منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com/)
-   الحضارة في الإسلام (http://forum.islamstory.com/f83.html)
-   -   أدب التعامل الاسلامي بين الأغنياء والفقراء (http://forum.islamstory.com/78219-%C3%CF%C8-%C7%E1%CA%DA%C7%E3%E1-%C7%E1%C7%D3%E1%C7%E3%ED-%C8%ED%E4-%C7%E1%C3%DB%E4%ED%C7%C1-%E6%C7%E1%DD%DE%D1%C7%C1.html)

eslamforever12 20-01-2015 07:17 AM

أدب التعامل الاسلامي بين الأغنياء والفقراء
 







* فلسفة الفقر عند سقراط

الفقير قد يرتبط بفلسفة التسليم والرضا بواقعه أكثر مما هو مرتبط بقيمة ما يمتلك من نواحي مادية وهذا يتضح من محاورة سقراط مع تلميذه "أثيدم "من هم الفقراء ؟ ومن هم الأغنياء في رأيك ؟ .... الفقراء في رأيي هم من لا يوجد عندهم من المال ما يكفي لنفقاتهم الضرورية والأغنياء من يزيد دخلهم على ما يلزمهم ألم تلحظ أن بعض الناس ليس عندهم من المال إلا النذر اليسير ومع ذلك فهو يكفيهم ويدخرون منه وآخرون لا يجدون - مع ثروتهم العظيمة- ما هم في ضرورة إليه ؟ .... هذا صحيح وإنك لمصيب في توجيه انتباهي إليه " ليست الثروة إذن وليست السعادة إلا الانسجام بين رغبات الإنسان وظروفه وكلما قلت الرغبات كثر إمكان الوصول إليها ليس موطن الثراء والفقر كما يقول " أنتيستين " في بيوتنا وإنما في نفوسنا وليست السعادة في اكتناز الذهب والفضة وإنما هي في سلوكنا الحكيم تجاه حاجاتنا ورغباتنا "([1])
ويرى سقراط أيضا " أن السعادة لا تنجم عن شيء مادي وإنما هي أثر لحالة نفسية أخلاقية هي الانسجام بين رغبات الإنسان والظروف التي يوجد فيها وكان رده على أنتيفون حين اتهم سقراط بأنه يعلم بذلك فن الشقاء والحرمان يتلخص في قوله له :
1- إنه لا يشعر بالحرمان مما لا يرغب فيه .
2- هناك ملاذ أخرى أعذب وأحلى من الملاذ المادية يوضحها قوله : " أترى لذة تضارع الأمل في أن يصير الإنسان أكثر عزة وكرامة وأن يصادق فضلاء الناس ؟ ... ذلك هو الأمل العذب الذي يراودني طيلة حياتي إذا كانت الرفاهية والأبهة تلك هي السعادة في نظرك فإنك يا أنتيفون تخطئ في فهم السعادة .
3- الإقلال من الاحتياج والتملك هو محاولة للتقرب إلى الله يقول سقراط : إني أعتقد أنه إذا كان من خصائص الإله أنه لا يحتاج إلى شيء فإن مما يقرب من الإلوهية أن لا يحتاج الإنسان إلا إلى قليل وبما أنه لا أكمل من الله فإن القرب منه قرب من الكمال"([2])
* آداب الفقير أوكيف يتعامل الفقير مع الناس ؟
1- النهي عن السؤال للآخرين إلا عند الضرورة القصوى وقد نهى الرسول r عن كثرة السؤال فعن المغيرة بن شعبة عَنْ النَّبِيِّ rقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ "([3])ومما روي في هذا الصدد أيضا عن ثوبان مولى رسول الله r قال: قال رسول اللهr :"من تكفل لي ألَّا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة ؟فقال ثوبان:أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا"([4])
وعن عوف بن مالك قال:" كنا عند رسول الله r سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: ألا تبايعون رسول الله r ؟ وكنا حديثي عهد ببيعة قلنا: قد بايعناه حتى قالها ثلاثة وبسطنا أيدينا وقال قائل: يا رسول الله إنا قد بايعناك فعلام نبايعك ؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسرّ كلمة خفية قال:ولا تسألوا الناس شيئا قال: " لقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه "([5])
