{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } نعم لقد أدبه الله ورباه على عينه. . وشرح له صدره .. ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وأعلى له قدره وزكاه في كل شئ . زكاه في عقله فقال سبحانه:مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم :2] وزكاه في صدقه فقال سبحانه :وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [ النجم : 3] وزكاه في صدره فقال سبحانه :أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح:1] وزكاه في ذكره فقال سبحانه : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ الشرح:4] وزكاه في حلمه فقال سبحانه :بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ التوبة :128] وزكاه في علمه فقال سبحانه :عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [ النجم : 5] وزكاه في خلقه فقال سبحانه :وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ القلم: 4] فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خيرُ خلف الله كلهم.. فلقد جمع الله في شخص المصطفى القدرة الحية الكاملة للمنهج التربوي الإسلامي على مدار التاريخ كله . * فهو رسول يتلقى الوحى من الله جل وعلا ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة. * وهو رجل سياسة يقيم الأمة من فتات متناثر ، فإذا هى بناءٌ لا يطاوله بناء وغيرَّ مجرى التاريخ في فترة لا تساوى في حسبا الزمن شيئاً . * وهو رجلٌ حربٍ يضع الخطط ، ويقود الجيوش كقائد متخصص في القتال فكان إذا صمتت الألسنة وبلغت القلوب الحناجر قام في الميدان ينادى بأعلى صوته: « أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ » * وهو أب ، وزوج ، ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات – من نفقات النفس والتربية والتوجيه فضلاً عن نفقات المال – فيقوم بهذا الدور الكبير على أعلى نسق شهدته الأرض وعرفه التاريخ. * وهو عابد خاشع خاضع لربه كأنه ما خلق إلا للعبادة وكأنه قد تفرغ لها ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض ، أخذت عقلَه وفكرَه وروحَه وعرقَه ودمهَ كل هذا العظمات ، كل هذه الطاقات ، وكل هذه الأشخاص المتفرقة تجمع في شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم* فهو القدوة الطيبة والمثل الأعلى الذى يجب ألا تكون سيرته ماضياًَ أبداً بل يجب أن تكون سيرته الزكية شعلة توقد شموسَ الحياة ودماءً تتدفق في عروق المستقبل والأجيال.فكل واحد منكم يستطيع أن يدرك ؛ ثواب الهجرة .. نعم ففي الحديث عن مقبل بن: « العبادة في الهرج كهجرة إلىّ» رواه مسلم الترمذي وفي بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم ينام علىّ على فراشه ، ويلتف ببرده الكريم ، حيطة بالغة ودقة محكمة لم يعرف تاريخ البشرية لها مثيلاً وهذا هو المعنى الحقيقى للتوكل على الله عز وجل..إنه الاحترام الكامل لقانون السببية الذى أودعه الله في هذا الكون مع الثقة في نصر الله عز وجل. ومع تقدير الإسلام لقانون السببية وتنفيذ النبى صلى الله عليه وسلم له تنفيذاًً بليغاً دقيقاً فأنا لا أعرف الآن أمة استهانت بقانون السببية ، وخرجت عله واستَخَفَّت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية اليوم. وزعمت باسم التوكل ، أن كل شئ يمشى بالفوضى ، والعشوائية ، والدروشة فلم تجنى إلا الذل، والضعف ، والهوان ، والذيلية لأخس أمم الأرض. فنحن أولى الناس بأن نتعرف على إسلامنا ، وديننا وأن نعلم أن ما نحياه من واقع مُر أليم إنما وقع وفق السنن الربانية الثابتة التى لا تتبدل ولا تتغير والتى لا تحابي أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقدمات المحاباه.