أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ أحزانُ وفي ضميرِ القَوافي ثَار بُركانُ
أقبلتَ يا عيدُ والظَّلماءُ كاشفةٌ عن رأسِهَا وفؤادُ البدرِ حَيرانُ
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ نائمةٌ على فراشي وطرْفُ الشَّوقِ سَهرانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي قلوبنا من صُنُوف الهمِّ ألوانُ
من أين نفرحُ والأحداثُ عاصفةٌ وللدُّمى مُقَلٌ ترْنُو وآذانُ
من أين والمسجدُ الأقصى مُحَطمةٌ آمالهُ وفؤادُ القُدسِ وَلْهَانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي دُروبنا جُدُرٌ قامتْ وكُثْبانُ
من أين والأمةُ الغرَّاءُ نائمةٌ على سَريرِ الهوى والليلُ نَشْوانُ
من أينَ والذُّلُ يَبْنِي أَلْفَ مُنْتَجَعٍ في أرضِ عِزّتِنا والربحُ خُسْرانُ
من أين نفرحُ والأحبابُ ما اقتربوا مِنَّا ولا أَصْبَحوا فينا كما كانوا
لا أدري ما أبْدَأُ به .. أَأُهَنِّيَكُم بِقُربِ العيدِ المبارك ، أَمْ أُعزِّيكم بفراقِ شهرِ القُرآنِ والغُفْران . فجَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَنا في رمضان .
القلبُ يمتلئ لوعةً وأَسَى ، والعينُ تُسطِّر بمدَادِها لحنَ الخلود .
أحقاً انقضى رمضان ..!أَذَهبَ ظَمَؤُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام ..!
يا وَلَهِي عليه ..أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ ..؟
هل قُوِّضتْ خِيامُه ..وتقطَّعتْ أوتادُه .. ؟أيُّ حال للمؤمنِ والمؤمنةِ بَعْدَ رَحِيْلِ رمضان ..؟
يا راحلاً وجميلُ الصَّبْرِ يَتْبعُهُ ……هلْ مِنْ سَبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
ما أَنْصَفتْكَ دُمُوعِي وهي دَامِيةٌ ……ولا وَفَى لكَ قَلْبي وهو يَحْتَرقُ
مَنْ الذي لا تُؤلِم نفسَهُ لحظاتُ الفراق ؟من مِنَّا لا تَجْرحُ مشاعرَهُ ساعاتُ الغياب ؟بالأمسِ القريب ، بَارَك بعضُنا لبعْضٍ استقبالَ رمضان ، فَسُكِبَتْ العبراتُ فرحاً واستبشاراً به ، وطرِبَتْ القُلُوب ، وشُنِّفَت الأسماع بصدى تراويحه .واليوم .. له لونٌ غريبٌ من الدُّموع !فانهملتْ على الخدود .. وجادَتْ بأغلى ما لديها ..يا عيوناً أرسلتْ أدْمُعَها …ما بِذا بأسٌ لو أَرْسَلْتِ الدّمَارمضان وأيُّ شهر كان ..؟رمضانُ .. شاهدٌ لنا أو علينا مما أَوْدَعْنَاهُ من الأعمال ..فَمْن أودعه صالحاً فلْيَحمدِ الله ، وليُبْشِرْ بحسن الثواب ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً .ومَنْ أَوْدَعَهُ سَيِّئاً فليَسْكُبِ الدَّمعَ الغزير ، وليأتِ ما بقي من القليل .فكم من جاء بالقليل وتُوِّجَ بالقَبول ! وكمْ منْ جاء بالكثيرِ فَمُنِيَ بالحرمان .