وهكذا يتضح " كيف ربى الرسول r أمته على السمو والشرف والابتعاد عن السفاسف وإراقة ماء الوجه في وقت كان الصحابة - رضوان الله عليهم – يعانون شظف العيش وضيق ذات اليد ومع ذلك تربوا على معان وقيم وأدركوا معنى كلمة اليد العليا خير من اليد السفلى " ([6])
وقال النووي : اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الحديث والثاني يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة : أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال ولا يؤذي المسئول فإن فقد شرط من ذلك حرم" ([7])
أما أدب الفقير عند عبد القادر الجيلاني فيقول عنه : " من أدب الفقير ترك السؤال للخلق ما دام عنده ما يكفيه فإن كان بيده دانق وهو محتاج إلى درهم لم يسلم له السؤال حتى يصرف الدانق .. وينبغي أن لا يسأل لأجل نفسه ما أمكنه بل لعياله ومن أدب الفقير أن لا يترك الاحتياط في الورع في حال ضيق اليد فلا يخرج إلى ما لا يحل في الشرع لفقره وأن يخرج من قلبه ذكر المخلوقين .. وينبغي إذا مسته محنة أو فاقة أن يستر حاله عن إخوانه ما أمكنه لئلا يشغل قلوبهم بسببه فيتكلفوا له "([8])
وفي هذا يقول الغزالي: "من آداب الفقير لزوم القناعة وكتمان الفاقة وترك البذالة والتضعضع وإلقاء
الطمع وإيثار الصيانة وإظهار الكفاية لأهل المروءة من أهل الديانة " ([9])
* ولعلاج الإصرار على السؤال والإلحاح فيه
بالإضافة إلى ما سبق من النهي عن المسألة بقدر الاستطاعة وجعلها في أضيق الحدود التي يعجز فيها الإنسان عن الكسب بنفسه أو لا يملك الكفاف في حده الأدنى لقيام حياته فإننا نجد الرسول r يعلمنا أن الله لا يبارك للإنسان الذي أخذ من سؤال الآخرين عادة له وما دام ليس عاجزا عن التحرك بنفسه لكسب قوته وإزاحة الفقر عنه ويؤكد هذا المعنى ما روي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت رسول الله r فأعطاني ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع اليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم : فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعوا حكيما إلى العطاء فيأبي أن يقبله منه ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبي أن يقبل منه شيئاً فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أنى أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذ ه فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله r حتى توفى " ([10])
وسخاوة النفس في "الحديث" أي بغير شره وإلحاح ولا أرزأ أي لا أنقص ماله ويقال: إن حكيما رضي الله عنه ما سأل أحداً قط بعد ذلك وأن الله بارك له ووسع في رزقه حين سعى لذلك وتحول من السائل إلى المعطي المنفق في سبيل الله حيث باع دار الندوة لمعاوية بمائة ألف فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش فقال : ذهبت المكارم يا ابن أخي إلا التقوى إني اشتريت بها دارا في الجنة أشهدكم أني جعلتها لله ، وكان لا يجيء أحد يستحمله في السبيل إلا حمله .([11])
ويستطيع كل إنسان لا يمتلك قناعة النفس والرضا أن يدخل نفسه في دائرة الفقر وبالتالي السؤال للآخرين ولكن الرسول r نهى عن السؤال حتى في الحد الأدنى لما يمتلكه المرء وفي هذا روي أن أبا سعيد الخدري قال: سرحتني أمي إلى النبي r يعني لأساله من حاجة شديدة فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال:من استغنى أغناه الله ومن سأل وله أوقية فقد ألحف فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله " وهذا الصحابي سرعان ما تأثر بهذا التوجيه النبوي وتوقف عن إبداء حاجته وعاد قانعا بفكرة
