- يوسف فى السجن (الآيات35 - 57)
بعدما رأى العزيز وبطانته علامات براءة يوسف من قد القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدى قرر سجن يوسف كتماناً للقصة ألا تشيع .
وعدم تحديد مدة السجن دل بصورة غير مباشرة على براءة يوسف من أية جريمة توجب قصاصاً معلوماً حده وأمده ... وكثيراً ما يلجأ الظالمون فى كل زمان إلى مثل هذه العقوبة فى التخلص من الأبرياء وزجهم فى السجون وتغييبهم فيه إلى أجل غير مسمى تبعاً لأهوائهم ... وقد هدفوا من السجن أن يكون :
• مخرجاً لهم (يُعاقب فيه البرئ بجريرة المذنب) .
• يُغاب فيه الأمر وتُطوى الصفحة ويُنسى الموضوع ... واتبعوا المثل القائل (الباب الذى يأتى منه الريح سده واستريح) .
أما بالنسبة لحكمة الله فى تدبيرأمر يوسف فقد كان السجن :
• خلاص يوسف من كيدهن .
• سبباً لتفعيل مهمته الأولى والأساسية فى الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته .
• باباً يعرج منه إلى التبرئه والعزة والكرامة والتمكين فى الأرض ... ومن ثم لقاء أهله
وهكذا فقد كان السجن ليوسف واحة الخلاص وبرالأمان وشاطئ السلامة لقد أراحه السجن من أكبر شئ خافه وحذره وفر منه ... الخروج من الطاعة والسقوط فى هاوية المعصية ... ومن الحق إلى الباطل ومن العدل إلى الظلم ... ومن القرب إلى البعد ... ومن الرضا إلى السخط ... و كان هذا يعنى له وهوالمخلص المجتبى الشئ الكثيرالخطير والذى لا يعرفه ولا يفهمه إلا من كان على هداه .
وقد كان الجب أيضاً خلاصاً ليوسف من كيد إخوته وقصدهم إبعاده بأية وسيلة ولوبقتله وكان راحة له من الآثار النفسية لطفل يترعرع بين إخوة مجتمعين على كراهيته وحسده وباباً للتمكين فى الأرض ومفتاحاً لأبواب من الحكم والعلم وتأويل الأحاديث والنبوة من بعد وتكريماً لا يقدر بثمن بالمعية الإلهية والوحى الربانى الذى لا يعادله شئ .
لقد اختارالله (السجن) و(الجب) و(السيارة) ... وهى نفس الأسباب التى اختارها الكائدون وكان يمكن أن ينجيه منها ويختار له غيرها ... ليؤكد على أن العبرة فى المسبب للأسباب (الفاعل المختار) وليست فى الأسباب ذاتها وهكذا كاد الله خيراً بالجب والسجن خيراً ... ومن قبل لأبيه ابراهيم بالنار فقلبها برداً وسلاماً (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً) (الطارق 15 - 16) .
لقد جعل الله السجن لعبده الصادق الصابر المخلص المحسن :
• إيناساً فى الدخول
• إكراماً فى المقام
• إعزازاً فى الخروج
1. إيناساً فى الدخول : (الآية36)
استهل القرآن مشهد السجن بدخول يوسف فيه وبمعيته سجينان والحكمة من ذلك :
• إيناس يوسف البرئ فى رهبة دخوله السجن لأول وهلة ولأول مرة .
• إيناس يوسف وتيسير وظيفته فى الدعوة إلى الله فى مجتمع متآلف متقارب فالثلاثة فتية فى صفتهم الإجتماعية المهنية (يوسف فتى فى بيت امرأة العزيز... والصاحبان فتيان فى قصرالملك"ساقيه وصاحب طعامه السفرجى") وفى السن ودخلوا جميعاً فى نفس الوقت وجنباً إلى جنب .
وهكذا نرى معية الله تعالى مسبب الأسباب الحكيم العليم من بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ...نرى هذه المعية الرحمانية ليوسف موصولة دائماً :
فى البيت رغم كيد الأخوة ... فى الجب رغم الغيابات والوحشة ... فى السجن رغم العذاب والعزلة ... فجعل الله له فى البيت رؤيا تكشف له الدرب وأباً حكيماً ينير له السبيل ... ومن الجب منيرة بالوحى ... ومن السجن واحة عامرة بالأنس ومدرسة للدعوة والتعليم والهدى والإرشاد (أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) (يونس 62 -63) .
2. إكراماً فى المقام (الدعوة إلى الله) : (الآيات37-41)
بعد أن استقروا جميعاً فى السجن ومكثوا فيه زماناً تعايشوا فيه وتآنس بعضهم إلى بعض فيه (قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
وهكذا... جاءت شهادة الفتيين شريكى يوسف فى السجن لتترجم عملياً على أرض الواقع ما ذكره الله من قبل وحكم به بسابق علمه على يوسف عندما قال فيه (وكذلك نجزى المحسنين)
لقد شهد بشهادة الله فى إحسان يوسف كل من خالطهم يوسف من الأعداء أوالأصحاب (والده – امرأة العزيز – النسوة – صاحبا السجن – الملك – الأخوة )... وكفى بالله شهيدا .