غداً توفَّى النفوسُ ما كسبت …ويحصدُ الزارعونَ ما زرعواإنْ أَحْسَنوا فقد أَحْسَنوا لأنفُسِهِم……وإنْ أساؤُوا فبِئْسَ ما صنعوا
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟ شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، فشرَّف صُوَّامه وقوَّامه ، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور ، فجعل أجرَ صائميه متجاوزاً العشرةَ أضعاف ، بلْ والسبعمئةِ ضعف مما لا يُحدُّ ولا يُعدّ ، كلُّ ذلك لأنَّ الصيامَ له وهو سبحانه الذي يَجزي به( 1 ) ، وكفى بهذا شَرَفاً وفَخْراً للمؤمن .أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟وفيه يُمنحُ المؤمنُ أكرمَ ما يحمله بين جَنَباتِ صَدْرِهِ وأعظمَ ما يفتخرُ به في قلبِهِ .فكُلَّمَا تَرقّى المرءُ في مَدارجِ الشَّرفِ بالصُّعودِ في مَعارجِ التَّقوى ، زادتْ أجورُ أَعْمالِهِ الصَّالحة وهل رمضانُ إلا تعبُّدٌ بالصبر ؟!إذا المرءُ لَمْ يَلبسْ ثِياباً من التُّقَى…تقلَّبَ عُرْياناً وإنْ كان كَاسِيا( 2 )أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
وهو مِضْمَارٌ واسعٌ للتَّنافُسِ في الخيراتِ ، تَنَوَّعتْ فيه الطَّاعات ، فيه سِرٌّ بين الطَّائِعينَ وبينَ رَبِهِم في أيَّامِهِ المعدودات ، والمُحِبُّونَ يَغارُونَ من اطَّلاعِ الأَغْيَارِ على الأَسْرَار .
لا تُذِعِ السِّرَّ المصونَ فإنَّني … أغارُ على ذِكْرِ الأحبةِ مِنْ صَحْبِي
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟كان موسماً لمضاعفة الأعمالِ والغُفْران ، ومُنَبِّهاً لذوي الغَفَلاتِ والنِّسْيَان ، محفوفاً بفضيلةِ تلاوةِ القرآن ، حين فيوضات الجودِ والكَرمِ من المنَّان .شهرُ رمضان ..نـهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، هبَّت فيه رياحُ الأنسِ بالله ، وجَادَتْ الأنفسُ بما عندها نحو الله .
لكَ الله يا شهراً أفاءتْ بِظِلِّهِ…… قلوبٌ على حَقل الخطيئَاتِ تُزهِرُ
ألا أيُّهذا الشهرُ أغدِق فَضَائلاً… على كُلِّ مسْكينٍ على العَدمِ يُفْطِرُ
فقُولُوا لي بِرَبِّكُمْ :
كيفَ لا تَفيضُ دُموعُ المؤمنِ على رَحيلِ رمضان ، ولا يَدري أيدركُ تلكَ الفضائلَ والمزايا مِنْ عَامٍِ ثَان ؟
كيف لا تَجْري دموعُ المُخْبتةِ على فراقِ رمضان ، ولا تَعْلم أَحَظِيَتْ بالقَبولِ والغُفْران ، أَمْ رُمِيَتْ بالطَّردِ والحِرْمَان ؟
دَعِ البكاءَ على الأطْلالِ والدَّارِ… واذكُرْ لمنْ بَانَ من خِلٍّ ومِنْ جَارِ
أَذْرِ الدُّموعَ نحيباً وابْكِ من أسفٍ على فِرَاقِ لَيالٍ ذاتِ أَنْوارِ
على لَيالٍ لشهرِ الصَّومِ ما جُعِلَتْ… إلا لِتَمْحِيصِ آثامٍ وأَوْزارِ
يا لائِمِي في البُكَا زِدْنِي به كَلَفَاً… واسمعْ غريبَ أحاديثٍ وأَخْبارِ( 1 )
أيُّ شهر كان رمضان .. وفيه ليلةُ القَدْر ؟ لك اللهُ يَا رَمَضَان .
يا أيُّها الشهرُ الذي فِيكَ أَشْهرٌ…ويا أيُّها الدَّهرُ الذي فيك أَدْهُرُ
رَحلَ رمضانُ وانقضى ، فما حالُنا مع هذا الرَّحيل ؟
ألا نَأْتَسِي بِعِلْيَةِ القومِ كيفَ يكونُ حالهم ؟
ألا نَتفكَّرُ حالَ وداعِ المحبِّين ؟
أَنَعْرفُ كيف يُوَدِّعُ أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، وطَلْحةُ ، والزبيرُ ، وأبو عُبَيْدةَ _ رضوان الله عليهم _ رمضان ؟
أَخَطرَ في خُلْدِنا شَأْنُ الإمامِ الأوزاعيِّ( 1 )، وصِلَةِ بن أَشْيَم( 2 )، ورَابعةِ العَدويَّة ( 3 )، والإمامِ أحمد( 4 )، وابنِ المبارك ( 5 )، وشيخِ الإسلام ابن تيميَّة( 6 )_ رحمهم الله _ في وَدَاعِهِم لرَمَضان ؟
ألا نتوقَّف لِنَنْظُرَ و نتَّعِظُ كيفَ يَعْملُ بشيرُ الجزائرِ ( 1 )؟
وقُطْبُ مصر ( 2 )؟
وسباعيُّ الشام( 1 ) ؟ وإقبالُ بنجاب( 2 ) ؟ وظهيرُ باكستان ( 3 )؟
وعُثَيْمِينُ نجد( 1 ) في رَحيلِ رَمَضَان ؟
أولئكَ آبائِي فجئني بمثلِهُم إذا جمعتْنا يا جريرُ المجامعُ.
