عندما تتبدّلُ تذكرةُ الحياة إلى بطاقة موت، لابدّ أنّ ميزان العدل البشريّ بات مسحوقاً، هنا وعلى الهامش يُفرِدُ سجّلُ الظلّم البشريّ المعاصر صفحة لمجموعة من اللّاجئين الفلسطينيين والسوريين حاولوا عبثاً الاحتيال على الواقع أرادوا الهرب من مشانق الموت في سوريا المدججة بالدّم، عبر البحر المتوسط من سواحل الإسكندرية مقابل أربعة آلاف دولار يُسلّمها الراكبُ لسمسار الموت بعد الوصول إلى سواحل إيطاليا، لَكَمْ هو مبلغٌ باهظٌ ليكون ثمناً لكفن.
مضوا في عرض البحر يتلاطمهم الموجُ الهادر، وينخرُ عظمَهم بردٌ متجمّدٌ بقساوة وزُرقة برد ليل المخيمات، لا يعلمون ما قد ينتظرهم لكنّهم مقتنعون للغايّة بأنّهم أحسنوا لأنفسهم ولأبنائهم إذ هربوا من الموت، يرونَ في الوهم حقيقةً فهم لا يخشون الموت ذاته بل حالة القهر المغموسة بالموت ألف مرّة التي يكابدها اللاجئ في عالمنا العربيّ، كلاهما موت لكن ربما من الأفضل ألا تستيقظ على أن تستيقظ حيّاً جسداً لكن ميّتاً روحاً، وبعد مرور ساعات عليهم في عرض البحر ينهلونَ فيها من مصاحفهم ويرتّلون أدعيتهم أن تلتقطهم إشارة خفر السواحل الإيطاليّة أو تلمح الأضواء الخافتة التي أشعلوها كلّها، وبعد انتهاء الطعام ونفاذ الوقود في سواد البحر الغامق، تطفو جثثهم على سطح البحر أو تبتلعهم الأسماك أو تنتشل جثثهم خفر السواحل المصريّة، خذلهم الجميع وتأخروا عليهم، ووحده الموت من صَدَقَهُم وهاجر معهم من مخيماتهم لم يتأخر، بقت صرخاتهم حبيسة الإنسانيّة المزيفة فينا ليتهم كانوا أعاجم لا عرب، وليت كان بينهم زعيم أو قياديّ تنظيم، ليت كان على القارب مغنيّ أو طبّال، ربما لكان موتهم حينها أكثر من مُجرد خبر.
هل ذنبهم أنّ موتهم جاء قبيل العيد فلم نكترث لموتهم؟ أم أنّه ذنب العيد إذ جاء في موتهم؟ أم أنّه ادّعاء نُسلّي به أنفسنا بل نخدعها؟ ملعونٌ أنت أيّها الاستبداد الذي جعلتَ من الموت حدثاً عاديّاً، ومن الظلم واقعاً عاديّاً، ومن العدل وضعاً نادراً استثنائيّاً، لقد نام الأطفالُ على مركب الموت وهم يحلمون بأنّهم سوف يستيقظون في أوروبا، استيقظوا لكنّها لم تكن أوروبا، فقد صدق والدهم عندما أخبرهم قبيل صعودهم على المركب: "نحن يا أطفالي مسافرون إلى أجمل الأماكن حيث لا كيماوي ولا سكينة شبّيح ولا صاروخ سكود، ولا علبة سردين ننتظرها في الطابور." بعد التفكير قليلاً أربعة آلاف دولار ليست ثمناً باهظاً للجنّة.