عدم السؤال " ([12])
والسلمي جعل من عيوب النفس إظهار الفقر مع الكفاية ومداواتها إظهار الكفاية مع القلة ...
(ونقل السلمي عن جده قوله): كان الناس يدخلون في التصوف أغنياء ويفتقرون ويظهرون الغنى وفي هذا الوقت يدخلون في التصوف فقراء ويستغنون ثم يظهرون للناس الفقر " ([13])
وهذا نوع من الخداع والتضليل حرمه الشرع ولطالما أنكره علماء الإسلام ومنهم الغزالي الذي يرى أنه إذا كان ولابد من السؤال والاحتياج للآخرين عند الضرورة القصوى فإن ذلك ينبغي أن يكون نابعا من ظروف قاسية فعلا يمر بها المرء ويحتاج فيها لعون الآخرين مع الالتزام بآداب أخرى قد أشار إليها بقوله : " من آداب السائل أن يبدي الفاقة بصدق الحقيقة ويظهر السؤال بلطافة القول ويأخذ ما أعطي بمقابلة الشكر وإن قل وحسن الدعاء فإن رد عليه رجع بجميل قبول العذر وترك المعاودة والإلحاح " ([14])
2- من أدب الفقير العمل من أجل مغالبة الفقر لمودة الأرحام والاستغناء عن ذل السؤال .
قال الله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) الكهف: 46 وقيل: الفقر رأس كل بلاء، وداعية إلى مقت الناس، وهو مع ذلك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء فمتى نزل الفقر بالرجل لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن فقد حياءه فقد مروءته، ومن فقد مروءته مقت، ومن مقت ازدري به، ومن صار كذلك كان كلامه عليه لا له، وقال رسول الله r : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " وفي الحديث : " لا خير في من لا يحب المال ليصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه " وقال علي رضي الله عنه : الفقر الموت الأكبر وقد استعاذ الرسول r من الكفر والفقر وعذاب القبر وقيل : من حفظ دنياه حفظ الأكرمين دينه وعرضه "([15])
وقد ربط الإمام علي بين الفقر والبلاء وبين الغنى والنعيم قائلا : ألا وإن من البلاء الفاقة وأشد من الفاقة مرض البدن وأشد من مرض البدن مرض القلب ألا وإن من النعم سعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن وأفضل من صحة البدن تقوى القلب " ([16])
وكان سفيان الثوري يقول : "المال في هذا الزمان عز للمؤمن وكان - رحمه الله- بين يديه دنانير يقلبها فقال له قائل : أتحبها فقال : دعنا منك فلولا هذه لتمندلت أعراض القوم تمندلاً "
وقال ابن عيينة :"من كان عنده مال فليصلحه فإنكم في زمان من احتاج فيه إلى الناس كان أول ما يترك دينه "([17])
ولكن يشترط مع شدة الفاقة أن يسعي الإنسان دائماً إلى تحرى الحلال في كسب رزقه ولا يكون ما يراه من تبجيل الناس للغنى دون الفقير مدعاة للوقوع في الحرام لأن ذلك لا يبارك الله فيه،وفي هذا ذُكر في"كليلة و دمنة" إن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وأهل وده ومقتوه ورفضوه وأهانوه واضطره ذلك إلى أن يلتمس من الرزق ما يغرر فيه بنفسه ويفسد فيه آخرته فيخسر الدارين جميعاً "([18])
3- إظهار الغنى بالتعفف والستر على فقره لكي لا ينتقصه الناس
