كل من يعلن الإيمان لابد له من امتحان، واختبار يجريه عليه الديان ليعلم صدق إيمانه فيكتبه من الصادقين إذا وفى بما عاهد الله عليه.
أو يرى رقَّة إيمانه إذا لم يتحمل ما اختبرته به خِبْرَةُ ربِّ العالمين، فيعطيه ثوابه على قدر إيمانه. وفي ذلك يقول الله عزَّ وجلَّ في الأمر الجامع لجميع الأنبياء والمرسلين، والصديقين والشهداء والصالحين، وعامة المسلمين والمؤمنين مِنْ السابقين واللاحقين
يقول الله عزَّ وجلَّ{الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }
(1: 3 -العنكبوت) .
إذاً لابد لأهل الإيمان من الاختبار والامتحان على حسب زمانهم، وعلى حسب قدراتهم واستعداداتهم، وعلى حسب ما في قلوبهم من نوايا وطوايا،
وصدق ويقين في عقيدتهم لله عزَّ وجلَّ، وكلما زاد الإيمان كلما زاد الامتحان ليزيد الرقي عند حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ،
ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: { يُبْتلى المرء على قدر إيمانه } وبين درجات الابتلاء فقال صلى الله عليه وسلم – وقد سئل: { يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ أشدُّ الناسِ بَلاءً؟ قالَ: الأنبياءُ، ثم الأَمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى العبدُ على حَسَبِ دينِهِ، فما يَبْرَحُ البَلاءُ بالعبدِ حتى يَدَعَهُ يَمْشي على الأَرْضِ وما عليهِ خَطيئة }(1)
فلو كان البلاء يقصد به العقاب أو الجزاء حاشا لله عزَّ وجلَّ لحََفِظَ مِنْهُ كُمَّلَ عباده، وهم الأنبياء والصالحون والصد يقون وما شابههم وما ماثلهم،
لكن الله عزَّ وجلَّ وهو الحقُّ، والكُلُّ عنده سواء، ولا يكرم الخلق بقدر عطائهم من الدنيا لأنه هو الذي أعطاها لهم، وهو الذي أعطى هذا وحرم هذا، وهو الذي رفع هذا وخفض هذا،
وهو الذي أعزَّ هذا وأذلَّ هذا، وهو عزَّ وجلَّ الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يخفض ويرفع. ولأن هذه الأشياء تَسَاوَى فيها، بل زاد فيها الكافرون على المؤمنين
فلم يجعلها هي معدن الابتلاء، وإنما الابتلاء على قدر الإيمان، وجعل ابتلاء أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في امتحان صلابة الإيمان في نفوسهم فتعرضوا للكافرين، تارة بالاستهزاء، وتارة بالتعذيب، وتارة بالطرد، وتارة بالضرب، وتارة بأخذ أموالهم، وتارة بأخذ أرواحهم وإزهاق نفوسهم ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى قلوبهم عند تعرضهم لهذا البلاء
فمنهم مَنْ هو أشد صلابة في دين الله من كل جبال الدنيا وصخورها، ولا تأخذه في الله عزَّ وجلَّ هوادة
كأبي عبيدة بن الجراح الذي التقى في غزوة بدر مع أبيه وجهاً لوجه، وكلما ابتعد من أمام وجه أبيه برًّا به وهو كافر أسرع أبوه ليلحق به فخاف أن يقتله مسلم فيكون في صدره شئ نحو هذا المسلم، فأراد أن يثبت لله أنه لا يخشى إلا الله، ولا تأخذه رأفة في دين الله عزَّ وجلَّ فقتل أباه بسيفه.
ومنهم مصعب بن عمير وكانت أمه من أثرياء مكة، وعندما آمن بالإسلام حَرَمَتْهُ من كل مالِها ومقتنياتها، وتركته يتكفف إخوانه المؤمنين لقلة ذات يده، وأرْسَلَتْ رُسُلَهَا يطلبون منه أن يرجع إلى دينها وترد له الأموال التي عندها، لكنه قال لهم قولوا لها: ( هيهات .. هيهات، لقد عرف القلب حُبَّ الله،
واستنشق عبير كتاب الله، فلم يعد يجد لذة إلا في مناجاة مولاه عزَّ وجلَّ) ، ويجيب على أخيه أبى اليسر في موقعة بدر وهو أسير في يد رجل من المسلمين، فيستنجد به أخوه، فليتفت إليه ثم يقول لأخيه المسلم: أشدد يدا أسيرك فإن أمه غنية وستفديه بمال كثير، فقال: أهذه وصايتك بأخيك؟
قال: لست أخي وإنما هذا هو أخي والإسلام فرق بيننا
فهم معه في الدنيا، ومعه في الآخرة، ومعه عند لقاء الله، وبشَّرهم بالجنة، ووعدهم بمقعد صدق، وهنَّأهم بما لهم عند الله من مقام كريم وأجر عظيم،
لأنهم نجحوا في هذا الابتلاء. فنصرهم الله وأعزَّهم الله، وفتح لهم البلدان وصاروا أمراء وقادة جيوش وفاتحين، وجاءتهم خزائن الدنيا كلُّها تحت أرجلهم فكان الامتحان الأعظم فلم يلتفتوا عن الله طرفة عين، ولم تشغلهم الدنيا عن الله ولا عن طاعته وعبادته، ولم يتخلوا بسبب طغيان المادة عن الأخلاق الإسلامية، من الصدق والأمانة، والكرم والشجاعة، وغيرها من أخلاق الإيمان.