلم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ولقد فوجِئت مفاجأة كبيرة عندما قمت بإحصاء عدد المرات التي جاءت فيها كلمة "العلم" بمشتقاتها المختلفة في كتاب الله عز وجل؛ إذ وجدتها - بلا مبالغة - قد بلغت 779 مرة !! أي بمعدل سبع مراتٍ - تقريبًا - في كل سورة!!
وهذا عن كلمة "العلم" بمادتها الثلاثية (ع ل م)، إلا أن هناك كلمات أخرى كثيرة تشير إلى معنى العلم ولكن لم تُذكر بلفظه، وذلك مثل: إليقين والهدى والعقل والفكر والنظر والحكمة والفقه والبرهان والدليل والحجة والآية والبينة.. وغير ذلك من معانٍ تندرج تحت معنى العلم وتحثُّ عليه.
أمّا السنة النبوية فإحصاء هذه الكلمة فيها يكاد يكون مستحيلاً..
فقد وردت كلمة "العلم" في صحيح البخاري أكثر من ثلاثمائة مرة، وهذا كتاب واحد من كتب السنة، وهو في ذات الوقت ليس بأكبرها حجمًا؛ إذ أن هناك من كتب السنة ما يحوي أضعاف ما في صحيح البخاري، مثل صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجة والدارمي والبيهقي، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، وكذلك معجم الطبراني وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وغيرهم وغيرهم..
بل إن الملاحظ أن الاهتمام بقضية العلم لم يكن منذ أول لحظات الإسلام ونزول القرآن فقط، وإنما كان ذلك منذ بداية خلق الإنسان نفسه.. كما حكى ذلك القرآن الكريم في آياته!!
فالله عز وجل خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، ثم ذكر لنا وللملائكة سبب هذا التكريم والتعظيم والرِّفعة.. فعيّن أنه "العلم"..!!
لم يتفوق آدم عليه السلام على الملائكة بطول قيام، ولا بكثرة ذكرٍ أو تسبيحٍ، ولا بقوةٍ خارقة، ولا بطاعةٍ مطلقة.. فهذه الأمور كلُّها مما تتفوق فيها الملائكة بلا منازع، وإنما تفوق عليهم فقط في قضية "العلم"..
ومن أجل ذلك رفعه الله عز وجل فوق مصافِّ هؤلاء الملائكة العِظام وفضَّله عليهم، بل وأسجدهم له عليه السلام.
وهكذا كانت القضية منذ اللحظات الأولى لخلق آدم عليه السلام واضحة جلية.. فما إن يتمسك الإنسان بالعلم، ويحرص عليه، ويبذل الجهد في تحصيله، إلاّ استحقَّ أن يكون خليفة الله في الأرض، وما إن يألف الجهل ويتعوَّد عليه، أو يزهد في العلم، ويبتعد عنه، ويرضَ منه بالقليل.. فإنه - لا ريب - يكون قد فَقَدَ مؤهلاتِ هذه الخلافة، ومن ثَمَّ لا يصلح أن يكون عبدًا صالحًا مرفوع الذكر معظَّم الشأن..
ولم يكن الاحتفال بقيمة العلم منذ أول خلق "الإنسان" فقط، بل ظهر هذا الاحتفال قبل خلق الإنسان!! فإن الله عز وجل خلق أول ما خلق "القلم"، أداة العلم الأولى والخالدة، وذلك كما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلى الْأَبَدِ" [7].
وهكذا نجد أن العلم أمرٌ محوري ورئيسي في الحياة الإنسانية التي وجدت على ظهر الأرض، وسيظل كذلك إلى يوم القيامة.
ومن هنا لم يكن الأمر من باب المبالغة حين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه إلى أن الدنيا بكاملها لا قيمة لها - بل هي ملعونة - إلا إذا ازدانت بالعلم وذِكْر الله عز وجل..
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاّ: ذِكْرَ اللَّهِ، وَمَا وَالَاهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا" [8].
بل إنه إذا اختفى العلم من الدنيا، فإن الحياة فيها تصبح مستحيلة، أو لامعنى لها، لهذا فإن اختفاء العلم يكون إيذانًا بقرب قيام الساعة..
يروي في ذلك البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا" [9].
ورفعُ العِلم هذا لا يكون بمحوه من الصدور، ولكن يُرفع بموت العلماء..
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَاد،ِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" [10].
ولذلك فإن موت العالِم هو الكارثة الحقيقية، والتي هي أشد من كوارث الزلازل والبراكين؛ لأنه بغياب العالِم تفسد الأرض، ويجهل الناس الغاية من خلقهم، ومن ثم تصبح الحياة بكاملها لا قيمة لها..
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار، أهون من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه" [11]!!
ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه - كاتب الوحي ومن علماء الصحابة الأجلاء - قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه" [12].
[1] (العلق: 1 - 5). [2] (المائدة:50). [3] (الأعراف: 199). [4] (النجم: 28). [5] (الجاثية: 32) [6] البقرة: 30 - 34. [7] الترمذي: كتاب التفسير، باب تفسير سورة "ن" (3319)، والحاكم (3693)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والطيالسي (577)، والطبراني في الكبير (12500)، والبيهقي في سننه (20664)، وأبو نعيم في الحلية 5/248، وقال الألباني: صحيح (2017) صحيح الجامع. [8] الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (2322)، والدارمي (322)، والطبراني في الأوسط (4072)، والبزار (1736)، والبيهقي في شعب الإيمان (1708)، وقال الألباني: حسن (1609) صحيح الجامع. [9] البخاري: كتاب العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل (80)، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه (2671)، والترمذي (2205)، وابن ماجة (4045)، وأحمد (12829)، وأبو يعلي (3062). [10] البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم (100)، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه (2673)، والترمذي (2652)، والدارمي (239)، وابن حبان (4571)، والطبراني في الأوسط (55). [11] الحارث بن أبي أسامة، الحافظ نور الدين الهيثمي: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 2/813.