قال لقمان لابنه : يا بني أكلت الحنظل وذقت الصبر فلم أر شيئاً أمرّ من الفقر فإن افتقرت فلا تحدث به الناس كيلا ينتقصوك ولكن اسأل الله تعالي من فضله فمن ذا الذي سأل الله تعالي فلم يعطه أو دعاه فلم يجبه أو تضرع إليه فلم يكشف ما به " وموقف الناس المتباين من الفقير والغنى يؤكد لنا مدى أهمية إظهار الغنى عن الناس والافتقار إلى الله وحده . يقول العباس رضي الله عنه : الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس وهو عندهم أعذب من الماء وأرفع من السماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد خطؤه صواب وسيئاته حسنات وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يمل حديثه "
أما موقف الناس من الفقير فعكس ما سبق تماما يوضح ذلك بقوله: "والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب وأثقل من الرصاص لا يسلم عليه إن قدم ولا يسأ ل عنه إن غاب إن حضر ازدروه وإن غاب شتموه وإن غضب صفعوه مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة "
( وقد يحمل هذا الكلام بعض المبالغة لكنه أراد أن يشير إلى مدى ازدراء الناس من الفقير )
وكما يقول الشاعر :
وكـلٌ مقلٍ حـين يغدوا لحاجة إلى كل ما يلقى من الناس مذنبُ
وكانت بنـو عمي يقولون مرحباً فـلما رأوني معدماً مات مَرْحبُ ([19])
وآخر يوضح مدى الهوان الذي يلقاه الفقير عند الناس بقوله :
إذا قـل مـال المرء لانت قناتـه وهـان على الأدنى فكيف الأباعدُ
وقال آخر :
والله مـا الإنسان في قـومــه إذا بلـــى بالفقـر إلا غريب
وقال آخر:
مـا الناس إلاّ مع الدنيا وصاحبها فـكـلما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعظّمون أخـا الدنيا فـإن وثبت يـوما عليه بمـا لا يشتهى وثبوا
وكان سفيان الثوري يقول : لئن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلى ّ من أن أحتاج إلى لئيم وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له : يا بني عليك بطلب العلم وجمع المال فإن الناس طائفتان خاصة وعامة فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال "([20])وقال ابن كثير :
الناس أتباع من دامت له النعم والويل للمرء إن زلت بـه القدم
الـمال زين ومن قلت دراهمه حىٌ كـمن مـات إلاّ أنه صنم
لـما رأيت أخلائى وخالصتى والـكـل مستتر عـنى ومحتشم
أبدوا جفاءً وإعراضا فقلت لهم أذنبت ذنـبـاً فقالوا ذنبك العدم
وقال ابن قعلة :
إنـمـا قـوة الظهور النقود وبـهـا يـكمل الفتى ويسود
كم كريم أزرى به الدهر يوماً ولـئـيم تـسعى إليه الوفـود([21])
وابن المقفع يبرز هذا التناقض في موقف الناس من الغنى والفقير والذي يستدعى الاحتراز عن إظهار الفاقة للآخرين فيقول :"إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يُظن به حسناً فإذا أذنب غيره ظنّوه وكان للتهمة وسوء الظن موضعاً. وليس من خلة هى للغنى مدح إلا هى للفقير عيب فإن كان شجاعاً سمى أهوجا وإن كان جواداً سمى مفسداً وإن كان حليماً سمى ضعيفاً وإن كان وقوراً سمى بليداً وإن كان لسناً سمى مهذاراً وإن كان صموداً سمى عيياً " ([22])
اتفق حكماء الإسلام على أن التعزز، والترفع عن الذل للغني وترك الطمع فيه هو ما يجب أن يتحلى به الفقير في تعامله مع الغني فمن أقوالهم في ذلك : قول الإمام علي رضي الله عنه : " ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله " وفي شرح الإمام محمد عبده لهذا الحديث يقول : لأن تيه الفقير وأنفته على الغني أدل على كمال اليقين بالله فإنه بذلك قد أمات طمعا ومحا خوفا وصابر في يأس شديد، ولا شيء من هذا في تواضع الغني " ([23])
ويروى أن أبا حنيفة كان قد تواضع لغني لإيمانه فقال:قد ختمت القرآن ألف مرة كفارة لذلك"([24])
ويقول الإمام الجيلاني :" وأما الصحبة مع الأغنياء فالتعزز عليهم وترك الطمع فيهم وقطع الأمل مما في أيديهم وإخراج جميعهم من قلبك وحفظ دينك من التضعضع لهم لتواليَّهم كما جاء في الحديث وهو قوله r: " من تضعضع لغني لأجل ما في يده ذهب ثلثا دينه " فنعوذ بالله من فعل ينقص به الدين وصحبة أقوام ينثلم بهم الدين وتنقطع عراه ويطفئ نور الإيمان شعاع أموالهم وبريق دنياهم كما جاء في الحديث غير أنك إذ ابتليت بصحبتهم في سير أو سفر أو مسجد أو رباط مجمع فحسن الخلق أول ما يستعمل وهو حكم عام شامل في صحبة الأغنياء والفقراء .. فأدب الغني بالإحسان إلى الفقير وهو إخراج المال من كيسه إليه .. وأدب الفقير إخراج الغني من قلبه "([25]) .
وهذا قد أشار إليه العابد شقيق البلخي بقوله: "إن الفقير من لا يطلب الزيادة في قلبه"
" وكان من دعاء السلف رضي الله تعالى عنهم : اللهم إني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغني"([26])
كما أن الغزالي قد أشار إلى الأسس العامة التي ينبغي أن يلتزم بها الفقير مع الغني بقوله: " آداب الفقير إجلاء الأغنياء مع قلة الاستبشار لهم وإظهار الكفاية لهم مع الإياس منهم وترك الكبر عليهم مع نفي التذلل وحفظ القلب عند رؤيتهم والتمسك بالدين عند مشاهدتهم "([27])
كما يقول ابن حزم : " إياك و التفاقر (ادّعاء الفقر) فإنك لا تحصل من ذلك إلا على تكذيبك أو احتقار من يسمعك ولا منفعة لك في ذلك أصلا إلا كفر نعمة ربك تعالى أو شكواه إلى من لا يرحمك "
4- من أدب الفقير التسليم والرضا فيما لاطاقه له في تحصيله
وفي هذا يقول بشربن الحارث : "من أفضل أعمال البر الصبر على الفقر " ([28])
والتسليم والرضا كان من نصائح سليمان عليه السلام لأحد الفقراء عند العجز عن الفعل " فقد روى أنه كان لسليمان ألف بيت أعلاها قوارير وأسفلها حديد فركب الريح يوما فمر بحرّاث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتى آل داواد ملكاً عظيماً فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان عليه السلام قال: فنزل حتى أتى الحرّاث فقال:إنى سمعت قولك وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لاتقدر عليه لتسبيحة واحدة يقبلها الله عز وجل خير مما أُوتى آل داواد فقال الحرّاث: أذهب الله همك كما أذهبت همي "([29])
ولقد أكد الرافعي في كتابه المساكين على أن الإنسان حين يعجز عن الفعل ويرضى دون حزن ويأس بواقعه ينال بذلك الأمن والطمأنينة والتى قد يفتقدها من يملك الثراء الواسع فالشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه هوعنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح .. فالرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لاطاقة له به مستخلصا ذلك من الشيخ علي الذي يصف الرافعي واقعه فيقول:"وإيمانه كان مادة حياته ونظام عمله وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته فكنت لاتراه إلا مبتسماً أبداً أوضاحكاً ضحكة السخرية والاستسلام "([30]) وذلك على عكس حالة القلق الدائمة التى يكون عليها الغني ويوضح ذلك أحد الأغنياء وهو عون بن عبد الله بقوله : صحبت الأغنياء فلم أجد فيهم أحداً أكثر منى هماً لأنى كنت أرى ثيابا أحسن من ثيابى ودابة أحسن من دابتى ثم صحبت الفقراء فاسترحت .([31])