لقد كان سلُفنا الصالح رحمه الله خيرَ مثالٍ يُقْتدى به في حنينِ الوداع ، ضَربُوا أروعَ الأمثلةِ في ذلك ، سُطِّر عبيرُ حياتهم في المصنفات ، وكُتِبَ روعةُ حَنِيْنِهِمْ في الكِتَابَات ، فانظرْ في وَدَاعِهِم لشَهْرِهِم كيف يكون ؟
فيالله .. ما أروعَ الخطبَ وما أجلّ الموقفَ ! وما أحسنَ تلكَ الدموع وهي تقفُ تُوَدِّعُ الضيفَ الحبيبَ وقد سالتْ على الخدودِ ! وما أطربَ شجي الآهاتِ لوداعِهِ !
يالله .. كمْ أناسٍ صَلُّوا في هذا الشهر التراويح ، وأَوْقَدوا في المساجدِ طََلَباً للأجر المصابيح ، نَسَخَوا بإحسانِهم كلَّ فعلٍ قبيح ، وقبلَ التَّمام سَكَنَوا الضريح .
وهانحنُ اليومَ أَوْشَكْنا على التمام ، فكيف وَداعُ المحبِّين ؟ وما أمرُ المخْبِتِيْن ؟
تفيضُ عيوني بالدُّمُوعِ السَّواكِبِِ…وماليَ لا أَبْكِي على خَيْرِ ذَاهبِ
كيف سيكونُ حالُنا ؟ وما مصيرُ العمل ؟ أَيُقْبَلُ أَمْ يُرَدُّ ويُطْرَح ؟
تَذكرْتُ أياماً مضتْ ولياليا… خَلَتْ فَجَرتْ من ذِكرهنَّ دموعُ
أَلا هلْ لها يوماً من الدَّهر عَوْدةٌ… وهلْ لي إلى وقتِ الوِصَال رُجوعُ
وهل بعد إعراضِ الحبيبِ تَواصُلٌ وهل لِبدورٍ قد أَفَلْنَ طُلوعُ( 1 )
فما حالُ السَّلفِ في وَدَاعِ رَمَضَان ؟
وكيف يكونُ الجيلُ القُرآنيُّ الفريدٌ في إِشْفَاقِهِم في قَبولِ العَملِ بَعدَ رَحيلِ رَمَضَان ؟فعن عائشة رضي الله عنها ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، قولُ اللهِ تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }(62) [ سور المؤمنون : 60 ]أَهُمْ الذين يَشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ ويَزنونَ ؟ قال : لا يا ابنةَ الصديق ! ولكنَّهم الذين يَصومونَ ، ويُصلُّونَ ، ويَتصدَّقُونَ ، وهم يخافون ألا يُقْبَلَ منهم ، أؤلئك الذين يُسارعونَ في الخيْرَات ! ".( 1 ) قال الحسنُ رحمه الله : عَمِلُوا واللهِ بالطَّاعاتِ واجتَهدُوا فيها وخافوا أنْ تُرَدَّ عليهم ، إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وخشية ، وإنَّ المنافقَ جمع إساءة وأمناً.( 2 )
آيةٌ عظيمة أرَّقَتْ قلوبَ الخائفين وقَصَمَتْ ظهورَ الصالحين ، فلله دَرُّهُمْ( 3 )
رُوِيَ عن علي ( : أنَّه كان ينادي في آخرِ ليلةٍ من رمضان : ياليتَ شعري ! من المقبولُ فنهنَّيه ؟ ومن المحرومُ فنعزَّيه ؟
وذا ابنُ مسعودِ ( يقول : أيها المقبولُ هنيئاً لك ، ويا أيها المردودُ جَبَرَ اللهُ مصيبتَك !( 1 )
وهذا عامرُ بن قيس رحمه الله : يبكى ! فقيل له ما يبكيك ؟
فقال : والله ما أبكي حرصاً على الدنيا أو متاع ، أبكي على ذهابِ ظَمَأِ الهواجر ، وعلى قيام ليالي الشتاء !( 2 )
وتأمَّلْ حالَ العالمِ الورعِ الزاهد ، عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله ، حين خرج يوم الفطر ليخطب فقال : أيُّها الناس .. صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟( 3 )
قال ابنُ رجب رحمه الله : ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان ، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم .
وقال عبد العزيز بن رَوَّاد رحمه الله : أدركتُهُم _ الصَّحابَة _ يجتهدون في العملِ الصالح ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أيقبلُ منهم أو لا ؟
وقال الحسنُ رحمه الله : إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مضماراً لخلقه يَسْتبِقُون فيه بطَاعَتِهِ إلى مَرْضَاتِهِ ، فَسَبَقَ قومٌ فَفَازُوا ، وتَخَلَّفَ آخرونَ فَخَابُوا ، فالعجبُ من الَّلاعِبِ الضَّاحِكِ في اليَومِ الذي يَفُوزُ فيه المُحْسِنُون ، ويَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلُون . ثُمَّ يَبْكي رحمه الله .( 1 )
اسمعْ أنينَ العاشقين… إنِ استطعتَ له سَماعا
راحَ الحبيبُ فَشَيَّعَتْهُ مَدامعي تَهْمِي سِراعا
لو كُلِّف الجبلُ الأصمُّ فِراقَ إِلْفٍ ما استطاعا( 2 )
فبالله عليكم .. أَرَأَيْتُمْ صُورةً أحلى من صُورةِ المحبِّين في الوَدَاعِ كهَذِهِ ؟
أَقَرأْتُمْ عن رَوعةِ الحنين للقاء ؟
إنهَّم القومُ فَقِهُوا عَن اللهِ وَوَعوْا عن رسولِ الله ( حازوا قصَبَ السَّبْقِ في كلِّ شيء ، واسْتَولوا على معالي الأمورِ ، فهم مَشعلٌ من مَشاعِل العِلمِ والإيمانِ والهدى ، فالسعيدُ من اتَّبعَ طريقهم ، واقتفى أثرَهُمْ ، والشقيُّ من عدَلَ عن طريقِهِم ولَمْ يَبلغْ مَنْهَجَهُم ، " فأيُّ خِطَّةِ رُشْدٍ لم يَسْتَولُوا عليها ، وأيُّ خِصْلةِ خيرٍ لَمْ يَسْبِقُوا إليها ، تالله ؛ لقد ورَدُوا يَنْبوعَ الحياةِ عَذْباً صَافياً زُلَالَا ، فوطّدوا قواعدَ الدِّينِ فلمْ يَدَعُوا لأحدٍ بَعْدَهُم مَقَالا " ، إنهَّم القوم : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
[ سورة المائدة : 54] فكان ما أنتَ سامعٌ ولا عَجَبْ !
قَومٌ عندهم لذةُ العبوديِّةِ فوقَ كلِّ لذةٍ !
قَومٌ وطَّنوا أَنْفُسَهُم على اكتسابِ الذِّخرِ البَاقي والتجارة الرابحة .
فأين أنتَ من تلك المناقبِ الزَّاهية ، و المراتب العالية ؟
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا……وقدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتةً……فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا… بخيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمضانِ
لئِنْ رحلَ رمضانُ ، فإنَّ العملَ لنْ يرحل يا صاحِ.
لئِنْ انقضى رمضانُ فالسيرُ نحو الله لن ينقضي يا أُخَيَّتي .
فيا أُخَيَّ .. بَادِرْ ، وسَابِقْ ، ونَافِسْ في الخَيْرَات .
فالعمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل ، و إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل( 1 ) فابْقِ لكَ أَثَراً صَالِحَاً قَبْلَ الرَّحِيْل .
قال الحسنُ البصريُ رحمه الله : أيْ قوم ، المداومَةَ المداومة ، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دُونَ الموت .( 2 ) (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ سورة الحجر : 99 ]فيا رعاك الله .." اشترِ نفسَكَ اليوم . فإنَّ السوقَ قائمةٌ ، والثمنَ موجودٌ ، والبضائعَ رخيصةٌ ، وسيأتي على السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصلُ فيه إلى قليلٍ ولا إلى كثير " ( 3 )، فهؤلاء القوم لم يكونوا شَعْبَانِيِّين ، أو رمضانيِّين !
