الكذب هو إحدى سمات المنافق وكان الحسن بن عرفة يقول : " كان يقال : إن من النفاق اختلاف السر و العلانية و القول والعمل و المدخل و المخرج و أصل النفاق الذين يبنى عليه النفاق: الكذب "([1]) كما أن الكذب أو الإخبار بغير الحق نوعان عند الرازي : نوع يقصد به المخبر إلى أمر جميل مستحسن ولا يترتب عليه فضيحة ولا ندامة بل شكرًا و ثناءًا و جميلاً.
أما النوع الثاني عديم الغرض ففي تكشفه الفضيحة و المذمة ويترتب عليه الضرر و الكذب بالمعنى الثاني ( هو لدى المتخصصين ) مؤشر للإضطرابات النفسية" ([2])
أما أنواع الكذب عند صاحب كتاب " جامع السعادات " فهي :
1- الكذب في القول أي الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه وصدوره إما عن العداوة أو الحسد أو الغضب أو من حب المال و الطمع أو الاعتياد الحاصل من مخالطة أهل الكذب.
2- الكذب في الأعمال وهو أن تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به أي لا يكون باطنه مثل ظاهره ولا خير منه وهذا غير الرياء لأن المرائي هو الذي يقصد غير الله تعالى في أعماله ومن أمثلة النوع الثاني من الكذب:
" أن الرجل قد يمشي على هيئة الطمأنينة والوقار بحيث يجزم من يراه بأنه صاحب السكينة و الوقار مع أن باطنه ليس موصوفًا بذلك "
3- و أما الكذب في مقامات الدين كالكذب في الخوف و الرجاء و الزهد و التقوى والحب و التوكل....كقول على y:"إياكم و الكذب فإن كل راج طالب وكل خائف هارب" أي لا تكذبوا في ادعائكم الرجاء و الخوف من الله وذلك لأن كل راج طالب لما يرجو ساع في أسبابه و أنتم لستم كذلك وكل خائف هارب مما يخاف منه مجتنب مما يقربه منه و أنتم لستم كذلك وهذا مثل قوله في نهج البلاغة:"كل من رجا عُرف رجاؤه إلا رجاء الله فإنه مدخول وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول "([3])
* ذم الكذب
ولقد أورد ابن أبي الدنيا في كتابه " الصمت و آداب اللسان " الكثير من الأحاديث النبوية في ذم الكذب وكذلك الغزالي في إحياء علوم الدين وغيرهم كُثر ذكروا هذا الداء الخطير وكراهية الرسولr وصحابته له ومن تلك الأحاديث:قال رسول اللهr : " إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا"([4]) وعن أبي هريرة y قال: قال رسول الله r : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة الشيخ الزاني و الإمام الكذاب و العائل المزهو([5])
وعن الحسن y قال: يعد من النفاق اختلاف القول و العمل و اختلاف السر و العلانية و المدخل و المخرج و أصل النفاق و الذي بنى عليه النفاق : الكذب ([6])
" وعن هزيل بن شرحبيل رحمه الله قال: قال موسى عليه السلام : رب أي عبادك خير عملاً ؟ قال: من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزنى فرجه "([7])
وقد تورع الصالحون عن الوقوع في الكذب فيُروى أن عمر بن عبد العزيز كلّم الوليد في شيء فقال له: كذبت فقال عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه([8]) وكان الأحنف بن قيس يقول: ما كذبت منذ أسلمت إلا مرة واحدة فإن عمر سألني عن ثوب بكم أخذته ؟ فأسقطت ثلثي الثمن " ([9]) وكان الإمام على y يقول: " جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان والصادق على شرف منجاة وكرامة و الكاذب على شفا مهواة ومهانة" ([10])
* أسباب الكذب وصوره
1- مهانة النفس فالإنسان عندما لا يرتقي بنفسه إلى درجة السمو الخلقي وتهون عليه فينزلها إلى مهاوي الرذائل ، يسهل عليه الكذب دون غضاضة ، وكما قال محمد بن كعب قال: إنما يكذب الكاذب من مهانة نفسه عليه"([11]) وأنشد الشاعر: لا يكذب المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدب *
2- الاعتذار فرويَّ أنه قد اعتذر رجل عند إبراهيم فقال: قد عذرناك غير معتذر إن الاعتذار يخالطه الكذب ([12]) أي أن المرأ قد يكون دافعه للكذب هو الاعتذار من سوء فعل قد ارتكبه فيسوق أباطيل لعلها تقنع من أخطأ بحقه .