وفي كليلة ودمنة إشادة بقيمة الرضا والتسليم عن ذل النفس بالسؤال وهذا من شيم الكرام ومما قيل في ذلك: " وجدت ركوب الأهوال وتجشم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهون علىّ من بسط اليد إلى السخي بالمال فكيف بالشحيح به ولم أر كالرضا شيئاً ووجدت العلماء قد قالوا : لا عقل كالتدبير ولا ورع ككف الأذى ولا حسب كحسن الخلق ولا غنى كالرضا وأحق ما صبر الإنسان على الشيء نفسه .."([32])
وفي موضع آخر من كليلة ودمنة تأكيد لهذا المعنى الذي صار حكمة وهي أن "الموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة ولا سيما مسألة الأشحَّاء واللئام فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى فيخرج منه سما فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللئيم"([33])
- فلسفة الغنى والفقر
تتفق وجهة النظر الإسلامية مع ما ذهب إليه الكثير من الحكماء والفلاسفة اليونانيون وغيرهم في أن الغنى يتعلق بحالة نفسية تتسم بالرضا أكثر من كونها ترتبط بمدى ما يكنزه الإنسان من أموال وغيرها، وهذا المعنى قد عبر عنه صراحة الرسول r في كثير من الأحاديث : يقول الرسول r "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس "
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله r :" يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت : نعم قال :وترى قلة المال هو الفقر ؟ قال : إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب"
وفي حديث آخر للرسول r يبين معنى الفقر الحقيقي للإنسان وهو فقره من الحسنات يوم القيامة والتي لا تكون بسبب قلة عبادته من صلاة وصيام وزكاة وإنما بسبب سوء معاملته للآخرين وحنقه عليهم وهو فقير حتى ولو كان ظاهره الغنى فيقول الرسول r " أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته" ([34])
* معنى الفقر والفقير في التراث الإسلامي
كثيرة هي الآراء التي تبين المعنى الحقيقي للفقير كما علمه الرسول r لصحابته منها على سبيل المثال لا الحصر: " قال شقيق البلخي : سألت سبعمائة عالم عن خمسة أشياء: من العاقل ؟ من الغني ؟ من الذكي ؟ ومن الفقير ؟ ومن البخيل ؟ فأجاب السبعمائة إجابة واحدة قالوها جميعا : العاقل من لا يحب الدنيا والذكي من لا يفتن بها والغني من يرضى بقسمة الله والفقير من لا يطلب الزيادة في قلبه والبخيل من يمنع حق مال الله عنده "
وقال الحكماء: من الثلاث المنجيات: خشية الله في السر والعلن والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب "([35])
* التعامل مع الفقير كيف يكون؟
1- النهي عن إذلاله والحث على قضاء حوائجه
قال الشاعر:
لا تذل الفقير عـلـّك أن تسقط يومـا والدهر قد رفعه([36])
" وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:لأن أقضي لأخ حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهرين "وفي رواية أخرى عن الحسن قال:لأن أقضي لمسلم حاجة أحب إلي من أن أصلي ألف ركعة "([37])
ولإعطاء الفقير وما شابه آداب أشار إليها الغزالي تحت عنوان " آداب المتصدق " قائلا : "ينبغي له أداؤها قبل المسألة وإخفاء الصدقة عند العطاء وكتمانها بعد العطاء والرفق بالسائل ولا يبدؤه برد الجواب ويمنع نفسه البخل ويعطيه ما سأل أو يرده ردا جميلا فإن عارضه العدو إبليس لعنه الله إن السائل ليس يستحق فلا يرجع بما أنعم الله به عليه بل هو مستحق لها " ([38])
2- النهي عن الافتخار بثرائك