لا وربي ، بل ربَّانِيُّون .. وما أَدْرَاكَ ما الرَّبانِيَّة ؟
فهذه الأعوامُ والشُّهورُ ، وتلكَ الليالي كلُّها مقاديرُ الآجال ، ومواقيتُ الأعمالِ ، ثُمَّ تَنْقَضِي سَرِيْعاً ، وتَمْضِي بَعِيْداً ، والذي أَوْجَدَها وخَلَقَها وخَصَّها بالفَضَائِلِ باقٍ لا يَزُول ، ودَائمٌ لا يَحُوْل ، إلهٌ وَاحِد ، ولأَعْمَالِ عبادِهِ مُراقبٌ مُشَاهِد .( 1 )
قيل لِبِشْرِ الحَافِي رحمه الله : إنَّ قَوماً يَتعبَّدون ويجتَهِدُون في رمضان ؟ فقال : بِئْسَ القومُ قومٌ لا يَعرفُونَ للهِ حَقَّاً إلَّا في شَهْرِ رَمَضَان ، إنَّ الصَّالحَ الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنَة كلَّها .
وسُئِلَ الشِّبْلِيُّ رحمه الله : أيُّهما أفضلُ : رَجبٌ أو شَعْبَان ؟ فقال : كُنْ ربَّانِيَّاً ولا تَكُنْ شَعَبَانِيَّاً !( 2 )
فكمْ منْ واصلٍ ببِدنِهِ إلى البيتِ وقلْبُهُ منقطعٌ عنْ رَبِّ البيت !
وكمْ مِنْ قاعدٍ على فراشهِ في بيتِهِ وقلْبُهُ متصلٌ بالملأِ الأعلى .
يقول ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله :
" إنَّ الأعمالَ لا تَتَفاضَلُ بِصُوَرِها وعَدَدِها ،وإنَّما التَّفاضُلُ بِتَفاضُلِ مَا في القُلُوبِ ، فتكونُ صُورَةُ الَعملِ واحدةً ، وبينَهُما في التَّفاضلِ كمَا بَيْن السَّماءِ والأَرْض "( 1 )
و انظروا لعبد الله بن ثابت ( لَمَّا ماتَ _ على فراشِهِ _ قالت ابنتُهُ : والله إنْ كنتُ لأرْجُو أنْ تكونَ شَهِيْدَاً ، فإنَّك كنتَ قد أَتْمَمْتَ جِهَازَكَ ، فقال النَّبيُّ ( : " إنَّ اللهَ أوقعَ أجرَهُ على قَدْرِ نِيَّتِه "( 2 )
فيا سبحان الله !
الشهادةُ بلَغها متسابقٌ بقلبِهِ وهو على فراشه !
وما نالهَا من فُصِل رأسُهُ عن جسدهِ في الميدان ؟
فبالله عليكم ، مَنْ الذي رَفع هذا ، ووَضَعَ ذاك ؟
إلَّا سيرُ القلبِ نحو اللهِ والدَّارِ الاخرة .
يُصَدِّقُ ذلك : " إنّ بالمدينةِ أقواماً ما سِرْتُم مَسِيراً ، ولا قطعتُم وَادِياً ، إلَّا كانوا معكُم فيه وهُمْ بالمدينةِ ، حبَسَهُمُ العذر "( 1 )
يا سَائرينَ إلى البَيْتِ العَتيقِ لَقدْ… سِرْتُم جُسوماً وسِرْنَا نحنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا على عُذْرٍ وقَدْ رَحَلُوا ومَنْ أقَام على عُذْرٍ فقَدْ رَاحَا
فيا مَنْ يريدُ فِكاكَ نفسِهِ .. ويا مَنْ تَبْغِي نجاةَ نفسِها ..