رابعاً : وكيف ينسى الصديقنعم كيف ينُسى رجلٌ بأمة ؟..كيف يُنسى رجل جَنَّدَ ماله وبيته وعقله وفكره ودمه لدين الله عز وجل.. ولم يتلعثم في إيمانه طرفه عين، فلقد كان الصديق طيفاً من الحنان..، وسحابة من الحب تُظِلّ الرسول صلى الله عليه وسلموكأنى به يود لو صنع من جسده درعاً يحمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو يمشى أمام النبى صلى الله عليه وسلم مرة ويمشى خلفه أخرى ، ويلتفت ويكثر الالتفات. فسأله النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إذا كنت خلفك خشيتُ أن تؤتى من أمامك ، وإذا كنت أماك خشيت أن تُؤتى من خلفك» والحديث رواه ابن هشام وهو حديث حسن بشواهده واستمر أبو بكر في ذلك حتى لامست أقدامها غار ثور. بل خاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل إلى هذا الغار المهجور قبل أن يطمئن هو على سلامته فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مكانك يا رسول الله حتى استبرأ ، فدخل فاستبرأ ، أى تبين ، ثم قال : انزل يا رسول الله.يقول عمر رضي الله تعالى عنه: « والذى نفسى بيده لعلك الليلة خير من عمر وآل عمر» والحديث رواه البيهقى وهو حديث مرسل لكن له شواهد ترقى به إلى درجة الحسن . وتحتبس أنفاس الصديق ويطير فؤاده وهو يرى أقدام الطغاة الماردين من قريش حول باب الغار ويهجم الخوف والرعب من شقوق الغار من سيوف الطغاة وعيونهم التى تتطاير شرراً وإجراماً.وفى حوار هامس يقول للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا. فيرد عليه الحبي بلغه يحدوها الأمل.. ، وبقلب يملأه اليقين. « يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما » « لا تحزن إن الله معنا» .. الله أكبر وإذا كان الأمر كذلك فو الله لو سار مع قريش كل الأحياء..، وانشقت المقابر فخرج كل الأموات.. ، يسحبون أكفانهم خلف أبي جهل يقلبون معه حجارة الأرض..، ويزحزحون الجبال..، وينقبون في الرمال..، ما قدروا أبداً على اثنين الله ثالثهما. إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومِنْ ثَمَّ استحق الصديق بجداره أن يتبوأ ذروة سنام الصديقين وأن يكون أحب الناس إلى قلب سيد البشرية صلى الله عليه وسلمكما في الحديث الذى رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص قلت: يارسول الله ، ألا الناس احب إليك ؟ قال : عائشة. قلت من الرجال قال: أبوها. قلت : ثم من ؟ قال :عمر وفى صحيح البخارى من حديث أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أنفق زوجين فى سبيل الله نودى من أبواب الجنة ! ياعبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دُعى من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، دعى من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان وكان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة" قال أبو بكر : هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟قال " نعم وأرجوا أن تكون منهم " لن يفلح الدعاة إلى الله في دعوتهم إلا إذا اتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام ، الذي عصمه الله عن الخطأ في الأقوال والأفعال والأحوال ، وأوحى إليه وحياً متلواً ، وغير متلو ، وألزمنا أن نأخذ منه كل ما أمرنا به ، وأن نَدَع كل ما نهانا عنه ، وأن نتأسى بمواقفه وسيرته ، لأنه القدوة والأسوة الحسنة والمثل الأعلى . هكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام ، كان صلى الله عليه وسلم عابداً متحمِّسًا ، قائداً فذاً ، شيّد أمة من الفتات المتناثر ، أما هذا النموذج المعاصر الذي مسخ الدين إلى تمتمات وأقوال وحركات وأشكال لا تقدم ولا تؤخر ، ونسي عمق هذا المنهج ، ونسي عظمة هذا المنهج ، ونسي هذه الرسالة التي أنيطت بالمسلمين فهو نموذج بعيد عن الإسلام ، كان صلى الله عليه وسلم عابداً متحمِّسًا ، وقائداً فذاً ، شيّد أمةً من الفتات المتناثر ، كان رجلَ حربٍ يضع الخطط ، ويقود الجيوش ، وكان أباً عطوفاً ، وزوجاً رحيماً ، تحققت به المودة والرحمة والسكن ، وكان صديقاً حميماً وقريباً كريماً وجاراً تشغله هموم جيرانه ، وحاكماً تملأ نفسه مشاعر محكوميه ، يمنحهم من مودته وعطفه ، يجعلهم يفدونه بأنفسهم ، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض ، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل ، وتغلغلت في كيانه كله ، ورأى الناسُ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تتمثل فيه هذه الصفات الكريمة كلها ، فصدقوا تلك المبادئ التي جاء بها كلها ، ورأوها متمثلة فيه ، ولم يقرؤوها في كتاب جامد ، بل رأوها في بشر متحرك ، تحركت لها نفوسهم ، هفت لها مشاعرهم ، حاولوا أن يقتبسوا قبسات منه ، كلٌّ بقدر ما يطيق ، فكان أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل ، كان هادياً ومربياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلم الطيب الذي ينطق به . : دعونا من السلبيات ، دعونا من الجزئيات ، دعونا من المواقف السلبية ، دعونا من التفرج على بعضنا بعضاً ، دعونا من الانتقاد المخرِّب ، دعونا من تقييم الناس ، دعونا من هذه الأمراض التي فتكت بنا ، دعونا من هذه الانحرافات التي شلت قدرتنا، دعونا من هذه الترهات التي أعمت أبصارنا ، دعونا من كل هذا ، واقرؤوا سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، اقرؤوا سيرته ، فسيرته وحدها كتاب وسنة ، هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ، هكذا كانت المحبة بين أصحابه ؟ فكيف هم المسلمون اليوم ؟ ماذا فعلوا ؟ لم يقدموا شيئاً ، ليست كلمتهم هي العليا ، أمرهم ليس بيدهم ، للطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل ، لماذا ؟ ألم يقل الله عز وجللسنا مستخلفين ، ولسنا ممكَّنين ، ولسنا مطمئنين ، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، لابد من مراجعة الحسابات ، لابد من نقد الذات ، لابد من الإصلاح بين المؤمنين ، لابد من أن يكون المؤمنون كتلة واحدة ، لا يمكن أن تفرقهم هذه الترهات . أيها الإخوة الكرام : أعيد ، وأكرر ، مع الشيطان أوراق رابحة ، أولها أن يوسوس لك بالكفر ، فإن رآك على إيمان وسوس لك بالشرك ، فإن رآك على توحيد وسوس لك بالبدعة ، وإن رآك على سنة وسوس لك بالكبيرة ، وإن رآك على طاعة وسوس لك بالصغيرة ، وإن رآك على ورع بقيت معه ورقة أغراك بالمباحات حتى تضيع الأيام كلها في المباحات ، ويأتي ملك الموت ، وأنت صفر اليدين ، فإن نجوت من هذا بقيت معه الورقة الأخيرة التحريش بين المؤمنين ، وهذا الذي يتم الآن في معظم بلاد المسلمين ، خصومات لا تنتهي ، أحقاد لا تنتهي ، خلافات لا تنتهي ، كل يدَّعي وصلاً بليلى ، كل يتوهّم أنه على الحق ، لا يرى غيره ، ويلغي الطرف الآخر ، لا يظن بالناس خيراً ، هذا الذي يدعو ، ويتوهم أن الجنة له وحده ، وأن الحق معه وحده ، وأن الله له وحده ، هذا ليس مخلصاً ، هذا متطرف ، هذا يدعو إلى ذاته بدعوة إلى الله مغلفة بدعوة إلى ذاته ، من خصائصه أنه يثير الخلافات بين المسلمين ، أنه يوهم الناس أنه وحده على حق ، أنه يوهم الناس أن الحق ضائع، ويقول : إذا أردتموه فهو عندي ، أما الذي دعا إلى الله بإخلاص فهذا الذي يتبع ولا يبتدع ، هذا الذي يؤلِّف ولا يفرِّق ، هذا الذي يقرّب ولا يبعّد ، هذا الذي يحسن الظن ، ولا يسيء الظن ، هذا الذي يقر بوجود الآخرين ، هذا الذي تراه متواضعاً يرجو رحمة الله ، ويخشى عذابه .