إن ابن حزم يحذر الغني من الافتخار بثرائه لأن أثر ذلك سيئ عليه وفي هذا يقول:" وإياك ووصف نفسك باليسار فإنك لا تزيد على إطماع السامع فيما عندك ولا تزد على شكر الله تعالى وذكر فقرك إليه وغناك عمن دونه فإن هذا يكسبك الجلالة والراحة من الطمع فيما عندك "([39])
3- مجالسته ومواساته والاعتذار والدعاء له عند الإساءة إليه
كل هذه معاني حض عليها حديث الرسول r فقد روى الإمام أحمد "عن كعب بن سوار قال: بينما رسول الله r يحدث أصحابه إذا جاء رجل من الفقراء فجلس إلى جنب رجل من الأغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه فتغير رسول الله r فقال رسول الله r:"أخشيت يا فلان أن يعدو غناك عليه وأن يعدو فقره عليك قال : يا رسول الله وشرٌ الغنى قال :"نعم إن غناك يدعوك إلى النار وإن فقره يدعوه إلى الجنة فقال فما ينجيني منه قال : تواسيه قال إذاً أفعل فقال الآخر لا إرب لي فيه
( أي لا حاجة لي فيه ) قال : فاستغفر وادع لأخيك " ([40])
ولقد جعل السلمي حب مجالسة الأغنياء دون الفقراء من أمراض النفس التي ينبغي علاجها وجعل الدواء في مجالسة الفقراء والعلم بأن الله تعالى عاتب نبيه r في مجالسة الأغنياء والإعراض عن الفقراء فقال : ( أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى) عبس 5 -10 فقال النبي r بعد ذلك : " المحيا محياكم والممات مماتكم" ([41]) وقال للفقراء : " أُمرت أن أصبر نفسي معكم " وقال عليه السلام : " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين "([42]) وروي أنه r قال لعلي ولغيره : " عليك بحب المساكين والدنو منهم " ([43])
ولقد وضع الغزالي آدابا عامة لتعامل الغني مع الفقير خاصة ذكرها بقوله :" من آداب الغني لزوم التواضع ونفي التكبر ودوام الشكر والتوصل إلى أعمال البر والبشاشة بالفقير والإقبال عليه ورد السلام على كل أحد وإظهار الكفاية ولطافة الكلمة وطيب المؤانسة والمساعدة على الخيرات " ([44])
* كيف يمكن تمييز المدََّعين للفقر واللحوحين من الفقير الضعيف؟ والطريق الصحيحة للتعامل معهم:
للفارابي في مخطوطه "الموعظة " منهج للتعامل مع الناس يوضحه بقوله : " فأما الذي ينبغي أن يستعمل المرء مع من دونه من الناس فإنا نصف منه ما تيسر فنقول :إن منهم الضعفاء وهم صنفان :
- أحدهما: المحتاجون دون الفاقة وهم صنوف منهم:
1- الملحون: فينبغي أن لا يعطيهم ولا يبذل لهم على إلحاحهم شيئاً لينزجروا عنه إلا إذا علم أنه صادق الحاجة إلى الشيء الضروري .
2- الكاذبون: فيما يدعونه من الفاقة فينبغي أن يميز بينهم فإن كان يعمده للكذب أو لضرب من التدبير فليكن معاملته معهم في المواساة وسطا من غير منع ولا بذل تام
3- الضعفاء الصادقون: فيما يبدونه من الحاجة فيجب أن يواسيهم بغاية ما يمكنه من غير أن يخل بأحوال بنيه بما يواسيه "([45])
- ثانيهما :الصنف الآخر هم المتعلمون وذووا الحاجة إلى العلم فمنهم
1- ذووا الطباع يقصدون بعلم العلوم ليستعملوها في الشر فينبغي للمرء أن يحملهم على تهذيب الأخلاق ولا يعلمهم شيئاً من العلوم التي إذا عرفوها استعملوها فيما لا يجب وليجتهد في كشف ما هم عليه من رداءة الطبع ويحذر منهم .
2- البليد: الذي فيه أدنى ذكاء ولا يرجى براعتهم فينبغي أن يحثهم على ما هو أعود عليهم.
3- المتعلمون ذووا الأخلاق الطاهرة والطباع الجيدة فيجب أن لا يدخر عنهم شيئاً مما عنده من العلوم ثم إنه ينبغي للمرء أن يرجع إلى خُلّص أحواله فيميزها ويعلم طريق حاله وصلاحها ويستعمل في كل حال من أحواله ما يعود بصلاحها"

