الحمد لله الذي أنزل القرآن تبيانًا لكل شئ، وهدىً ورحمةً للمؤمنين، فَمَا من شئ يهُمُّ المسلم في دنياه أو أخراه، في نفسه أو في ولده، أو في بيته أو في مجتمعه، إلا والقرآن الكريم وضَّحه وبيَّنه بأجلى بيان، وأصحِّ تبيان.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبدِ الله، علم الهداية الربَّانية، وسرّ العناية الإلهية، ومشكاة الأنوار القدسية، وعلى آله أهل الشريعة الإسلامية، وأصحابه المتجملين بتلك الأحوال القرآنية، وكل من اهتدى بهديهم، أو تجمل بأحوالهم، أو سار على دربهم إلى يوم الدين، آمين.
وبعد، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
{ مَنْ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لاَ يُصْبِحْ وَلاَ يُمْشِي نَاصِحاً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ } [1]
أي أن كل مسلم يجب أن يفكر في أمور المسلمين، ومشاكل المؤمنين، بقَدْرِ ما يفكر به في مشاكل نفسه أو أكثر، خاصة وأن هذه المشاكل قد كثرت، والبلاء بها قد عمّ، بل إن الأمر قد انتهى إلى أزمة مستحكمة في الأخلاق والمعاملات، لا يجد كثيرٌ من الناس لها مخرجًا، وأصبح الأمر كما يقول أحمد شوقي:
وإذا أُصِيبَ النَّاسُ في أَخْلاقِهِم فَأَقِـمْ عَلَيْهِمْ مَأتَماً وَعَوِيلا
ويعكف الخبراء والعلماء الآن على بحث الطرق السديدة للنهوض بمجتمعنا- اقتصاديًا، وعلميًا، وثقافياً، وأخلاقيًا، وغيرها - ولكنهم لا يهتدون لذلك، لأنهم يبحثون عن الحل في تجارب الآخرين!!!
فينظرون مثلاً إلى تجربة روسيا فيقومون بتنفيذها في مجتمعنا، مع علمهم - علم اليقين - أن لكل مجتمع طباعه وعاداته، وأخلاق أهله التي ينفرد بها عن سواه.
فإذا لم تفلح هذه التجربة، نظروا إلى تجربة أمريكا فيطبقونها، فإذا ثبت فشلها، اتجهوا إلى اليابان أو إلى ألمانيا، وهم في كل ذلك يريدون أن يطبقوا علينا مبادئ القوم ومُثُلَهُم لعلنا نصير يوماً إلى مثل حالهم في الدنيا - من العلوِّ في الأرض، والزخرف والزينة ...
ونسوا أن أساس الإصلاح في أي مجتمع من المجتمعات هو الفرد نفسه!! وهذا لا تقومه القوانين، ولا تصلحه اللوائج ولا التوصيات والتعليمات، وإلا فأى قانون يستطيع أن يمنع الغش نهائياً؟!! وأي قانون يمنع الغِيبَةَ والنميمة، والمكر والخداع، واللؤم والخيانة؟!!
لا يوجد إلاَّ قانونٌ واحد .. هو قانون السماء، الذي أنزله الله في دستوره -القرآن الكريم - ووضع يده عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وأسَّس عليه دولة المؤمنين في زمانه وإلى يوم الدين، وإلى هذا الإشارة بقوله الإمام مالك رضى الله عنه:
{ إنما يُصلح أخرَ هذه الأمة بِمَا صَلُحَ به أولها } [2]
وأولها لم يستمدوا مدنيتهم وحضارتهم من الفرس ولا من الروم، وإنما أخذوها من نور كتاب الله عز وجل .