وعلى الفور أجابهما يوسف مقدماً بين يديه التعريف بنفسه لا على الفخر والعجب بل ليكون حجة ودليلاً على صدق كلامه ... مؤكداً لهما صواب رؤيتهما فيه وفى أنهما سألا عالماً وأصابا هدفاً مستقيماً مبرهناً على ذلك بأمثلة عينية حسية كإنبائهم الساعة بما سيرزقانه من طعام فى الغيب المستقبلى ... وبعد أن عرف بعلمه كدليل شاهد على صدقه رد كل علمه إلى تعليم ربه إياه وتبرأ من حظ نفسه بالكلية وأرجع الفضل كله إلى مولاه .
وبدأ يوسف التعريف بالله سبحانه وتوجيه الأنظار إليه والتنبيه إليه ومن ثم الدعوة إليه مبتدأًًًًًًًً بصفة الربوبية وذلك أن صفات الربوبية هى أول ما يعرف الله بها نفسه لعباده فيعرفوه بها من تجلى صفاتها عليهم وعلى الكون كله فيحبوه ويؤمنوا به رباً منعماً واهباً أهل للشكر بالثناء والعرفان ... ومن ثم ليعرفوه من خلال كتبه ورسله فيحبوه ويؤمنوا به إلهاً واحداً قاهراً حكيماً مالكاً عادلاً أهل للشكر بالعبادة والطاعة له وحده .
ثم انتقل يوسف بالحكمة فى التدرج فى الالخطاب والارتقاء من دائرة التعريف الربانى إلى دائرة التعريف والتكليف الإلهى (التعريف بدين الله) فقال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ) .
وهكذا فقد قدم يوسف بمقدمة جمع فيها ولخص أساسى الدين والعقيدة :
• إيمان بالله أولاً .
• إيمان بالآخرة آخراً وتبعاً لازماً مرتبطاً بالأول لا ينفك عنه ولا ينفصل .
وبذلك أرسى يوسف القاعدتين الرئيسيتين لجميع أشكال وألوان الكفر إما بهما جميعاً أو بواحدة منهما :
• فإنكارالآخرة والكفر بها يجعل الإيمان بإله معبود واتباع تكاليفه أمراً عبثياً لا معنى ولا دافع له .
• وإنكارالله وعدم الإيمان به يجعل الآخرة وهماً لا حقيقة له فجميع الآلهة المزعومة لا قدرة لها على خلق ذبابة ... فكيف تخلق النشأة الآخرة بميزاتها وجناتها ونيرانها ؟
وبعد أن عرف ملة الكفر وأبطلها ... بدأ التعريف بضدها ملة الإيمان وحقها فقال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ).
وذكر يوسف آباءه لا على سبيل الفخر بالأنساب والعصبية ... بل ليقدمهم شواهد تاريخية وأمثلة حية واقعية فهم أعلام النبوة ومنارات القدوة ونجوم الهدى .
وهكذا حدد يوسف الأصل فى الدين فى الإيمان بالله وحده ... كما حدد المنهج المستقيم فى الدعوة إليه : ( إنى تركت ملة ... واتبعت ملة ... ) الترك أولاً (التخلية) ... والاتباع آخراً (التحلية) ومن خالف الترتيب ضل الطريق المستقيم .
فإذا لم يتخل الإنسان عن كل فساد رأى وهوى تماماً وإذا ما بقى منها ولوالقليل فهى إما:
• أن تكون سبباً مانعاً من التوجه إلى الحق واتباعه ... كما منع تكبرفرعون وصناديد قريش من الإيمان واتباع الحق وقد استيقنته أنفسهم(وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل 14) .
• أن تكون سبباً للمضاهاه بأن يحملوا شيئاً من فساد القديم فيخلطوه بالحق القويم كما ضاهأ فُُساق أهل الكتاب الذين كفروا من قبل فأدخلوا فى الدين شيئاً من أفكار وطقوس الوثنية السابقة ومعتقداتها فأنشأوا ديناً جديداً بشرياً فيه خليط من الحق والباطل ... ومن الكفروالإيمان ومن الرجس والطهارة ودين الله الحق الصافى لا يقبل أن يخالطه أدنى نجس .
ثم بين يوسف أن سبب التخلى عن ملة الكفر والفساد والتجرد منها بصورة تامة وذلك التحلى بملة الإيمان الخالص الطاهر الذى لا شرك فيه البتة هوأيضاً من فضل الله ونعمته علينا وعلى الناس جميعاً (ولكن اكثر الناس لا يشكرون ) .
• الأكثرية من الناس لا يشكرون نعمة الله عليهم مع أن شكرهم ينفعهم هم والله غنى عنهم ولن يزيد ذلك فى ملكه شيئاً ... وكفرهم يضرهم ولن ينقص ذلك فى ملكه شيئاً .
• الأكثرية من الناس لا تشكرعطاء الربوبية فتتعرف على الرب المنعم وتثنى عليه بما هو أهله بل تجحده وتنسب الفضل إلى غيره ومن ليس أهله .
• الأكثرية من الناس لا تشكر عطاء الألوهية فتتعرف على منهاجه الرشيد وتستقيم فى حياتها على صراطها المستقيم بل تنكره وتتيه فى سبل معوجة ومناهج جاهلية وتتبع أحكاماً طاغوتية وتزيينات شيطانية .
• الأكثرية من الناس يؤثرون العاجلة على الآخرة والفانية على الباقية واللذة العارضة على السعادة الدائمة .