فما العهدُ بعدَ رمضان ( 1 ):
النِّعمُ سابغةٌ ، والرحمةُ واسعةٌ ، ولا يَنْبَغِي للمؤمنِ ولا للمؤمنةِ أنْ يُبْدِلَ بالنِّعْمَةِ نقمة ، ويَخرجَ من الغُفْران إلى العصيان ، وها قد حَان الانتهاء ، فيحسنُ بك أنْ تتحلَّى بما عهدتُكَ وأحسبُكَ كذلك ، واللهُ حسيبك :
أولاً : بمثل ما استقبلت رمضانَ من الطاعة ، وَدِّعْهُ واستقبلْ ما يتلوه من الشهور فكلُّها أيامُ الله ، فاعمُرْها بما عَمَرْتَها في رمضان .
ثانياً : حافظتَ على الصلاةِ بخشوعها وخضوعها ، ذرفتَ الدمعَ بين يدي ربك ، فهلاّ بَقِيْتَ على هذه الحالة بقيةَ عمرك وفي سائر عملك فالصلاةُ عمودُ الإسلام ، ولا حظَّ في الإسلام لمن ضَيَّع الصلاة .
ثالثاً : كان الصومُ لك جُنَّةً من أعدائك ، وحِصْناً حَصِيْناً من شياطين الإنس والجن ، ( الصيامُ جُنَّةٌ كجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنْ القِتَال )( 2 ) فهل تَأْمنْ على نفسك بقيةَ العامِ بلا حصنٍ ولا عُدة . فالصومُ باقٍ بقاءَ العام ، فَطِبْ نفساً بِمَوَاسِمِ الصِّيَام ، فدُونَك هِيْ :
* ( مَنْ صَامَ رَمَضَان ، ثُمَّ أَتْبعهُ ستاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْر )( 1 )
رابعاً : قمتَ رمضان إيماناً واحتساباً _ وأحسبُك كذلك _ وها قد انقضى شهرُ القيام . فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام . فخذ بالجدِّ فيه ، ( واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه بالليل )( 3 )
خامساً : ختمتَ القرآنَ مرةً ، أو بعض مرةٍ ، وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره ، أيحسنُ بك أنْ تُقَدِّمَ الشواغلَ عليه وهو كلامُ الملك ! هلاّ عزمتَ على صَرْفِها مرات ؛ لتَحْظَى بِخَتَمَات .
قال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله ذاكراً أولَ الأسبابِ الموجبةِ لمحبة الله :
" قراءةُ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفَهُمِ لمعَانِيْهِ ، وما أُرِيدَ بِهِ ، كتَدَّبُرِ الكِتَابِ الذي يحفَظُهُ العبدُ ويَشرحُهُ ليَتَفَهَّمَ مُرادَ صَاحِبهِ مِنْهُ " ( 1 )
سادساً : حافظتَ قدْرَ الطاقةِ على قلبِك من غَوائلِ الهوى النَّزَّاعةِ للشوى ، صُنْتَ سَمْعكَ ، وبَصَركَ ، وفؤادَكَ عما لا ينبغي في شهرِ الصيامِ رجاءَ كماله ، ولكنْ لتعلمَ أنَّ صيامَ الجوارحِ لا يَنْقَضي بغروبِ شمسِ آخرِ ليلةٍ من رمضان ، فشرْعُ الله دائمٌ على مَرِّ العام ذلك : ( (((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((( (((((((((((( ((((( (((((( ((((((((( (((( ( [ سورة الإسراء : 36 ]
يا أذنُ لا تسمعي غيرَ الهدى أبداً… إنَّ استماعك للأوزارِ أوزارُ
فأمْسِكْ عليك لسانَك .. ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ .. وابْكِ على خطيئَتِكَ
سابعاً : تخلَّقتَ بأخلاقِ الإسلام في رمضان ، فكنت تقولُ لمن سَبَّك أو شَتَمَك ( إِني صَائمٌ )( 1 ) فهلاّ عَلَّمَك الصَّيامُ أنَّ ذلكَ الإمساكَ هو للأخلاقِ مَلاك ، وتَذكَّر : ( أقربُكُم مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ خُلُقاً )( 2 )
ثامناً : أَرْحَامُك ، إخْوَانُك ، جِيْرَانُك ، أَحْيَيْتَ وَصْلَهُمْ في رمضان ، فلا تَعُدَّهم في الموْتَى بعد رحيله ! أَلَمْ يَأْنِ لكَ أنْ تَعْلمَ أنْ وَصْلَهُمْ سيبقى حَيَّاً سائرَ الأيام ، تَفكَّرْ في قوله سبحانه ،وهو يقول للرحمِ : ( ألا يُرْضيكِ أنْ أصلَ مَنْ وصلَكِ وأقطعَ مَْن قَطَعَكِ )( 3 ) وصَلَنَا الله بحبل مرضاته وبلَّغنا أريج نفحاته .