3- كما أنه من دواعي الكذب خبث السرائر وضعف الوازع الديني و الجهل و عدم الوعي بحرمة ارتكابه من الناحية الشرعية و ضعف النفس الذي يترتب عليه عدم القدرة على تغيير مساوئها ولانهماكها في المعاصي ومحاولة الكذاب التغطية على هذه الصورة السلبية بالكذب كوسيلة للهروب من المزالق المشينة التي يرتكبها الإنسان و أصعب أنواع الكذب هو الذي يكون طبيعة في الإنسان فقد يُرتكب ودونما حاجة ملحة له حتى يصبح عادة يمارسها الإنسان في كل حين وقد روى ابن أبي الدنيا " لا يصلح الكذب في هزل ولا جدّ....." ([13])
وفي رواية أخرى عن عبد الله قال " والذي نفسي بيده ما أُحل الكذب في جدٍ ولا في هزل " ([14])
ولقد لخص على بن عبيدة دوافع الكذب بقوله : الكذب شعار الخيانة وتحريف العلم و خواطر الزور و تسويل أضغان النفس و اعوجاج التركيب و اختلاف البنية "([15])
* صور الكذب المقبولة شرعًا
هناك مواطن يكون الكذب فيها مباحًا ولا يأثم صاحبه مثل :
1- التيقن من وقوع ضرر بالغ بدونه
كذب الإنسان لإنقاذ نفسه من ضرر بالغ قد يقع عليه إن لم يفعل ذلك فيجوز و هذا ما ذهب إليه إياس بن معاوية القاضي المشهور الثقة ت122هـ بقوله: " إن الكذب عندي: من يكذب فيما لا يضره ولا ينفعه فأما رجل كذب كذبة ليرد عن نفسه بها بلية أو يجر إلى نفسه بها معروفًا فليس عندي بكذب " يوضح هذا الأمر ما ذُكر من أن ميمون بن مهران قال: وعنده رجل من قرى أهل الشام: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق فقال الشامي: لا الصدق في كل موطن خير قال : أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى و آخر يتبعه بالسيف فدخل دارًا فانتهى إليك فقال: رأيت الرجل؟ ما كنت قائلاً؟ قال: كنت أقول : لا قال: فهو ذلك"([16])
وقد يُفهم من كلام إياس بن معاوية أنه يتساهل في أمر الكذب ووقوعه ولكن هذا ليس صحيحا ويؤكد ذلك رواية عنه ذكرها الأصمعي بقوله قال: إياس: " امتحنت خصال الرجل فوجدت أشرفها: صدق اللسان ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه" ([17]) وهذا الرأي السابق يؤكده النراقي بقوله " ولا ريب في أن ما يجب ويضطر إليه هو الكذب لأمور في فواتها محذور و إضرارًا أما إذا كان لزيادة المال و الجاه و غير ذلك مما يستغنى عنه فإنه محرم قطعًا"([18])
2- الإصلاح بين الناس
ويعد الكذب مباحا في حالة الإصلاح بين الناس أو في الحرب أو في إعلان مشاعر الحب بين الرجل و المرأة وإن كان على عكس ما تعبر عنه حقيقة ما تحمله قلوبهما يؤكد ذلك ما روي عن أسماء بنت يزيدy أن رسول الله r خطب الناس فقال: "أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا بالكذب كما تتابع الفراش في النار كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال : رجل كذب امرأته ليرضيها ورجل كذب امرأين ( أي رجلين متخاصمين ) ليصلح بينهما ورجل كذب في خديعة الحرب " ([19])
3- المعاريض مندوحة عن الكذب
روي عن النبي r أنه قال: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " وقال عمر بن الخطاب t " إن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل عن الكذب وقال بعض أهل التأويل في قوله تعالى {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}إنه لم ينس ولكنه معاريض الكلام " و قال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يصرح فيه بالكذب" ([20]) أي أن الكلام واسع ممكن أن يستعين الإنسان بلفظة يقصد من ورائها معنى غير ما تظهره هذه اللفظة للمتلقي مثل التورية " في علم البلاغة و التي كان يلجأ إليها المضطهدون سياسيًا في أعمالهم الأدبية لينأوا بأنفسهم عن مغبة العقاب الدنيوي.