وهكذا علمنا يوسف أن الأكثرية الضالة ليست حجة للحق ولا دليلاً عليه فالحق لا يدور مع الناس بل هو قبلة يجب على العاقل الذى يبتغى الوصول أن يتجه إليها
والحق ليس له إلا مصدر واحد يعرضه ويحقه ... إنه الله ... هوالحق ... ووعده الحق ... كل أمر منه فهو حق ولا حق إلا منه .
لقد كانت الديموقراطية لعبة شيطانية ماكرة يقصد بها :
• إلباس الباطل ثوباً زائفاً من الحق ... ثوب الأكثرية النسبية العددية .
• قلب الأمور فيصير الحق باطلاً والباطل حقاً ... وإزاحة الحق عن موقعه وإبداله بالباطل تحت ستار من الخديعة والدجل بالأكثرية الصوتية أولم تكن أصوات قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون وكفار قريش أكثرعدداً وأعلى صراخاً ؟
وهكذا فقد قطع يوسف الطريق على صاحبيه أن يقولا : إنا وجدنا الناس (أكثرهم) على ملة فاتبعناها على أنها الحق ... وأرشدهما إلى الصواب والحق وأسقط حججهما وأعذارهما وهى ما زالت فى سرائرهما قبل أن تصل إلى أفواههما .
بعد أن عرف يوسف نفسه كداعيه ... ورسالته كدعوة ... بدأ بذكرحقائق الدين الرئيسية وأصوله الأساسية فقال( يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌأَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
حقاً ... إن هذه الأسماء الجوفاء ما كان لها أن تصعد هذا المرتقى الجلل لولا الذين سموها وأفاضوا عليها هذه المسميات سواء كانت أصناماً حجرية أوأبقاراً حيوانية أوكواكب فضائية أوشجراً أوناراً أوطواغيت وفراعنة .
إن الناس هم الذين يسمون آلهتهم المزيفة ويخترعونها ... ثم ينادون بها ويصدقون ما زيفوا فيعبدونها ...يعبدون الشيطان والهوى الذين يوسوسان فى صدورهم .
ولقد سمى الناس آلهتهم (اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ... وودا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا ) ... وسمى أناس أميرهم فرعوناً وألهوه واستخف فرعون قومه فأطاعوه ... ولو لم يفعلوا ذلك بداية أوامتنعوا عن العبادة والطاعة ما كان لطاغوت أن يتأله ولا لفرعون أن يتفرعن ... فهذه الآلهة التى اخترعها الناس وعبدوها لا حقيقة ولا سلطان لها ولا دليل ولا برهان من منطق عقلى سليم .
إن السلطان الغالب والبرهان المبين إنما يأتى من الله الحق وحده(إن الحكم إلا لله )
إن الحاكمية لله وحده حقيقة إيمانية على كل مكلف الإيمان بها والتسليم لها والخضوع لها :
• تشريعاً : بما أنزل الله من كتاب وأوحى إلى الرسول(وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد37)
• تنفيذاً ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ) (الأعراف 54)... والوالى القائم بها خليفة عن الله خاضع له ينفذ أمره ويمضى حكمه .
• قضاءً : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة 44) .
هذه هى الحقائق الإيمانية الأساسية لأصول الدين القيم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
ثم شرع يوسف فى تأويل رؤيا صاحبيه فقال( يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) .
ثم طلب يوسف من ساقى الملك أن يذكرأمره للملك (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) .
والضمير فى أنساه يرجع إلى ساقى الملك .
وهكذا فقد جعل الله ليوسف السجن خلوة معه ومرحلة تحضيرية ودورة تدريبية تهيئة للمهام الكبيرة التى سيقوم بها من بعد ولنشر الدعوة إلى الله على الملأ كما كان الغار لمحمد عليه الصلاة والسلام ومدين لموسى عليه السلام كما جعله فيها قدوة حسنة لكل برئ من الناس والشباب ظلماً ُيسجن ولما قضى يوسف الأجل وتحقق الهدف هيأ الله لخروجه أضعف سبب (ليدل على أن عظمة الفعل هى من المسبب لا من السبب) .
وهكذا ينتهى هذا المشهد من فعل يوسف مع صاحبيه فى السجن دلت معظمها على وظيفة يوسف العظمى فى الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته والتى يمكن أن تشكل أنموذجاً ملخصاً ودورة تدريبية مكثفة للدعاة إلى الله .
3. إعزازاً فى الخروج (رؤيا الملك) (الآيات42-57)
فى هذه الآيات سنرى كيف دبرالله الحكيم العليم لعبده المخلص يوسف سبيلاً للخروج من السجن وذلك أن ملك مصر رأى رؤيا شغلته وهى ( سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضروأخر يابسات ... )
ولما لم يعلم أحد منهم تأويل هذه الرؤيا فقد أجمعوا على قولهم : إنها من أضغاث الأحلام التى لا تأويل لها ولا تعبير ... ثم استدركوا القول ونفوا عن أنفسهم علم تأويل الأحلام بالكلية وفى تلك اللحظة تذكر ساقى الملك يوسف (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)
وانتقل الساقى من قصرالملك إلى سجن يوسف وطلب منه تأويل الرؤيا وأجاب يوسف فوراً دون تردد ولا تأخير( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ).
لقد حملت رؤيا الملك خيراً عظيماً لكل من كانت له علاقة من قريب أو بعيد بها :
• يوسف : كانت سبباً فى نجاته وإخراجه من السجن ... ورفع الظلم عنه وتبرئته من الإثم والخيانة وتمكينه فى الأرض وجعله حفيظاً على خزائنها ... وتحقيق رؤياه من قبل بالسجود له ... وأعظم ما فيها أنها كانت سبباً فى إتاحة الفرصة له لنشرالدين والعلم والخير بين الناس .
