" انزلوا الناس منازلهم حق وعدل وأمانة "
مقتضى الحكمة والعدل والأمانة ، ومنتهى الفهم في المقال وحسن التدبير للأعمال ، وان كان الناس سواسية كأسنان المشط ، لا يعني ذالك انهم لا يتفاضلون بالتقوى والخلق والعلم ، اذ ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ).
(ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )
وإن الإسلام اذا يشير الى هذا المعنى فهو معنى عظيم ، وركيزة من ركائز التدبير والسياسة والعقلانية التي مني بها الإسلام ، فتعسا لأمة لم تعرف قدر العالم والفاضل ولم تقدر الشيخ الكبير ولم ترحم الصغير فتعطيه حقه ومكانته التي تناسبه ..
فنرى قوله تعالى ( اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا ) لأنه من أرباب السياسة وهذا مقتضى الحكمة ان لا تأخذه العزة بالإثم وهو من هو في قومه في نظره .
فأي ظلم بعد ان يغلق الباب دون الفقير ويفتح أمام الغني ودون من لانسب له ويفتح أمام أهل النسب والحسب ويعلوا فيه أهل الباطل لا لشيء إلا لأن صوتهم أعلى ..
وأي عدل أكثر من أن تنزل الناس منازلهم ؟ فأهل التقوى هم أهل التقوى لا يقومون بمقام أهل العالم ولا يغنون غناءهم وكذا العكس ، وأهل الشدة في مواطن الشدة والقوة لا يغني عنهم أهل الضعف والتراخي ، وأهل المناصب هم أهل المناصب ليس إلا لا يعطيهم منصبهم مكانة لا يستحقونها فهم لا يزيدون على انهم أدوات لا أكثر إلا ان كانت لهم سابقة في شيء من العلم أو الفضل ..
وان عدم التمييز من الأمة في انزال الناس منازلهم كانت لهم أم عليهم وسوء تقديره يعني بلا شك أن الأمة مقبلة على مجتمع لا عدل فيه ولا حكمة ولا أمانة ؟
يسود فيه صاحب النسب وأهل الجهل والفسق وأهل الضلال ، ويعلوا فيه الباطل صوت الحق ، ويرتفع شأن أناس ويتضع آخرون ، ويظلم فيه أجلاء فضلاء علماء أتقياء صلحاء لا لشيء الا لأن الأمة لم تقدر الأمور بمقاديرها الصحيحة وتعطي كلا مكانته التي تنبغي له .
فعندما يقوم بعض الأفراد من الأمة برفع شخص واعلاء مكانه والمبالغة في تعظيمه واجلاله ـ وهو ممن يستحق ذالك التعظيم وهذا الاجلال لمكانته العلمية أو الخلقية أو الدينية ولا تفاضل بعد ذالك ـ فيقولون فلان من الناس ، ويشيرون اليه اشارة العطش إلى الماء البارد ، والملهوف الى غياثه ، والمكروب إلى فرجه ، فينظر سواد العامة من الناس فيرون كل ذالك فيخيل إليهم وهو ليسوا أهل نظر وفكر لكنهم تبع بآراءهم وتوجهاتهم ان هذا الانسان لا يخطى وكلامه يعلوا كلام غيره ، ورأيه الأصوب ، فيقبلون ما يجيء به ولو كان خطأ ويرفضون كلام غيره ولو كان الصواب ويبالغون في ذالك مبالغتهم في كل الأمور فيتناقل الناس قصصا وأوهاما لا أصل لها ويزيدون عليها ليجعلوا منه الغوث الفرد والقطب المدبر بل ويرفعونه فوق شأنه كثيرا ، فيسيؤون إليه وقد أرادوا الاحسان جهدهم ..
بل ويسيئون إلى انفسهم مذ أنهم صاروا كالجماد لا رأي له بل قد يقعون في زيف خطأه فيضلون بضلاله ويخطئون ..
ولا يعني ان لا يعطى قدره وهو يستحق التقدير بل يعني انه يجب ذالك مع القصد والإجمال فمن منا لا يخطئ ..