ولقد خصص الخرائطي في كتابه بابا أسماه " باب الرجل يوري عن الكذب بمعاريض الكلام " ذكر فيه الكثير من الروايات التي تبيح ذلك منها:
قال أبو حمزة سمعت أبي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: قتل الله عثمان و أنا معه " قال أبو حمزة: فذكرت ذلك لابن عباس فقال : صدق يقول : الله قتل عثمان ويقتلني معه " ([21])
" وعن سعيد بن المسيب أن عمرًا بعث معاذًا ساعيًا على بني كلاب أو على سعد بن دينار فقسم فيهم شياها حتى لم يَدع شيئًا حتى جاء بحُله ( كساء رقيق ) الذي خرج به على رقبته فقالت امرأته: ما جئت به ما يأتي به العمال ومن عراضة (العراضة:الهدية يهديها الرجل إذا قدم بها من سفر) أهليهم ؟ فقال:كان معي ضاغطٌ فقالت: قد كنت أمينًا عند رسول الله r وعند أبي بكر فبعث معك عمر ضاغطًا فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر فبلغ ذلك عمر فدعا معاذًا فقال: أنا بعثت معك ضاغطًا فقال: لم أجد ما اعتذر به إليها إلا ذلك فضحك عمر و أعطاه شيئًا وقال: أرضها به. وقال ابن جريج: إن قوله ضاغطًا يعني به ربه عز وجل " ([22])
والخلاصة في هذا الشأن ما ذكره صاحب جامع السعادات قائلا: " ليس المراد أنه يجوز التعريض بدون حاجة واضطرار و إنما المراد أن التعريض يجوز إذا اضطر الإنسان إلى الكذب ومست الحاجة إليه واقتضته المصلحة كتأديب النساء و الحذر من الظلمة و الأشرار فهو جائز : ومن أمثلة جوازه أنه سئل الصادقr عن قول الله تعالى في قصة إبراهيم u {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} قال: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم قيل: وكيف ذلك ؟ فقال : إنما قال إبراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون أي إن نطقوا فكبيرهم فعل و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئًا فما نطقوا وما كذب إبراهيم u وسُئل عن قول إبراهيم (فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم ) فقال ما كان إبراهيم سقيمًا وما كذب إنما عنى سقيمًا في دينه ([23])
* صور الكذب غير المقبولة شرعًا
1- ادعاء الشبع وأنت جوعان إذا عُرض عليك الطعام
" عن مجاهد أخبرتنا أسماء بنت عميس t قالت: كنت صاحبة عائشة t التي هيأتها وأدخلتها على النبي r ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قراءً (ما يقدم لضيف من طعام) إلاّ قدحًا من لبن فشرب ثم ناوله عائشة قال: فاستحيت الجارية قالت: فقلت: لا تردي يد رسول اللهr خذي منه قالت: فأخذته على حياء فشربت منه ثم قال: " ناولي صواحبك " فقلن: لا نشتهيه فقال: لا تجمعن جوعًا وكذبًا قالت: فقلت يارسول الله إن قالت إحدانا الشيء تشتهيه: لا أشتهيه أيعد ذلك كذبًا؟ قال: " إن الكذب ليكتب كذبًا حتى الكذيبة كذيبة" ([24])
2- الذي يتحدث بكلام ناقلاً له وهو يعلم أنه كذب فهو كذاب
" عن المغيرة بن شعبة t عن النبي r قال: من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" ([25])
3- إذا وعدت ولو ولدك الصغير ولم تف بوعدك فهذا كذب
" عن عبد الله t قال: والذي نفسي بيده ما أحل الله الكذب في جد ولا في هزل قط ولا أن يعد الرجل صبيه ثم لا ينجزه له اقرءوا إن شئتم { اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } التوبة: 119
4- الكذب من أجل التفاخر لا يجوز
" عن عون بن عبد الله قال: كساني أبي حُلة فخرجت فيها فقال لي أصحابي : كساك هذه الأمير ؟ فأحببت أن يروا أن الأمير كسانيها فقلت: جزا الله الأمير خيرًا كسا الله الأمير من كسوة الجنة فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لا تكذب ولا تشبه بالكذب " ([26])
* الآثار المترتبة على الكذب
1- يبطل الصوم
وهذا ما ذهب إليه عبد الله بن مسعود و إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي وهو من الثقات فروي عنه قال: كانوا يقولون : إن الكذب ليفطر الصائم" ([27]) وقال عبد الله بن مسعود t: " إن المبارز لله تعالى بالمعصية كمن حلف باسمه كاذبًا و إن الكذبة لتفطر الصائم" ([28])
2- عدم الثقة في صدق كلامه مطلقًا ولهذا تسقط شهادته لاعتياده قول الزور
فعبد الله بن المبارك يقول: أول عقوبة الكاذب من كذبه أن يُرد عليه صدقه" أي يكون كلامه غير مقبول أو يُشك فيه حتى لو كان صدقًا وحقًا وهذا المعنى تؤكده رواية أبي بكر بن عباس بقوله: " إذا كذبني الرجل كذبة لم أقبل منه بعدها" ([29])
وفي هذا الصدد أيضًا ذُكر أنه : "قال أعرابي لابنه وسمعه يكذب : يا بني عجبت من الكذاب المشيد بكذبه وإنما يدل على عيبه ويتعرض للعقاب من ربه فالآثام له عادة و الأخبار عنه متضادة إن قال حقًا لم يصدق و إن أراد خيرًا لم يوفق فهو الجاني على نفسه بفعاله و الدال على فضيحته بمقاله فما
صح من صدقه نسب إلى غيره و ما صح من كذب غيره نسب إليه" ([30])
وقال الشاعر في ذلك معبرًا عن عدم الصدق في كلام الكذاب:
من يشتهر يومًا بكذب المنطق ثم أتى بالصدق لم يُصدَّق ([31])
وفي هذا ذكر القيرواني بأنه " لا تصح للكذاب رؤيا لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير فتريه في النوم ما لا يكون " ([33])
4- الكذب يجلب لصاحبه الهموم والآلام النفسية
وهذا ما أشار إليه الرازي حيث جعل الكذب أحد الأعراض السيئة للهوى فهو يجلب من بعده ندمًا وهمًا و ألمًا كما يسبب احتقار الناس واستصغارهم له وعدم ثقتهم به ([34])
* صفة الكاذب أو العلامات الدالة على كذبه
ذكر الماوردي الكثير من الدلائل التي يستطيع الإنسان التعرف من خلالها على الكذاب ومنها:-
1- ليس عنده نصرة المحتجين ولا برهان الصادقين فإنك إذا رددت عليه قوله حصر وارتبك ولذلك قال علي t " الكذب كالسراب "
2- ما يظهر عليه من ريبة الكذابين لأن هذه أمور لا يمكن للإنسان دفعها عن نفسه ولذلك قالت الحكماء : العينان أثم من اللسان وقال بعض البلغاء الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا وقال بعض الشعراء: تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدي سرهـا النظر
3- من آفة الكذاب نسيان كذبه وتراه ذا حفظ إذا كان حاذقًا
4- أقواله متناقضة وليس عنده فرق بين ما يقال له وبين ما يدَّعيه أي يختلط عنده قوله بقول غيره
" فإنك إذا لقنته الحديث تلقنه ولم يكن بين ما لقنته وبين ما أورده فرق عنده" وكما ذكر القيرواني
بأنه: " يعتري حديث الكذاب من الاختلاف مالا يعتري الجبان من الارتعاد عند الحرب" ([35])
5- أنك إذا شكَّكته فيه تشكك حتى يكاد يرجع فيه ولولاك ما تخالجه الشك فيه ([36])
وفي هذا يقول الشاعر مضيفًا صفات أخرى للكاذب :
إياك من كذب الكذوب وإفكه فـلـربـما مزج اليقين بشكـه
ولربما ضحك الكذوب تفكـهًا وبـكى من الشيء الـذي لم يبكه
ولربما صمت الكـذوب تخلـعًا وشكى من الشيء الذي لم يُشكـه
هذا خلاصة ما ذهب إليه ابن المقفع في صفة الكاذب حيث يقول: " رأس الذنوب الكذب: هو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبتها ويتلون ثلاثة ألوان بالأمنية و الجحود والجدل يبدو لصاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من الشهوات فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفي فإذا ظهر عليه قابله بالجحود و المكابرة فإن أعياه ذلك ختم بالجدل فخاصم عن الباطل ووضع له الحجج والتمس به التثبيت وكابر به الحق حتى يكون مسارعًا للضلالة ومكابرًا بالفواحش" ([38])
7- قول الزور وجفاء القلب
يقول القيرواني (لأهل العصر) "فلان منغمس في عيبه يكذب لذيله على جيبه يقول: بهتًا وزورًا قد ملأ قلبه رينًا وقوله مَْينًا يدين بالكذب مذهبًا ويستثير الزور مركبًا أقاويل يتمشى الزور في مناكبها ويبرز البهتان في مذاهبها" ([39])
* كيف يتم التعامل مع الشخص الكاذب؟
1- بالتحايل وإظهار الحقائق كما هي دون إصدار حكم عليه
- يقول المتخصصون في العلاقات الإنسانية: " يمثِّل الكذب قمة التحايل على الآخرين وعلى الحقيقة ذاتها فمن المهم جدًا ألا تتناول السمة الشخصية أو البواعث الكامنة وراء هذا السلوك عند مواجهة الكذاب بل اعمد إلى الحقائق و اعرضها ولتدعها تعريه هو وكذبه ولا تندفع نحو إصدار الأحكام عليه بل دع ذلك للآخرين"
وإذا كان الكاذب يلجأ للخداع فيصرح بأنصاف الحقائق أو إسقاط حقائق معينة فلا تبال بما أُسقط و اعمل على سد الهوة التي خلّفها دون أن تحدث مشكلة: " نعم يا بيل إنك على صواب بيد أنك لم تذكر شيئًا عن تكلفة الجزء ألا وهي 35 دولار وهذا يمثل عبئًا إضافيًا على الميزانية " وتحاش الكلام عن بواعث هذا السلوك ولا تصدر أحكامًا بل كن فقط الحاضر المترقب لما حوله فلتسرع إلى التقاط الجزء المفقود من المعلومات ولسوف تصل رسالتك وبمنتهى القوة" ([40])
2- عدم الاستصغار من شانهم
ولقد اتفق الغزالي مع ما ذهب إليه المتخصصون في العلاقات الإنسانية حين أكدوا على أنه عند التعامل مع شخصية الكاذب ينبغي أن ينأى الإنسان عن تناول السمة الشخصية أو يبحث أو يستفسر منه لما فعلت ذلك؟ مما يوحي بالاستصغار و الضعة من شأنهم ولقد أشار الغزالي إلى ذلك في معرض حديثه عن التعامل مع المعارف الذين يظهر بعضهم خلاف ما يبطن ناصحا بالنأي عن الاستصغار من شأنهم وشجع على تقليل صحبتهم ومعرفتهم قائلا: " إنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم فأقلل من المعارف ما قدرت فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو سوق أو بلد فيجب أن لا تستصغر منهم أحدًا...... وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم فيذهب دينك في عداوتهم ويطول عناؤك معهم"
3- اجتناب مصاحبته
كما يحث الغزالي على عدم توطيد العلاقة مع من يتسمون بتلك المثالب خاصة الكذب فيقول: " ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك......ولا تطمع أن يكون لك في السر و العلن واحد ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك ولا تغضب منهم ([41])
وعن اجتناب صحبة الكاذب يقول الشاعر:
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا إن الكذوب يشين حـرًا يصحب ([42])
وفي هذا الصدد وتحت عنوان " لا تركن إلى المرجفين " يقول د. عائض القرني: " الوعود الكاذبة والإرهاصات الخاطئة المغلوبة التي يخاف منها أكثر الناس إنما هي أوهام (يستغلها المخادعون الكاذبون فتقع فريسة لكذبهم وبما يبثونه إليك من آمال عريضة ووعود كالسراب فينبغي أن لا نركن لخدعهم نتيجة مخاوفنا ) قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } البقرة:268
والقلق والأرق وقرحة المعدة ثمرات اليأس و الشعور بالإحباط والإخفاق التي قد تنجم عن الدخول في معاملات مع مثل هذا الشخص الكاذب وكما يقول الشاعر:
لا تعاقبنا فقد عـاقبنا قلق أسهدنا جنح الظلام ([43])
4- لا تُعلم الكذاب أنك تكذبه
وفي " زهر الآداب للقيرواني : اجتنب مصاحبة الكذاب فإن اضطررت إليه فلا تصدقه ولا تعلمه إنك تكذبه فينتقل عن وده ولا ينتقل عن طبعه" ([44]) وهذا ما أشار إليه ابن حزم حين ذكر بأن كثرة الشك أو التصريح للكاذب بكذبه قد يؤدي إلى استعمال عادة الكذب عنده فيلجأ إلى اختلاق الأعذار ويعتاد ذلك حتى يصبح طبعا فيه وفي هذا يقول بن حزم: " كثرة التّريب تُعلِّم صاحبها الكذب لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب فيضري عليه ويستسهله" ([45]) لكن ما العمل لمن آذانا بكذبه؟ هنا تكون طريقة التسوية أفضل من المكاشفة في التعامل مع الإنسان الكاذب خاصة إذا اكتفشت أنه قد تم خيانتك أو التغرير بك من قبله في معاملاتكما المادية وهذا ما ذهب إليه المتخصصون في العلاقات الإنسانية ([46])
5- عدم الاستعانة بالكذاب في أي عمل
وفي هذا يقول الشاعر:
لا تعصين قول ذوي التجارب لا تستعن في عمل بكاذب ([47])
6- عدم تصديقه وإلا باء الإنسان بالخسارة
وهذه حكمة ساقها ابن المقفع على ألسنة الحيوانات تعبر عن هذا المعنى فقد ذكر في " كليلة ودمنة " عن ناسك ومحتالون وهو مثل من صدّق الكذوب المحتال فكان من الخاسرين زعموا أن ناسكًا اشتري عِرْبضا ضخمًا ليجعله قربانًا وانطلق به يقوده فبُصر به قوم من المكرة فائتمروا بينهم أن يأخذوه منه فعرض له أحدهم فقال: ما هذا الكلب الذي معك ثم عرض له آخر فقال لصاحبه: ما هذا ناسكًا لأن الناسك لا يقود كلبا فلم يزالوا معه على هذا ومثله حتى لم يشك أن الذي يقوده كلب و أن الذي باعه له سحر عينيه فأطلقه من يده فأخذه المحتالون ومضوا به" ([48])
وبما أن الكذب من النفاق أو إحدى سمات المنافق فالتعامل مع كليهما يكون بالطريقة نفسها، وهي هنا تكون بالحذر و أخذ الحيطة وعدم التسليم بأي شيء يقوله من أول وهلة ولتتحقق وتتأكد من الأمور.
([1]) مساوئ الأخلاق ومذمومها: للخرائطي ص 57
([2]) ينظر إلى الطب الروحاني: للرازي ص 81 – 83 ، علم النفس في التراث الإسلامي : عرض د. عبد اللطيف محمد لكتاب الطب الروحاني لفخر الدين الرازي ج2 / ص 374 و ما بعدها .