• إخوة يوسف : كانت سبباً فى اجتماعهم بيوسف ومن ثم إصلاح ما فسد منهم وإعانتهم على الشيطان وتوبتهم .
• آل يعقوب : تزويدهم بالغذاء فى السنين الشداد ... رد البصر إلى أبيهم يعقوب وذهاب الحزن عنه وإحضارهم من البدو إلى حاضرة مصر ومن ثم إقامة بنى إسرائيل فى مصر.
• الملك : بقاء ملكه إذ جعل وزيراً حكيماً عليماً حفيظاً أميناً على خزائن الأرض مما أسهم فى بقاء النظام الإقتصادى والإجتماعى فى مملكته .
• النسوة : شهدن بالحق ... والشهادة بالحق فضيلة .
• إمرأة العزيز: الإعتراف بالذنب والإعتراف بالذنب فضيلة وهوأول خطوات التوبة.
• الناس : - دنيوياً : تأمين طعامهم ومعاشهم وبقاء حياتهم (الأمن الغذائى) .
- دينياً : وجود الرسول (يوسف) بين أظهرهم يدعوهم إلى الله وإلى ما فيه خيرهم وصلاحهم فى الدنيا والآخرة .
وهكذا قدم يوسف الصديق خطة كاملة لهذه السنوات تنبأ فيها عن علم ربانى بأحداثها الجسام ووضع فيها مبادئ التنظيم والإدارة والإقتصاد والسياسة والتدقيق والرقابة ووسائل زيادة الإنتاج والحفظ والتخزين والتقنين والتحصين .
لما رجع الساقى فأخبرالملك بتأويل يوسف ... جاء رسول الملك إلى يوسف يدعوه إلى مقابلته فأجابه يوسف(ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)…. ويظهر من جواب يوسف حكمته وحسن سياسته وعزة نفسه الإيمانية وعظيم ثقته بوعد الله وإيثاره الأعلى ولو كان معنوياً وآجلاً على الأدنى (الحظوة الدنيوية) ولو كان عاجلاً .
وينتقل المشهد مباشرة إلى قصرالملك وبين يديه النسوة يطرح عليهن السؤال (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ* وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
إن النفس الأمارة بالسوء هى أحد منابع الشر والسوء فى الحياة الإنسانية والمنبع الآخر هو نزغ الشيطان عدو الإنسان المبين ... هذان هما جناحا السوء فى الحياة الإنسانية جعلهما الله فتنة لعباده لحكمة الإبتلاء فى التكليف بالعبادة ومن ثم الجزاء(وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء 35)…لذا كان من الدعاء النبوى (اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر الشيطان وشركه) .
وهكذا انتهى هذا المشهد بما أراد يوسف وتمنى من براءة وتصديق له فقد أراد أن تتحقق براءته الكاملة وألا تلحقه من بعد خروجه من السجن أدنى شبهة أومظنة واستخدم فى سبيل تلك الغاية أسلحة العلم والحكمة التى آتاه الله إياها فى جوابه للملك وقد فهم الملك بخبرته وسياسته ذلك منه وتأكد من صدقه وعفته وخبرشهامته وحسن أخلاقه حتى مع الذين آذوه وظلموه ... فازداد به إعجاباً على إعجاب وقررأن يستخلصه لنفسه (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
لقد طلب يوسف إدارة خزائن الأرض لا لينال منفعة شخصية ويبنى قصورا ويحوى كنوزاً فقد كان يمكن له ذلك مباشرة من عرض الملك له ... لكنه وجد نفسه بما آتاه الله من علم وحكمة وأمانة الرجل المناسب فى المكان الناسب وبما يحققه تأويله النظرى لرؤيا الملك إلى تأويل وتطبيق عملى على أرض الواقع ... فيخرج بعباد الله من المخمصة والشدة إلى برالأمان وشاطئ السلامة فينفعهم الله بحسن إدارته وتصريفه للخزائن من زيادة الإنتاج وحفظ التخزين وعدل التوزيع .
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلأجْرُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون) .
َإن مشيئة الله فى رحمة من يشاء من عباده محسناً كان أم مسيئاً مطلقة وهذا من صفات رحمته وإحسانه وكرمه ... وهذا من طلاقة صفات الألوهية غيرالمقيدة بضعف أوعجزأوقصور….فالإله الحق مطلق الحرية والقدرة فى فعل ما يشاء (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ) (القصص 68) .
ورحمة الله حق وعدل ليست عشوائية وعبثية(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)(الأعراف 156) .
لقد كان يوسف الصديق مثلاً للعبد المؤمن رافقته الرحمة الظاهرة فى الدنيا من المهد إلى اللحد (طلاقة مشيئة الله الفاعلة بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا ) وكل مؤمن تصحبه رحمة ظاهرة فيتذكروليقتدى بإحسان يوسف وكل متقى يجب أن يجعل قصده الأول رضا الله والجنة ... وأن يضع نصب عينيه أجرالآخرة فإنها خيروأبقى .