والداهية الأدهى أن يكون هذا الرجل ممن لا يستحق التعظيم ولا الإجلال وان استحق شيئا منه ، فهذا أدعى لكثرة الخطأ فيجعلون منه انسانا قدوة وهو ليس كذالك ويقولون برأيه ويدفعونه وهو قليل العلم والخلق إلى ان يدعي ما ليس فيه وقد هابه أن ينكر ذالك وقد ألفته نفسه وأحبه الناس واجتمعوا اليه فيحمل نفسه ما لا تحتمل ويقوم بوزر من يدعي الحسن ولم يحسن قط فيضل ويضل ..
والأنكى مما سبق أن يكون ممن لا يستحق شيئا ولا جزءا منه فهو من أهل الضلالة والغواية يرفعه الطغاة ليكون سيفا لهم يضربون به من أرادوا ويرفعه الفساق ليبيح لهم تشريعاتهم وأفعالهم الشنيعة ويرفعه المفسدون في الأرض ليجعلوا منه رمزا وطنيا وسيدا متبعا ومفنا معظما وذا رأي حصيف يقودون به الناس ويسوسونهم سياسة لا تحمل في طياتها الا خبث فاعليها ودناءة نفوسهم ، وما مصيبتنا في هؤلاء فهم أعداء الفضيلة على اي حال اعداء الدين والخلق ، ولكن مصيبتنا فيمن مشى معهم وسكت عنهم وقبل منهم والساكت عن الحق كان ولا يزال شيطان أخرس .
وعادة الناس في زمان ومكان لا تتغير في أنهم يضفون صفات على الأشخاص لا تليق بهم وليست لهم ولكنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ..
وعادة الناس انهم يتبعون الأقرب إلى نفوسهم لا الى الحق والقسط الأدنى منهم فكرا وعقلا بل وهوى ..
وعادتهم أنهم لا يفرقون بين صاحب منزل ووظيفة وصاحب علم ومكانة ولا بين التقى والصلاح الا في الشكل والظاهر ، فيرفعون الدنيء فقط لكثرة عمره والجاهل لنسبه والقميء لأنه صار حديث الناس فيتخذون من المطربين والمغنين والممثلين والقادة الجهلة مثلا وموضع ذكرى لا لشيء إلا لن الإعلام يكثر من ذكره ومشغول به فيرتفع شأن راقصة وتصير حديث الناس لأنها ظهرت في برنامج تلفزيوني أو قناة مميزة ..
وأيم الله لو كان للسفاهة جسد لكانت لما خرجت عن جلدتهم ، أو للوضيعة شجرة لكانوا ثمارها وفروعها بل وجذورها ، التابعون والأتباع على حد سواء ..
ثم ان الأمة في المقابل عندما تظلم أهل العلم والأخلاق والتقى فلا تعطيهم حقهم جهلا منهم بمكانتهم أو حسدا من أنفسهم أو اسفافا لا يقبل أو ميلا عن أهل الحق إلى أهل الضلال فسقا وفجورا فهذه مدعاة لأن يضيع القدوة في الناس وتذهب هيبة العلم والتقى والصلاح في النفوس فيذهب بذهابها العلم والتقى والصلاح ولا يعرف الناس شرف العالم ولا مكانة التقي ولا منزلة الصالح ، فينظر الناس في بياض العامة فيرون وقد غيب هؤلاء فيظنون ان لا مكانة ولا منزلة لهم وعندها يفقد أولادنا قدوة صالحة وموجهين حكماء وصالحين أتقياء فتفقد الأمة بفقدهم كل فضيلة وتخسر هؤلاء الناس ان يكونوا في المكان الصحيح وهذا بحق هو تضييع الأمانة ..
فلا يعطى الأفراد أيا كانوا أكثر من مكانهم الذي يستحقون فما ضرنا اذ ضرنا الا هؤلاء حيث ظن الناس انهم الحق وأنهم الأصوب وانهم لا يخطئون وخطئوا من يخالفهم ولو كان الصواب وقبلوا منهم ولم يقبلوا من غيرهم فهل أحسنا بهم أم أسأنا ..
ولا يظلم من يستحق التقديم والمكانة فيؤخر عن مكانه وهو جدير بها فيضيع الفضل والخير والأمانة ..
فإذ لا عدل ولا قسط ولا أمانة أي مجتمع نعول عليه وأي جيل نُرَوِّي له ..