([1]) المشكلة الأخلاقية والفلاسفة : أندريه كريسون ،ص96

([2]) المرجع السابق، ص95


([3]) رواه البخاري : كتاب الأدب ، باب عقوق الوالدين من الكبائر

([4]) مختصر سنن أبي داود باب كراهية المسألة ص 241 ،تهذيب ابن القيم ج2/ص237 باب ما يجوز فيه المسألة

([5]) أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه المصدر السابق باب كراهية المسألة ص241

([6]) دراسات تربوية في الأحاديث النبوية : د.محمد لقمان الأعظمي ،ص252

([7]) فتح الباري، ج10ص208 دراسات تربوية في الأحاديث النبوية ص 151

([8]) الغُنية لطالبي طريق الحق، ص 174،175

([9]) مجموعة الرسائل للغزالي، ص438 كتاب الأدب في الدين

([10]) فتح الباري، ج3 /1472 كتاب الزكاة ‘صحيح مسلم ج7/ 126سنن النسائي وسنن الدرامي ج2/ 310

([11]) دراسات تربوية في الأحاديث النبوية، ص246 وما بعدها

([12]) الفتح، ج3/ 341 المرجع السابق ص250

([13]) عيوب النفس وأدواؤها ، ص112

([14]) مجموعة الرسائل، للغزالي ص438 كتاب الأدب في الدين

([15]) المستطرف في كل فن مستظرف، ص483

([16]) نهج البلاغة، ص769

([17]) الحكم والأمثال: للعسكري ص460

([18]) كليلة ودمنة، ص150

([19]) المستطرف في كل من مستظرف، ص483

([20]) المرجع السابق، ص484- 482

([21]) المستطرف في كل فن مستظرف، ص486‘487

([22]) الأدب الصغير والأدب الكبير، ص56

([23]) نهج البلاغة، ص 772

([24]) تذكرة الأولياء، ص 441

([25]) الغُنية لطالبي الحق ، ص 170

([26]) المستطرف في كل فن مستظرف، ص492

([27]) مجموعة الرسائل: ص 438 كتاب الأدب في الدين

([28]) العارف بالله بشر بن الحارث الحافي : د . عبد الحليم محمود ،ص44

([29]) الزهد، ص51

([30]) حياة الرافعي : محمد سعيد العريان ، ص68 ، 69 الهيئة العامة لقصور الثقافة

([31]) المستطرف في كل فن مستظرف، ص492

([32]) كليله ودمنة، ص151

([33]) المرجع السابق، ص 150

([34]) دراسات تربوية في الأحاديث النبوية، ص 444 وما بعدها

([35]) تذكرة الأولياء: للعطار، ص 435، مجاني الأدب، ج2 / ص54

([36]) مجاني الأدب، ج1 ص30

([37]) مجموعة الرسائل: لابن أبي الدنيا ص90 وما بعدها كتاب قضاء الحوائج

([38]) مجموعة الرسائل، للغزالي ص438 كتاب الأدب في الدين

([39]) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ص 227

([40]) الزهد: ص49

([41]) رواه مسلم كتاب الجهاد وابن حنبل 2 / 528

([42]) رواه الترمذي في كتاب الزهد

([43]) عيوب النفس وأدواؤها : أبو عبد الرحمن السلمي ص116

([44]) مجموعة الرسائل، ص438 كتاب الأدب في الدين

([45]) الموعظة للفارابي، ورقة 12،11مخطوط بمعهد المخطوطات العربية


الساعة الآن 09:58 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام