نعم، هذا رجل طموح, كيف عرفته؟ لأنه يملك صفات الطامحين نحو المستقبل، وهذه الصفات تكاد تبرز من عينيه وتنطلق من لسانه وشفتيه وتتحرك بها قدماه وساعداه، يعرف طريقه حق المعرفة، ولأنه يعرف وعورة وقسوة الطريق تجد معه كل ما يحتاج إليه في المسير، فهو يملك.
والطموح في اللغة: مصدر قولهم: طَمَحَ يَطْمَحُ وهو مأخوذ من مادة (ط م ح) التي تدل على علوّ في الشيء، يقال طَمَحَ ببصره إلى الشيء: عَلاَ، ويقال: أطمح فلان بصره أي رفعه، ورجل طماح: بعيد الطرف.
والطموح اصطلاحًا: هو أن ينزع الإنسان إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أسمى وأنفع، وكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها ولا يكون ذلك محمودًا إلا إذا وافق الشرع الحنيف، وقال الشيخ الخضر الحسين- رحمه الله -: "ومما جُبل عليه الحرّ الكريم أن لايقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيءٍ مما انبسط له أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة".
هو ببساطة:
· الرغبة في الازدياد المستمرّ, وعدم الاكتفاء بما نحن فيه.
· الأهداف التي يضعها الفرد لنفسه في عمل من الأعمال التي لها قيمة ودلالة ومعنى بالنسبة له.
· التطلع الدائم للأحسن والأفضل لتحقيق الغرض والنجاح المنشود أو الهدف الذي يضعه الشخص أمامه في مجال من المجالات بما له من قيمة ونفع بالنسبة له وبالنسبة للآخرين، فيسعى الشخص الطموح بالوسائل المشروعة والعوامل المساعدة على تحقيق هذا الهدف وهذا الغرض.
· ما تهفو النفس لتحقيقِه بدافع من العقل الباطن غالبًا بعد وضوحه في العقل الظاهر، وقد قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عن نفسه: "إن لي نفسًا تواقة (تشتاق إلى الشيء), لم تزل تتوق إلى الإمارة, فلما نالتها تاقت إلى الخلافة, فلما نالتها تاقت إلى الجنة.
· أن تتطلَّع النفس إلى ما هو أكمل وأحسن وأسمى وهذا رسول الله يدل الأمَّة دائمًا على أن تطلب المعالي وتتنزه عن الدنايا فيقول: ((إن الله - تعالى -يحب معالي الأمور وأشرافها ويكرَهُ سفسافها)) صححه الألباني.
· إن الرجل الطموح إن لم يبذلْ جهده للوصول إلى غايته فهي مجرد أمانٍ لكن الطموح حقًا هو الذي يسعى لنيل ما يريد بل ويُتعب نفسه في هذا كما قيل:
وإذا كانت النفوس كبـارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
و:
لا يدركُ المجدَ من لا يركب الخطرا *** ولا ينال العُلا من قدَّم الحذرا
ومن أراد العلا صفوًا بلا كدرٍ *** قضى ولم يقض من إدراكه وطرا
وأحزم الناس من لو مات من ظمأٍ *** لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا
فمعالي الأمور وعرة المسالك محفوفة بالمكاره, ولهذا قال معاوية لعمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: "من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته".
وكان عمرو بن العاص يقول: "عليكم بكل أمر مَزْلَقه مهلكة", أي عليكم بجسام الأمور وعظيمها، وهذا ما يفعله الرجل الطموح.
ولذا فهو:
· لا يرضى بالعمل أو بمستواه الراهن بل يعمل دائمًا على النهوض به.
· لا يعتقد بأن مستقبله محدد لا يمكن تغييره كما قال الشاعر محمد إقبال:
المؤمن الضعيف يتعلل بالقضاء والقدر، والمؤمن القوي هو قضاء الله وقدره في الأرض.
· لا يخشى المغامرة أو الفشل.
· لا يجزع إن لم تظهر النتائج المرجوَّة سريعًا.
· يتحمل الصعاب للوصول إلى أهدافه.
· لديه وقود دائم يساعده على المثابرة والجد والسعي وبذل الجهد.
· يعيش داخل طموحه في فكره في كل لحظة، في كل حافز طموحه يعبر عن حقيقته.
· يقول دائمًا: سأتخطَّى الحدود، سأحطم كل الحواجز سأقهر الرهبة وسأكسر القيود والأغلال وسأكون خارج العادة.
· يغيِّر مسار حياته من الصفر إلى القمَّة.
· يقف على قدميه بعد انكسار, ويشتد ظهره ويعاود المسير.
· يتوكَّل على الله فهو حسبُه.
· يعرف ويعلم ويدرك تمامًا الفارق بين الطموح والقناعة والطمع، فالقناعة والطموح مفهومان مترادفان وفي نفس الوقت متناقضان، فالقناعة تحكمها المحدودية في النظر فقط إلى ما يملكه الإنسان بين يديه، في حين يدفعنا الطموح إلى التطلع دائمًا إلى ما لا نملكه ولكن دون طمع فيما بين أيدي الناس.
فالطمع يدفع الإنسان دائمًا إلى النظر إلى ما يملكه الغير وينحصر تفكيره في أخذ ما لا يحق له أخذه، في حين أن الطموح يرتقي بالإنسان لأنه يحث باستمرار على التفوق والمضي في سبيل النجاح دون النظر إلى الآخرين ومقارنة النفس بهم.
الطمع منبعه الحسد والأنانية والرغبة الدنيئة في امتلاك حق الغير دون الالتفات إلى المعاني الإنسانيَّة التي تربط البشر بعضهم البعض، ومن هنا تظهر النقطة الرديفة بين مفهومي القناعة والطموح.
فالقناعة هي نقطة البداية لأية طموح وليست عائقًا لتحقيقه إلا إذا كانت قناعة زائفة، فالطموح يبدأ من الإيمان بالذات والقناعة بإمكانياتها، واليقين بالوصول إلى ما يرغب والرضا بما يصل إليه بعد أخذ بالأسباب وتوكل على الله هذا إن كان المعنى الترادف أما إن كان التناقض:
فعندها تجد القناعة الزائفة التي تظهر عند العجز عن الوصول للمبتغى في الحياة فنركن إلى ما نحن فيه إما لضعف أو هزيمة نفسية أو حيل نفسية نحتال بها على عقولنا، حتى لا نتحرك فتزيف إرادتنا ونقبل بالدون من الأمور والكسل عن تحقيق معاليها ونقول بأننا قانعون راضون بما نحن فيه، فالقناعة حتًما تتعارض مع الطموح لا تكون قناعة بل رضوخًا ومهانة، القناعة عزة للمؤمن وطمأنينة له ورضا بقدر الله وفضله عليه وليست تواكلاً أو كسلاً عن العمل لما يريد ويرغب.
- يعرف ويعلم الفارق بين الطموح وعلو الهمة، فكلاهما يشتركان في الهدف والغاية أي طلب المعالي ولكنهما يختلفان في الوسيلة والباعث, إذ الباعث في علو الهمة قد يكون الأنفة من خمول الضعة أو الاستنكار لمهانة النقص، أما الباعث على الطموح فهو نزوع النفس دائمًا نحو الأعلى والأرقى، ومن حيث الوسيلة نجد أن الطموح قد يجنح بصاحبه إلى الغلو والإسراف على النفس أو الغير، أما علو الهمة فلا يسلك صاحبها إلا الدروب الشريفة التي تتفق مع مبادئ الشرْع الحنيف.
قال مالك بن عمارة اللخمي: "كنت جالسًا في ظلّ الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة, وفي المذاكرة مرة, وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا حُدِّث وحلاوة لفظه إذا حَدَّث، فخلوت معه ليلة فقلت له: والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال: إن تعش قليلاً فسترى العيون طامحة إلى الأعناق نحوي متطاولة، فإذا صار الأمر إليَّ فلعلك أن تنقل إلىَّ ركابك فلأملأن يديْك، فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر فلما رآني أعرض عني فقلت: لعله لم يعرفني أو عرفني وأظهر لي نُكرة، فلما قضيت الصلاة, ودخل بيته لم ألبث أن خرج الحاجب, فقال: أين مالك بن عمارة، فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه فمدّ إليَّ يده, وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت، فأما الآن فمرحبًا وأهلاً، كيف كنت بعدي، فأخبرته، فقال لي: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قلت: نعم، فقال: والله ما هو بميراث وعيناه، ولا أثر رويناه، ولكني أخبرك بخصال مني سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى، ما خُنْتُ ذا ود قط، ولا شمت بمصيبة عدو قط، ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذذًا بها فكنت أؤمّل بهذه أن يرفع الله - تعالى -منزلتي وقد فعل، ثم دعا بغلام له فقال: يا غلام بوئه منزلاً في الدار، فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلاً حسنًا فكنت في ألذّ حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي ويقبل علىّ ويحادثني، ويسألني مرة عن العراق، ومرة عن الحجاز حتى مضت عشرون ليلة فتغديت يومًا عنده فلما تفرق الناس نهضت قائمًا فقال: "على رسلك فقعدت، فقال: "أي الأمرين أحب إليك: المقام عندي مع النصفة لك في المعاشرة أو الرجوع إلى أهلك ولك الكرامة؟ فقلت: "يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي على أني أزور أمير المؤمنين وأعود فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد"، فقال: لا بل لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار كسوة وحملنا لك، أتراني قد ملأت يديك؟ فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدًا، وزرنا إذا شئت، صحبتك السلامة".
وهذا جعفر بن أبي طالب يقول في غزوة مؤتة حين اقتحم على فرسٍ له (شقراء) ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها
الروم روم قدرنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
على إذ لاقيتها ضرابها
طمح للجنة فنالها