وأساس إصلاح الأفراد - والذي يتوقف عليه إصلاح المجتمعات - هو إصلاح النفوس والضمائر، لأن النفوس إذا صلحت، والضمائر إذا طهرت، لا يحتاج الناس إلى من يمنعهم من الغشِّ، لأن الرقيب في صدورهم، والمشرف عليهم والمحاسب لهم قلوبهم وأفئدتهم. فلا يرهبون من ذي سلطان، لأن سلطان الضمير أبلغ في التوبيخ والتقريع - إذا كانت النفس الأمارة بالسوء هي المهيمنة على تصرفات - وسلوك الإنسان، والنفس الأمَّارة هي المهيمنة على أهل النفاق وكل من لا إيمان له.
فكل من لا ينقعد في قلبه الإيمان كما جاء به النبي العدنان صلى الله عليه وسلم - وإن تظاهر يوماً بين الناس بالأمانة والصدق والمروءة - فهو داخل في قول الله عز وجل فى [53- يوسف]: { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وإنما يكون تظاهرهم بالأخلاق الكريمة لخداع غيرهم، حتى يقعوا تحت سطوتهم، وبعد ذلك ينفذون فيهم مخططاتهم الإبليسية من الغدر والخداع واللؤم والخسة.
والذي يرحمه الله بالإيمان، ويهذب نفسه بالقرآن، هو الذي يصلحه الله، فينبه في داخله النفس اللوَّامة التي أقسم بها الله في قوله:
{ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [3- القيامة]
فتلومه وتوبخه عندما يعصى الله، أو يفعل ما نهى عنه الله، أو يخالف في صغير أو كبير هَدْىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرد الذي يتربى على ذلك لا يحتاج إلى مَنْ يمشي حوله ليراقبه من الشرطة أو المخابرات، ولا يحتاج إلى من يفاجئه في عمله أو في تجارته من أي جهة من الجهات، لأن الرقيب الإيماني الذي بداخله يمنعه أن يتصرف أي تصرف - بأي جارحة من جوارحه - دون الموافقة على ذلك، من هيئة الرقابة الإيمانية التي تسكن في صدره وفؤاده ولسان حاله يردد قول القائل:
إذا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوماً فَلا تَقُـلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَىَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفِـلُ سَاعَــةً وَلا أَنَّ مَا تُخْفِـي عَلَيْهِ يَغِيبُ
فهذا جنديٌّ منهم يدخل قصور كسرى – بعد ما فُتحت للمسلمين - ويعثر على صندوق كبير يحوي مجوهرات وحُلِيَّ نساء كسرى، فيحمله على حالته ويسلمه للقائد، فيفتحه وينظر ما فيه فيتعجب ويقول له: هل رأيت ما فيه؟!! قال: نعم. قال: ما اسمك؟ قال: ولماذا؟ قال: لنُكَرِّمُك!
قال: لو أردت بذلك كرامتي عندك ما جئتك به لأن فيه الغناء!! فاستدرك القائد قائلاً: نرسل في أمرك إلى عمر ليعلم بفعلتك هذه هو وأصحابه فيثنوا عليك بسببها. فقال الرجل:
إني لم أعمل ذلك من أجلك ولا من أجل عمر، وإنما عملته لله عز وجل ، ولا أريد أن يعلم بعملي هذا أنت ولا عمر:
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [105- التوبة].
هذا الذي ربَّى عليه مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ.
فتجد الرَّجُلَ منهم عارى الجسد إلاَّ الذي يستر عورته، وجائع البطن لكنه لو عرضت عليه كنوز الدنيا كلها تجده زاهدا فيها، لماذا؟!
خوفًا من الله عز وجل ، ومراقبة لله سبحانه وتعالى.
لا يمنعه قانون ولا يخوِّفُه مراقبون، إلا هيئة الرقابة التي بداخله - والتي لا تُفتح إلا بصدق اليقين في هذا الدين - فهي التي تمنعه من مثل هذا. فإذا سألته ما الذي يمنعك؟ يقول: منعني الله، وما الذي جعلك تترك هذا؟ يقول: نهاني الله، لأن في قلوبهم نَفْساً تتلقى عن الله عز وجل أوامره، وتُصدرها لهذا الجسم ليكون سائراً على ما يُحِبُّه الله ويرضاه.
والذي أسعد هؤلاء القوم وبلَّغهم المنازل العالية، وجعلهم يجتاحون في زمانهم الأمم الراقية، لا يرجع إلى أنَّهم ربُّوا أبناءهم في مدارس أجنبية، أو لأنهم حفَّظوهم لغات أجنبية، وإنما لأنهم علموهم هذه اللغة الإلهية، وجعلوهم في كل نَفَسٍ يراقبون الذات العليَّة!! وشعارهم:
( نَزِّه الله أن يراك حيث نهاك، أو يفتقدك حيث أمرك ).
وكان اعتناء الحكومة في زمانهم شديدًا في تفقد هذه التربية، فيخرج عُمَرُ إلى البادية - والتي هي بعيدًا عن العاصمة - ليتفقد هل وصلتهم هذه التعليمات الإلهية؟ فيجد ولدًا صغيرًا يرعى أغناماً فيناديه - وهو لا يعرف أنه خليفة المسلمين - ويقول: يا غلام بِعْ لِي شاة من هذا الغنم، فقال الغلام، إنها ليست لي، وإنما أنا أجير وهي ملك سيدي. فقال:
يا غلام، قُلْ له أن الذئب أكلها. فقال الغلام: يا سيدي إذا قلت هذا لسيدي الصغير - هنا في الدنيا - فماذا أقول غداً لسيدي الكبير يوم القيامة؟!!
ويمشي في طرقات المدينة بالليل يتفقد هذا الخُلُق - وهو مراقبة الله عز وجل - فيمشي بمفرده، وليس حوله حاشية ولا حرس - لأنه يحرُسُه إيمانُه، وعدالتُه بين الناس في زمانه - فيسمع حواراً يدور بين أمٍّ وابنتها - تختبر فيه صدق إيمانها - فتقول لها:
يا بُنيَّة، ضعي على اللبن قدراً من الماء قبل أن نبيعه في الصباح. فقالت البنت: يا أُمَّاه، أمّا علمت أن أمير المؤمنين قد نهى عن خلط اللبن بالماء؟!!
فقالت الأم: يا بُنيَّه، وهل أمير المؤمنين يرانا الآن؟
فقالت البنت: يا أُمَّاه إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا فإنَّ الله عز وجل يرانا، فوضع حجرًا أمام الباب حتى يعرفه في الصباح. وفي الصباح جمع أولاده وقال لهم عمر رضى الله عنهم:
يا بَنِِىّ، لقد كَبُرَ سني وَضَعُفَتْ قوتي، ووالله لو كان بي قوة لتزوجت من هذه الفتاة، مَنْ مِنْكُم يتزوجها، وأنا أتكفل له بجهازها كلِّه؟
فقال ابنه عاصم: أنا، فتزوجها فولدت فتاةً جاء منها عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس للخلفاء الراشدين، لأنه من بذرة منتقاة أُسِّسَتْ على تَقْوَى الله، وعلى مراقبة الله عز وجل في السرِّ والعلن، فهذه التربية الإيمانية التي تؤسس على المبادىء التالية:
- مراقبة الله عز وجل فى السر والعلن.
- إخلاص العمل لله.
- والصدق.
- والأمانة ...
هي وحدها التي تستطيع حلَّ مشاكل مجتمعنا بِرُمَّتِهَا - بل حلَّ مشاكل البشرية كلِّها، لو سمحت لها الظروف بتطبيق مُثلها وقيمها الإسلامية.
وهذا الذي دعانا إلى عمل مثل هذا الكتاب، والذي يتحدث عن تربية القرآن للمسلم - وليداً ورضيعاً، وطفلاً وصبيًّا، وشابًا ورجلاً - ليكون رَجُلاً من الرجال الذين يقول الله في شأنهم:
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [110- آل عمران].
ونرجو أن يطلع عليه إخواننا المؤمنون، ويسيروا على نهج القرآن في تربية أنفسهم وأولادهم، لعل الله عز وجل ينظر إلينا بعين عنايته فيصلح أحوالنا، وينقلنا من ذلِّ المعصية إلى عزِّ الطاعة، ومن التَّبعيَّة لغيرنا إلى السِّيادةِ بمُثُلِنَا وقيمنا وتعاليم ديننا، فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه :
{ إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره } [3]
نسأل الله عز وجل أن يجعل بنا وعلى أيدينا إعادة مجد الإسلام، وإصلاح أحوال المسلمين وأن يجعلنا من المعنيين بخطابه في قوله عز وجل : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [55النور].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] عن حذيفةَ رضى الله عنه، جامع المسانيد والمراسيل
[2] فتاوى ابن تيمية.، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.
[3] مصنف ابن أبي شيبة، عن طارق بن شهاب
عجائب ولادة المسلم جعل الله عز وجل للمولود في الإسلام أمرًا عجيبًا، وشأنًا غريبًا، وذلك تأسيًا بميلاد رسل الله الكرام ورسول الله صل الله عليه وسلم. فقد كانت ولادته خرقًا للعادة - وليست كأي ولادة عادية - لأنه :كان يُسَّبِحُ في بطن أمه، ويُسْمَعْ تسبيحه وصوته وهو في بطنها. وقد وردأنه وُلِدَ ساجدًا، مختونًا، مقطوع السُّرة، يرفع إصبعه - السبابة - إلى السماء[1]
وقد ورد أيضًا: أن الملائكة والأرواح الطاهرة نزلت لمولده صل الله عليه وسلم، وذُكِرَ مِمََّنْ حضرن ذلك السيدة آسية امرأة فرعون، والسيدة مريم ابنة عمران، والحور العين، كلُّهن نزلنْ لحضور ولادته صل الله عليه وسلم
وكذلك الطفل المسلم تحضر ميلاده لجنةٌ من الملائكة الكرام، فتساعد أمه في إتمام ولادته - وهى لا تشعر - وتكتنفه من جميع نواحيه لحفظه من الشياطين، لأن الطفل الذي يُولَدْ يحاول الشيطان أن يستحوز عليه، فَيُنْزِلُ الله عز وجل جنده لحمايته من مكر الشيطان وكيده، ويبقون في ذلك المكان - إما أسبوعًا على رأي، وإما أربعين يومًا على الرأي الآخر. فمكان الميلاد تَتَنَزَّلُ فيه الرحمات والبركات، ولذلك طلب سيدنا جبريل من رسول الله صل الله عليه وسلم في رحلة الإسراء أن ينزل في بيت لحم حيث وُلِدَ سيدنا عيسى، فقال: إنزل ههنا فَصَلِّ حيث وُلِدَ عيسى. وهذا يدل على المكانة الكبيرة والمنزلة العظيمة لمكان ميلاد الأنبياء، وقد قال صل الله عليه وسلم:
{ إذا وُلِدَتْ الجَارِيَةُ بعث الله عز وجل إليها مَلَكاً يزقُّ البركة زقاً، يقول: ضعيفة خرجت من ضعيفة!! القيِّمُ عليها مُعانٌ إلى يوم القيامة. وإذا وُلِدَ الغلام بعث الله إليه مَلَكاً من السماء، فقبَّل بين عينيه، وقال: الله يقرؤك السلام } [2]
الواجب على الأب نحو المولود
يجب على الأب أو من حضر ميلاد الطفل من الأقارب ما يلي:
1. الآذان: أن يؤذن في أذن الطفل اليمنى آذان الصلاة، ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى على أن يكون ذلك بصوت خافت لا يؤذي المولود، وفائدة ذلك حفظ المولود من الشيطانة الموكلة بالصبيان لقوله صل الله عليه وسلم:
{ وإذا ولد لأحدكم مولود فليؤذن في أذنه اليمنى، ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى فإن ذلك يحفظه من أم الصبيان}[3]
2. التحنيك: وقد كان صل الله عليه وسلم يضع ثمرات في فيه، ثم يتناولها ويضعها في فم المولود التماسا لبركة ريقه صلوات الله وسلامه عليه، وقد حبذ ذلك جماهير العلماء وخاصة إذا كان ذلك على يد رجل صالح لقوله صل الله عليه وسلم:
{ سؤر المؤمن شفاء }[4]
وكره ذلك بعض المعاصرين خوفًا من وجود مرض معدي ينتقل عن طريق الريق، وإن اتفق الجميع على استحسان أن يكون أول شئ يصل إلى جوف المولود طعام أو شراب حلو.
2. الحلق والتصدق:
فقد ( أمرصل الله عليه وسلم عند ولادة الحسن والحسين الحلاق أن يحلق شعرهما ووزن مقابله ذهبًا وأمر بأن يتصدق به) [5]فإذا كان المولود ولدًا أو بنتًا له شعر فعلنا معه ذلك تأسيًا بهديه صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان شعره قصير وقليل كمعظم المواليد في عصرنا بسبب تعاطى الأمهات للأدوية أثناء الحمل - اكتفينا بالتصدق عن المولود بما يوازي ثمن جرام ذهب تقريبًا أو أقل أو أكثر على حسب السعة، عملاً بقول الله تعالى:
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ [7- الطلاق].
4. التسمية: وتكون باختيار اسم حسن له دلالة ومعنى لقوله صل الله عليه وسلم
{ أكرموا أبناءكم، وأحسنوا أسمائهم }[6]
وخير الأسماء بالنسبة للذكور هي المشار إليها بقوله صل الله عليه وسلم:
{ خير الأسماء ما حُمِدَ وعُبِد }[7]
أي أسماء الرسول صل الله عليه وسلم ، والأسماء المضافة إلى صفات الله عز وجل ، كعبد الرحمن، وعبد اللطيف وغيرها.
أما بالنسبة للإناث فخير الأسماء ما وافق أسماء أمهات المؤمنين، أو الصحابيات الجليلات، أو النساء الصالحات، والمهم في كل هذه الأسماء أن تكون عربية ولها معنى معبر، ويكره التسمي بالألفاظ الأجنبية أو الأسماء التي تثير السخرية والإشمئزاز عند النداء بها.
5. العقيقة: وهي ذبيحة تذبح عند السابع أو بعده لكل مولود ذكر أو أنثى، وهي سنة عند السعة:
[ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] [280- البقرة].
ويأكل منها الأهل والأقارب والفقراء والمساكين لقوله صل الله عليه وسلم
{ على كل مولود عقيقة تعقُّ عنه يوم السابع تميط عنه الأذى }[8]
أما غير المستطيع فليس مطالباً بها، وليس عليه شئ بتركها، أما ما يفعله الناس في عصرنا يوم السابع من إطعام للطعام، وتوزيع لمعلبات أو أكياس مليئة بأنواع الحلوى والمكسرات فهي من باب الصدقات - إذا نوى صاحبها بها ذلك - على ألا يسرف فيها، ولا تخرج إلى المباهاة لقوله صل الله عليه وسلم :
{ كلوا واشربوا في غير سرف ولا مخيلة }[9]
6. الختان: وهو سنة للرجال ومستحب للنساء لقوله صل الله عليه وسلم:
{ الختان سُنَّةٌ للرجال، ومكرمة للنساء }[10]
وقد بدأت الأمم الغربية في ختان الذكور والتشديد في ذلك، حفظًا لسلامة عضو الذكورة من الأمراض التي تتسبب من تراكم الميكروبات والجراثيم تحت القلفة (القطعة التي تحيط بعضو الذكورة من أعلى، ويأمر الإسلام بإزالتها) أيضاً حفظاً لسلامة المرأة إذ ثبت بالدليل العلمى أن عدم ختان الرجال أحد الأسباب الأساسية لإصابة النساء بأمراض تناسلية عديدة ومنها الخبيث، وكثير من الباحثين الغربيين يطالبون بختان الإناث عند الحاجة لذلك - نظرًا للفوائد الكثيرة التي تعود على الأنثى من هذا، ولذا تقول الباحثة الأمريكية ماري استوبس في كتابها [المرشد في العلاقات الجنسية]:
(إن من خير العادات عند المسلمين عادة ختان الأنثى، لأن بعض الإناث يصل حجم البظر عندهن إلى قريب من الذَّكَرِ عند الرجل، ومثل هذه كلَّما احتك بظرها بملابسها الداخلية تهيَّجَتْ الشَّهْوَةُ عندها)، والهدي النبوي في ختان الأنثى هو قوله صل الله عليه وسلم للمرأة التي كانت تزاول ذلك بين نساء الأنصار:
{ يا أم عطية اخفضي ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه ، وأحظى عند البعل }[11]
تنبيه وعبرة
إذا رزق المرء بمولود جديد فهذه نعمة عظمى ساقها الله عز وجل إليه، فعليه أن يقابلها بالشكر، بأن يصلي ركعتين شكرًا لله عزوجل ، أو بأن يتصدق على الفقراء والمساكين، أو بأن يطعم الطعام، ومن تمام الشكر على هذه النعمة ألا يُظهر الفرح بذلك أكثر من اللازم، أو يتباهى بذلك بين الأهل والأصحاب والجيران - كما تفعل النساء - لأن هذا أمرٌ لا يحصِّله المرء بإرادته، ولا يناله باختياره، وإنما كما قال الله عز وجل :
{ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [49-50الشورى].
وقد نبه إلى العبرة في مجئ المولود أحد الصالحين وذلك في قصة رمزية ساقها إلى تلاميذه حيث قال:
( ركب رجل البحر مع جماعة كثيرة، وبينما هم في عرض البحر هبَّت عليهم ريحٌ شديدة أغرقت السفينة بِمَنْ فيها، ولم يبق إلا لوح من ألواح هذه السفينة طفا على سطح الماء وتعلق به هذا الرجل، وصارت الأمواج تتقاذفه حتى اقترب من شاطئ جزيرة، وهناك رأى عجبًا، فقد وجد جموعًا كثيرة على الشاطئ تنتظره ومعهم تاج المُلك، وعند وصوله إلى الشاطئ تصايحوا فرحين وألبسوه التاج، ونادوا به ملكًا عليهم، وهتفوا بحياته، وساروا به في موكب عظيم حتى أوصلوه إلى قصر المُلك ، وبعد انصراف تلك الجموع، أحضر كبار مساعديه وسألهم عن هذا الأمر؟ فأخبروه بأن هذه عادتهم المتبعة في كل عام حيث يستقبلون ناج من البحر وينصبونه مَلِكًا عليهم في كل عام، ويقومون بعده بقذفه في وسط غابة مجاورة مليئة بالوحوش الكاسرة، ويبحثون عن غيره وهكذا دواليك.
فاستوضحهم عن الصلاحيات المخولة له، فأخبروه أن كلَّ أمرٍ له مطاع طوال سنة حكمه. فعين أحدهم وزيرًا وأصدر إليه ثلاث قرارات أَمَرَهُ بتنفيذها فورًا هي:
1. إزالة هذه الغابة بالكلية.
2. بناء قصر مكانها يلائم أبهة الملك.
3. زراعة حديقة حول القصر تحوي كل خيرات الأرض.
وعند انتهاء العام طالبهم بتنفيذ عادتهم، فقالوا: لقد فوَّتَّ الأمر علينا بحكمتك وحسن تصرفك.
ويسوق هذا الرجل الصالح العبرة في هذه القصة حيث يقول: تشير هذه القصة إلى قصة كل مولود يخرج إلى هذه الحياة. فالطفل في بطن أمه كالغريق وسط البحر، وعند ولادته ينزل مَلَك فيخرجه بلطف ورقة وحنان على ريشة من جناحه، كالغريق الذي تعلق بلوح الخشب، والجنين في بطن الأم يحيطه الله عزوجل بالماء من جميع الجهات حتى لا يتأثر بحركتها واهتزازاتها، ويتولاه الرزاق فيواصله بالهواء والماء والدواء والطعام عن طريق الحبل السريِّ، ويخرج منه بواسطته كذلك الفضلات. وبعد نزوله إلى الأرض يلتف حوله الأهل والأحباب ويقيمون الزينات والاحتفالات، ويكون له السلطان على كل مَنْ حوله، وعلى الأعضاء التي معه، طوال عمره في الدنيا، فإن أساء في تصرفاته وفي سلوكه قذفوا به إلى جهنم وبئس المصير، وإن أحسن لنفسه واستبدل مقعده في النار بقصر في الجنة - بناه بعمله الصالح وبرِّه وتقواه - فهيئا له الحياة الطيبة الأبدية في جوار الله. وفي ذلك يقول القائل:
لا دَارَ لِلمَرْءِ بَعْدَ الْمَوتِ يَسْكُنُهَا إِلاَّ التي كَانَ قَبْلَ الْمَوتِ يَبْنِيهَا
فَإِنْ بَنَـاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْـكَنُهُ وإِنْ بَنَـاهَا بِشَرٍّ خَـابَ بَانِيهَا
[1] روى ذلك ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب
[2] روى الطبراني ]في الأوسط[ عن أنس
[3 ] رواه أبو يعلى وابن السني في اليوم والليلة والبيهقي في شعب الإيمان من حديث الحسين ابن علي
[4] رواه الدار قطني عن ابن عباس
[5] رواه الترمذي والحاكم من حديث علي
[6] رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء
[7] رواه مسلم من حديث ابن عمر
[8] رواه البخاري من حديث سلمان بن عامر
[9] رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس
[10] رواه أحمد والبيهقي والطبراني عن الحجاج بن أرطأة
[11] رواه أحمد وأبو داود عن أم عطية
فالإنسان نبات الله يتولى زراعته، ويتعهده برعايته، ويجني ثمرة عمله الله عزوجل وإلى ذلك الإشارة بقوله عزَّ شأنه: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } [45- الكهف].
فالحق ينزل الماء وهو مني الرجل من سماء الرفعة لأن الرجل أرفع قدرًا في حالة الوقاع، ويضعه في أرض المرأة:
{ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا } [17- نوح].
وهو يشبه النبات في هيئته وإن كانت حالته مقلوبه فالرأس بما فيها من حواس بمثابة الجذر في النبات - حيث به حواس النبات والقوة الغاذية وغيرها - والجسم كالجذع للنبات، والأذرع والأرجل كالسيقان والأوراق.
ويمر الإنسان بمراحل النبات فيكون صغيرًا ثم شابًا فتيًا غضًا طريًا، ثم رجلاً قويًا ثم شيخًا، ثم يكون حصاده، من الذي يحصده؟!! الزارع له - وهو الله عز وجل . فإن كان زرعًا له ثمرة من الصالحات والقربات فهنيئًا له الجنة، وإن كان زرعًا ليس له ثمر من الطاعات والخيرات فهو حطبٌ - توقد به جهنم: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [6- التحريم]. ولذلك ورد في الأثر أن الناس كالشجرة فمن الشجر من له ظل وله ثمر، ومنه من له ظل وليس له ثمر، ومنه من ليس له ظل ولا ثمر.
- فأما الصنف الأول الذي له ظل وله ثمر:
فمثل العلماء العاملين والأولياء والصالحين، فمن الناس من ينتفع بالجلوس معهم ولو لم يسمع علمهم لأنهم يوجهون الناس بعلمهم وينهضونهم بحالهم، ويدعونهم إلى الصراط المستقيم بسلوكهم وهديهم، ومنهم من يُقبل على علومهم الإلهامية يغترفون منها - وهي ثمرة طاعاتهم، ونتاج إخلاصهم - لقوله صل الله عليه وسلم:
{ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ }[1]
وأولئك هم المقربون.
- وأما الذي له ظل وليس له ثمر فكأهل اليمين من المؤمنين:
وهم صالحون في أنفسهم، مطيعون لله عز وجل بأعمالهم، ينتفع بهم من يجالسهم - لتأثره بسلوكهم وأخلاقهم - وإن كانوا لا يوجهون غيرهم بأقوالهم، ولا يرشدونهم بتوجيهاتهم، فيكفيهم أنهم يعزلون شرَّهم عن غيرهم، ويَسْلَمُ الخَلْقُ من أيديهم وألسنتهم.
- وأما الذي ليس له ظل ولا ثمر فكالفاسق والفاجر والعياذ بالله:
فلا هو ينفع نفسه - بقوله أو بعمله - ولا ينتفع به غيره، بل إنه يجلب الضُّرَّ لنفسه بسوء فعله، ويصيب غيره بضُّرِّه. فهو كشجرة الشوك!! كلُّ مَنْ مرَّ بها آذته، وكذلك هو يؤذي الناس بلسانه - بالسبِّ والشَّتم، والغِيبة والنميمة وغيرها - ويؤذيهم بيده - بشكاية أو سرقة أو قتل – وهكذا، فالمؤمن يجب أن يكون كالشجرة الطيبة من يأوي إليه يجد العطف، ويشعر بالحنان والرقة، ويحس باللطف والأنس، ومن يلمسها يشم منها رائحة القرآن، وأخلاق النبي العدنان، وأحوال الصالحين والمتقين، فيكون كما قيل في الأثر الوارد عن الصالحين:
{ عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم }
ومثل هذا هو الذي فهم الحكمة من الأذان والإقامة في أذن المولود.
فالأذان والإقامة يقتضيان الصلاة!! فمتى هذه الصلاة؟ ..
إنها صلاة الجنازة لهذا العبد - لأنها تصلى بدون أذان أو إقامة - فكأن عُمُرَ العبد - مهما طال - فهو كما بين إقامة الصلاة وتكبيرة الإحرام في إفتتاح الصلاة!!
ما أصدق قول القائل
إذاًدَقَّاتُ قَلْبِ المَــرْءِ قَائِـلَةٌ لَـهُ
إِ نَّ الحَيَـاةَ دَقَــــائِقٌ وَثَوَانى
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا
فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَــــانِ عُمْرٌ ثَانِ
وما أجمل قول الرجل الصالح :
يا أيها الماء المهين من الذي سواك
ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
يا نطفة بقـرارها قد صـورت
من ذا الذي بحنانه أنشـاك
ومن الذي شق العيون فأبصرت
ومن الذي بظهـوره أعلاك
ومن الذي غذاك من نعمــائه
ومن الكروب جميعها أنجاك
ومن الذي تعصى ويغفر دائمًا
ومن الذي تنسى ولا ينساك
ومن الذي بألست أسمعك النداّ
ومن الذي بوصـاله ناداك
ومن الذي يدنو إليك بفضـله
وإذا سـألت جنابه أعطـاك
ومن الذي عند الشدائد تقصدن
ومن الذي إن تسـألن لباك
ومن المجيب ذا سـألت جنابه
وإذا طلبت وداده أعطـاك
ومن الذي منح الجميل بفضله
ومن الذي بتلطف أحيــاك
ومن الذي كشــف الحجاب توددا
حتى رأت أنـــواره عيناك
ومن الذي ملأ الفــؤاد بحبِّه
وبسره عند الصـفا ناجـاك