· المشهد الأول : ( 58-68) : وينتقل المشهد الآن إلى يوسف مع إخوته ومجيئهم إليه لما أصابهم القحط فدخلوا على يوسف الذى صار الآن حاكماً على خزائن مصر ومشرفاً على شئونها وحفظها وتوزيع الحصص والميرة بنفسه فقد كانت مصر بحسن تدبير يوسف مركز ومخزن للغذاء للمنطقة كلها . (وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ* وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) أراد يوسف أن يزيد من شحنة الترغيب وقوته فيهم لما يعلمه من شدة تعلق الشيخ الكبير بالإبن الصغير وأن يجعل بين أيديهم حجة مؤثرة على أبيهم ودليلاً ملموساً على صدق قولهم لذا( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ...وكان جواب أبيهم حاضراً وفوريا ًإذ ما جرى منهم فى أمر يوسف من قبل لا ينسى وألمه لا يخف والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين فرد عليهم باستفهام إنكارى تقريعى( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ) . فالله خيرحافظاً وهوأرحم الراحمين : حقيقة إيمانية قرآنية راسخة يجب على كل مؤمن أن يغرسها فى قلبه ويجعلها نصب عينيه فى كل أمر وشأن .
وهنا يعطينا يعقوب عليه السلام درساً تعليمياً تربوياً تطبيقياً بحقيقة التوكل الحق وهى القيام باتخاذ الأسباب السليمة اللازمة مع الإعتقاد الجازم بأن الفاعلية المطلقة هى لله وحده بهذا السبب أوذاك أوبلا سبب البتة (كن فيكون) . وقصة نبى الله نوح عليه السلام ببناء الفلك سبباً والركون إلى الله الرحمن الرحيم فاعلاً فى السبب ومنجياً من الغرق خير دليل على ذلك ... وابن نوح اتخذ الأسباب (الجبل ) واعتمد عليها وحدها ولم يعتمد على الله ولم يؤمن به ... فنجى نوح ومن معه وأغرق ابن نوح وجميع من على الأرض ممن اتخذ الأسباب ولم يعتمد على الله ... ورحلة هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام شاهد تطبيقى عملى ودليل وأسوة حسنة على ذلك .
· المشهد الثانى : ( 69 - 87) : هذا هوالمشهد الثانى فى دخول اخوة يوسف عليه و يتميز بدخول بنيامين (شقيق يوسف) معهم فى هذه المرة وباستجابتهم لطلب يوسف لهم بإحضارأخيهم ليضموه إليه كخطوة أولى فى طريق الإتيان بهم وبأهلهم جميعاً .
وفى هذا المشهد ضم يوسف إليه أخاه وصرح له بسره وأمره ... وقام بحيلة لكى يأخذ أخيه إليه ودون أن يشعرهم بأنه يوسف كما أنه لا يريد أن يأخذه قسراً وظلماً لذا(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ* قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ* قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ* قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ* قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ* قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) .
إن مشيئة الله قاهرة حاكمة فوق جميع عباده ... فمشيئته فاعلة بكمالات جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا .... فهى ليست مشيئة عبثية فوضوية حاشا لله سبحانه وتعالى وهكذا فإن مشيئة الله هى التى حكمت وأمرت يوسف لا مشيئة يوسف وما كان على يوسف إلا السمع والطاعة . أذهلت المفاجأة إخوة يوسف وأدهشتهم و(قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ) . وهكذا فضحتهم المفاجأة وأخرجت حقدهم الدفين تجاه يوسف ... ودل هذا على أن السنين الطويلة لم تنسيهم كرههم ليوسف مع أنهم نجحوا فى كيدهم الدفين تجاهه بإلقائه فى الجب وإبعاده عن أبيه فبدل أن يستغربوا ويستفهموا ويحاولوا الدفاع عن أخيهم ويبحثوا عن وسيلة لرد التهمة وإثبات البراءة زادوا الطين بلة وأكدوا وأثبتوا التهمة وكأن هذه البطن لا تلد إلا لصوصاً على عكس ما وصفوا به أنفسهم من قبل عندما قالوا ( وما كنا سارقين) ولكن يوسف قابل فريتهم حلماً وكتم حقه صبراً وقوة إيمانية فى كظم غيظه(والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس واللّه يُحبُّ المحسنين )(آل عمران 134) .
وبعد أن أفاقوا من دهشتهم وذهبت السكرة وجاءت الفكرة ... بادروا من محاولة الخروج من هذه الورطة فسألوا العزيز مستعطفين أن يأخذ أحدهم مكانه بدلاً منه ولكن يوسف رد طلبهم بأدب وحزم وعن علم وحكمة مؤكداً حقيقة إيمانية خالدة وتشريفاً رباناً حكيماً فلا يؤخذ المرء بجريرة غيره ولا يؤخذ الكل بجريرة البعض (ولا تزروازرة وزر أخرى) لقد كان رد يوسف بحق قاطعاً حاسماً آيسهم من أن يظفروا منه بطائل لذا انفردوا بأنفسهم يتشاورون فيما بينهم فيما حصل وفيما هم فاعلون ( وقَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين َارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ* وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون) . ونلاحظ هاهنا ولأول مرة ورود اسم الله صفة وحكماً وخيرية وطاعة جهراً على لسان أحدهم وإنصاتاً فى آذان بقيتهم ...وبداية تحول جذرى فى نفوسهم آتى بعد مواقف إحسان يوسف المتكررة لهم فكأن كلامه صادف قلباً نائماً فأيقظه ...وكشفت عن أعينهم أقنعة الزيف التى حجبت بصيرتهم وعرت سوءات النفوس التى سولت لهم سوء أعمالهم . لقد كان أخوة يوسف مثلاً لمن ساء سلوكهم وعملهم حسداً وظلماً وعدواناً وسلمت عقيدتهم الإيمانية فلما ُذكرت بالله تذكرت ولو بعد حين ... ولما جاءتهم الدروس تعلموا منها واتعظوا بها ولوبعد سنين والشيطان عدوالإنسان المبين يأتيه من كل باب وطريق... من باب العقيدة والفكر ليكفر ويشرك أومن باب السلوك والعمل ليسئ ويفسد وقد يكون المهلك فى الأولى إن لم يؤمن ... وقد يكون المهلك فى الثانية إن لم يتب فالأبواب مفتوحة بعضها على بعض ... فالكفر يؤدى إلى المعصية والمعصية قد تؤدى إلى الكفر ... وليس المهم أى باب فتح فى الأول ومن أي باب الشيطان ولج ولكن المهم إلي أي مدي وصل وإلي أي منتهي آل ؟ ...أولم تكن خطيئة إبليس سوأة نفس في البداية حسد لآدم وتكبرا أدي به إلي المعصية ومن ثم إلي العناد والإصرار ومن ثم إلي الكفران.
رجع الإخوة إلي أبيهم وأخبروه بما حدث ف( قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌجَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) . لقد كرريعقوب نفس الكلمات التي قالها لهم في فقد يوسف واضعاً النقاط علي الحروف ليقفهم علي حقيقتهم ويكشف لهم سوأة أنفسهم فيتعظوا ويتذكروا ويرشدوا ومؤكداً مشاعر اللوعة والأسي في نفسه ومؤسساً قواعد الإيمان والتسليم الحق في قلبه وسلوكه. فلم يعد أمامه إلا الصبر الجميل الذي لا يصدر إلا عن نفس مؤمنة بالله ربا ًمستسلمة راضية متوجهة إليه مطمئنة بخيريته ...فأمرها من الله وبالله وإلي الله وهذا إمام الصابرين النبي عليه الصلاة والسلام يقول عند موت ابنه إبراهيم (إن العين لتدمع وإن القلب ليجزع ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا علي فراقك ياإبراهيم لمحزونون) . وهنا تذكر يعقوب فراق يوسف(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)....ولما اعترض أبنائه عليه في توجعه علي مصابه في أبنائه وتذكره ليوسف (قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) لقد أخلص العبد المؤمن توجهه إلي الله حتي وهوفي قمة مصابه وأحزانه وفي الشدائد يضعف الكثيرون فأخلص الله إليه علما خصه به وأخلصه في الدارين (بخالصة ذكري الدار) وأخلصه عنده (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار)(ص47) . ثم طلب منهم البحث والتحري عن يوسف وأخيه ونهاهم عن اليأس والقنوط من رحمة الله ف(إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) إن رحمة الله وخيره مرسلة كنسيم الريح تلامس كل بشرة وتمر علي كل أنف لاتنتهي ولاتتوقف ولاتنقطع ولكن العيب في الإنسان الذي يغلق الباب دونها ويأبي التعرض لنفحاتها العيب في الأنف المزكوم الذي لايتنفس ولايشم ولايتذوق ...العيب في الوقر علي الآذان الصم والأكنة علي القلوب العمي ...إن الكافرين هم وحدهم الآيسون من رحمة الله إذ جعلوا بكفرهم بنعمه وآياته بينهم وبينه حجاباً مستوراً ...فكيف يرجوا أحد من أحد خيراً وهو ينكر وجوده أوفضله أصلاً ؟
· المشهد الثالث : ( 88- 93) : هذا هو الدخول الثالث للأخوة على يوسف وامتاز بأمرعظيم وهو زوال الغشاوة التى كانت على البصيرة وقيام الإخوة بمبادئ التوبة وأفعال الأوبة إلى الله . (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) . وهكذا انقلب حال الإخوة ... فمن بعد الكيد والإفتراء ينادون الآن باللهفة والرجاء والأدب والإنكسار والضعف والإفتقار ويسألون الوفاء وفوقه التصدق والإحسان فسبحان مقلب القلوب والأبصار... وشتان شتان بين بضاعتهم المزجاة وبضاعته فى الوفاء والصدق والإحسان . لقد كادوا له وهو طفل أخ قريب ... والآن يتوددون منه وهوالعزيز المهيب . لقد مدوا أيديهم عليه فألقوه فى الجب ... والآن يمدون أيديهم إليه يسألونه ويلحون فى الطلب . لقد كانت هذه هى الساعة التى انتظرها يوسف طويلاً والتى ترقبها وسعى إليها باللهفة والرجاء والدعاء . لم تكن ساعة التشفى والإنتقام والتكبروالإستعلاء ... أوعلى الأقل العدل والقصاص بل كانت ساعة الإنتصار على النفس والشيطان ... ساعة الحب والكرم والإحسان ... ساعة فيض العقيدة الإيمانية وبسط سلطانها على المسالك السلوكية ... ساعة انتصار الإنسان على الهوى والشيطان . لقد كان خطابهم للعزيز فاتحة الخير والخطوة السليمة فى الإتجاه الصحيح فما كان من يوسف وقد رأى هذا فى القلوب والوجوه إلا أن ُيبدى لهم ما أخفاه ويظهر لهم ما كان يتوق إلى إظهاره ويكشف لهم حقيقة أمره ف (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ* قَالُواْ أَءِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) . فى هذا الموقف العظيم – موقف الفصل والحساب والجزاء – لا يذكر يوسف فيه إلا الله ونعمه وألاءه وأمره وحكمه وكرمه وإحسانه ... وأسقط حظ نفسه وتجاوز عن حقه . هذا هو نبى الله يوسف وهذه هى صورة من الصلة الصادقة بالله والإخلاد إليه ومن الإجتباء والإصطفاء والإحسان ومن الهدى المقتدىُ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه)(الأنعام 90) .
وفى هذه اللحظة رأى الأخوة الحق فأقروا به صادقين صاغرين ولو كان فى غريمهم ورأوا الباطل باطلاً فأقروا به نادمين تائبين ولو فى أنفسهم و( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) . إن معرفة الأمرعلى حقيقته والإعتراف به وترك العناد والإصرار على الباطل وتجريده من كل مؤثر يخرجه عن حقيقته هى أول وأهم خطوات التوبة الصادقة على عكس من زين له سوء عمله فرآه حسناً ومن هم على الباطل ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ...وعلى عكس من أصر وعاند واستكبر وسوغ كالشيطان قال( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)(الأعراف 12) . وهنا تتجلى عظمة يوسف عليه السلام ... فلا ملامة ولا توبيخ ولاعتاب (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَأَرْحَمُ الرَاحِمِينَ) . يا سبحان الله ؟ ... أين الحقد والتشفى ؟ أين الإنتقام ولو بعدل القصاص ؟ أين ذكر ما كان وفضح العيوب وكشف الأستار ؟ إن هذا الموقف يذكرنا بموقف النبى عليه الصلاة والسلام فى فتح مكة حين قال لأهلها (ما تظنون أنى فاعل بكم؟) قالوا : خيرا ... أخ كريم وابن أخ كريم ... قال وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء) . وهكذا ينتهى فى هذا المشهد ظلم الأخوة ليوسف وأخيه بخاتمة الحسنى وتعود المياه إلى مجاريها وتصفو النفوس ويتآخى الأخوة بإخوة الإيمان الحقة الصادقة . ثم قال يوسف لإخوته (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) . فكما ألقيتمونى فى الجب فأحزنتم أبى وأشرف على الهلاك ... ألقوه على وجهه فيرتد بصيراً وبالقميص ... قميص يوسف ستنتهى تلك الرحلة الطويلة من المعاناة فقميصي الذى كان شاهداً عليكم بالمعصية عسى أن يكون شاهداً عليكم بالصلاح والمغفرة . وهكذا انتهى آخر حوار بين يوسف وإخوته فى هذه القصة الكريمة .
7.من الرؤيا إلى الحقيقة ( الآيات94-101) وتحركت من مصر قافلة البشير تحمل قميص يوسف ... فقال يعقوب وهو جالس بين بعض أبنائه (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ* قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* قَالُواْ يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهكذا يجب على المذنب أن يبادر فور تذكره وندمه بالتوجه القلبى المباشر إلى ربه منيباً إليه تائباً مستغفراً ... ولا يؤخر ذلك بحال من الأحوال ... كى يطهر قلبه فيحصنه من نزغ الشيطان ومن وسوسة النفس ومن تراكم الذنوب وتثاقل الران عليه ... وهو أيضاً لا يدرى متى يحين الأجل .
ثم تنتقل الآيات للمشهد الأخير فى القصة وهو مشهد دخول آل يعقوب جميعاً على يوسف فى مصر وفيها تاويل الرؤيا الصادقة نظرياً فى أول القصة تأويلاً عملياً واقعاًً حقاً (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). وهنا التفت يوسف إلى أبيه مذكراً إياه ونفسه برؤياه الأولى التى تحققت الآن على أرض الواقع معدداً إحسان ربه تعالى عليه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ) . وفى ذكر هاتين النعمتين مقابلة لطيفة ... فبالإضافة إلى أهميتهما ... فقد كان السبب المباشر فى تحقيق الرؤيا فخروجه من السجن ومن ثم إلى منصب عزيز مصرمهد وقدم لمجيئهم من البدو ومن ثم إلى السجود له فلو تخلفت واحدة ما كانت الثانية ولا الخاتمة . ونلاحظ أن يوسف لم يذكر نعمة إنقاذه من الجب لطفاً وأدباً مع أبيه وإخوته فلا يؤذيه فى أبنائه بتلك الذكرى الأليمة القاسية عليهم جميعاً ... خاصة بعد أن غفر لهم وصلح حالهم . كما أنه أرجع السوء إلى الشيطان أصل كل شرورأس كل فساد (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) . وكأنى بيوسف وهو يلتفت إلى أبيه ويقول له : يا أبت عندما قصصت لك رؤياى من قبل قلت لى (يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين) وكأنك كنت تقرأ فى كتاب الحق بعينى العلم والحكمة ... فجعلت وصيتك نصب عينى هادياً ومع ذلك وجد الشيطان فى لحظة ضعف سبيلاً إلى النزغ بيننا ... لكنه بلطف من الله ورحمة منه وهدى وعون حفظنى منه ووفقنى إلى أن أنصر إخوتى عليه فلم أقع فى مصيدة نصرالشيطان على إخوتى .
ثم يعقب يوسف على قصته بتقرير جوهرالحقيقة وهى أن مشيئة الله كانت هى الفاعلة وبجميع صفات الرب الحسنى من لطف وعلم وحكمة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فالله تعالى مصدرالخير كله ومولى النعم ... يفعل ما يشاء من خير برفق ورقة خافية غامرة محيطة فليحذر العبد أن يظن أن مشيئة ربه من شدة لطفها أمراً غير كائن فييأس ف(إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ... بل عليه أن يحسن الظن بربه فإنه من اتقاه (يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)(الطلاق 2-3) . وهكذا يلخص يوسف ما كان من أمرهم ويرجع الفضل بكل الصدق والأدب كعادته فى كل أمره إلى المولى الكريم ذى الفضل والإحسان ... إلى مشيئة الله العليم الحكيم الفاعلة بلطف وحكمة لا ينتبه لهما الناس غالباً إلا عند ظهورالنتائج وتأويل الأحداث وتحقيق الآمال.
ثم التفت يوسف إلى ربه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنُيَا وَالآخرةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) . وبهذه المناجاة الرقيقة وهذا الإبتهال الصادق والدعاء المتضرع الذى يشيع فيه عمق المحبة وقوة الصلة وسلامة القلب وإخلاص النية وأحادية التوجه يختم يوسف إحساناته بمخ العبادة وثمرة العمل ... فبعد سلسلة متلاحقة من إحسان العمل لخصتها الآية السابقة حق ليوسف الآن أن يختمها بإحسانه فى الدعاء مقدماً بين يديه الثناء على المنعم بما هوأهله ... وذكرآلائه وأفضاله الخاصة والعامة على الكون كله بسماواته وأرضه ... ومولياً أمره كله إليه فى دنياه وفى آخرته وسائلاً إياه حسن الخاتمة كما أحسن المقدمة . وبهذا الإبتهال والتعقيب والدعاء بحسن الختام يختم المولى عز وجل قصة نبيه الصديق عليه السلام فى هذه السورة .
الخاتمة
لقد انتهت القصة وتأكد السامع من حسن بيانها وصدق حديثها وعظيم معانيها وماذا بعد ؟ أوتنتهى القصة عند هذا الحد ؟ وأين تأثيرها على السامعين ؟ لقد قص الله قصص رسله كأمثلة حية واقعية وكنماذج عملية مجربة لأصول الدين ومبادئ الإيمان . · أين نحن من عبر قصصهم تلك ؟ ... فى جهادهم لتبليغ الدعوة وصبرهم واستقامتهم وثباتهم ويقينهم بحسن العاقبة حتى وإن بلغت بهم المشقة والمعاناة أقصى درجات التحمل ؟ · أين نحن من عبر مضامين تلك القصص فى تحقيق أصول الدين الرئيسية بتوحيد الله ونفى كل شرك وأن الحكم لله وحده (تشريعاً وقضاءً وحكماً) فى الفرد والأسرة والمجتمع . · أين نحن من عبر مضامين تلك القصص فى تحقيق أخلاقها السلوكية الفاضلة بالتجرد من الفواحش ما ظهرمنها وما بطن ؟... هلا اعتبرنا بيوسف وكيف أثمر صبره عن الفاحشة والهوى وعلى كيد الأخوة والنسوة عزاً وتمكيناً فى الأرض ولأجر الآخرة أكبر ... فتخلينا عن الزنا والربا والظلم والغش والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ؟ · أين نحن من صدق يوسف وعفافه وحلمه رغم الجهل عليه وإكرامه لمن أساء إليه أين نحن من تسليم يوسف أمره لله والتجائه له والإستعانة به وحسن الظن به وصدق التوكل عليه ... وأين نحن من يعقوب عليه السلام فى قمة توكله وتسليم أمره لله دون الإصابة بالإحباط واليأس والقنوط ؟ ... كيف يقنط المؤمن وهو يؤمن أنه موصول بالله وبروح منه ومن اتصل بروح الله فهو الحى غيرالميت ... السعيد غيرالشقى ؟ ... كيف يقنط المؤمن وهويعلم أن الأمربيد الله وحده يقلبه كيف يشاء بواسع علمه وحكمته ورحمته ؟ · هلا اعتبرنا بما كان من إخوة يوسف عندما اتبعوا الهوى الفاسد (العصبية والحسد والأنانية) فوجد فيهم الشيطان مركباً حملهم عليه ليحتنكهم وينزغ بينهم . إن التكبر والحسد وكبائر باطن الإثم النفسى المتبع هى شرك الهوى المؤله من دون الله فمن رضى بها وأصرعليها فقد ظلم وغوى وأضل وهوى وقائده وقدوته هوإبليس اللعين ومن ُذكر فتذكر وتاب واستغفر (كإخوة يوسف) فقد نجا وأفلح ... ومن جاهد النفس والهوى ولم يخلع لباس التقوى وأخلص لله السر والعلن (كيوسف) فذلك هوالمخلص التقى الصابر الشاكر السابق .
بسم الله الرحمن الرحـــيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركـــاته
حدثني بعض الإخوة حول ما جاء في منتداكم الكريم عن كتابي "يوسف أيها الصديق" وأود شكر القائمين على هذا المنتدى والمشاركين فيه وأخص بالذكر الأخ/ هاني درغام على ما تفضل به من عمل سائلاً الله العلي القدير أن يوفقنا جميعاً لخدمة كتابه الكريم ولخير العمل وأن يتقبله منـا إنه هو البَـرُّ الرحــيم .