تاسعاً : كنتَ في شَهْرِكَ جَواداً ، كريماً ، وربُّك الغنيُ الأكرم ، أَلا تَحْنُو على عبادِهِ اليَتَامَى والمساكين ، فتَجُودُ وتُكْرِم ، عَسَى أنْ يَجُودَ عليكَ بنعيم الجِنَان ، ويصونَك عن لهيب النِّيرَان .
عاشراً : عَهِدتُكَ حَياً حيِّيَّاً في شهرِ الصيام ، ألا أريتَ الله من نفسك خيراً سائر العام ، فحافظتَ على الطاعة وتعاهدِها ، وقد كان نَبِّيُك ( يعاهدُ ربه على الطاعة في كل ساعة قبيل الليل وعند طُلوع النهار ، ألا تَمْتَثِلُ ذلك ، وتَذْكُرَ قوله : " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى ، فاغْفِرْ لِى ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ "( 1 )
تلك عشرةٌ كاملة قبيل التمام ، فلْنلزمها علَّنا أنْ ندخل الجنة بسلام .
فيَا شَهْرَ رَمَضانَ تَرَفَّق ، دُمُوع المحبِّين تَدَفَّق ، قُلُوبُهم من أَلَمِ الفِراقِ تَشَقَّق ، عَسَى وَقفةٌ للودَاعِ تُطْفِئُ مِنْ نَارِ الشَّوقِ ما أَحْرَق ، عَسَى ساعةَ تَوبَةٍ وإقلاعٍ تَرْفُو مِنْ الصِّيامِ كُلَّ ما تَخرَّق ، عَسَى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلْحق ، عَسَى أسيرُ الأوزارِ يُطلَق ، عَسَى من استوجبَ النار يُعْتَق ، عسى رحمةُ المولى لها العاصي يُوفَّق .( 1 )
يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى…وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عَمِي
يا حسنَهُمْ والَّليْلُ قدْ جنَّهُمْ…ونورُهُمْ يَفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرنَّموا بالذِّكْر في ليْلِهِمُ…فعيشُهُم قدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهم للذِّكْر قدْ تفرَّغت…دموعُهُم كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِمِ
أسحارهُم بهم لهم قد أشرقَتْ…وخِلَعُ الغُفْرانِ خَيرُ القِسَمِ
ويْحَك يا نفسُ ألا تَيَقُّظٌ…ينفعُ قبل أنْ تَزِلَّ قدمِي
مَضَى الزَّمانُ في توانٍ و هوىً…فاسْتَدْرِكي ما قدْ بَقي واغْتَنِمِي( 2 )
اللهُمَّ إنَّ هذا الشَّجنَ مما نفحَ به الخاطرُ ، وزكّاهُ الضميرُ ، وسالتْ به العبراتُ ، فهي دمعاتُ مُحِبٍّ ، وحديثُ أُنْسٍ ، وصَدقةُ قائمٍ ، ومَشاعرُ صائمٍ ، وشَهادةٌ تُؤدَّى يومَ تُكْتبُ شهادتُهم ويسألون .
لك الله يا رمضان ، وقد تصرَّمت لياليك .
فعدْ مثلما قد جِئتَ ضَيفاً مُكْرماً تُعَمِّرُ من بُنْياننا ما تُعَمِّرُ
لك اللهُ يا رافداً مِنَ الله للورى وبحراً من الغفرانِ لِلْخلْقِ يَغمُرُ
فمثْلُكَ شهرٌ لا تُوفَّى حُقُوقُه وعن مَدْحِه كلُّ الأقاويلِ تقصُرُ
اللهُمَّ يا سامعَ كلِّ نجوى ، ويا منتهى كلِّ شكوى ، يا عظيمَ المنِّ ، يا واسعَ المغفرةِ ، يا باسطَ اليدين بالرحمة ، تقبلْ مِنَّا الصيامَ والقيام . واجعلنا ممن قبلْتَهُ ورضيتَهُ ونعمت عمله فوهبت له الأجرَ والمغنم .
أسألُ اللهَ جل في علاه أنْ يغفر لنا يوم نلقاه .
اللهُمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .