المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وجه المرأة في المذهب الحنبلي


محمد رفقي
13-05-2016, 11:23 AM
نبدأ بأن نستعرض متنا حنبليا مهما من كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل" للإمام علاء الدين المرداوي (ت:885هـ):

فيما يتعلق بالستر قال المرداوي:

((قوله: "والحرة كلها عورة حتي ظفرها وشعرها إلا الوجه "الصحيح من المذهب أن الوجه ليس من العورة. وحكاه القاضي إجماعا. وعنه الوجه عورة أيضا. قال الزركشي (شارح مختصر الخرقي) (ت:772هـ): وأطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة , وهو محمول علي ما عدا الوجه أو في غير الصلاة.انتهي. وقال بعضهم الوجه عورة وإنما كشف في الصلاة للحاجة. قال الشيخ تقي الدين(ت:728هـ): والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة , وهو عورة في باب النظر , إذ لم يجز النظر إليه)).

هنا ثلاثة أقوال:

1- الوجه ليس عورة.
2- الوجه عورة.
3- الوجه عورة وجاز كشفه في الصلاة للحاجة.

فما الفرق بين القول الثالث والأول أن الوجه ليس عورة لو كان المقصود أنه ليس بعورة في الصلاة فقط وهو خارجها؟

فالصحيح هو أن القول الأول والثاني هو في أن الوجه عورة أم لا مطلقا.

وفي ضوء ذلك النص: نجد عن أحمد روايتين فيما يتعلق بعورة المرأة , وأن الروايتين عامتان , بمعني أن قوله إن المرأة عورة إلا وجهها يعني في الصلاة وخارجها , وقوله إن المرأة كلها عورة يعني في الصلاة وخارجها.

ثم من الحنابلة من صحح الرواية الأولي أنه ليس عورة مطلقا , وهي طريقة عامة الأصحاب.

ثم من هؤلاء العامة من بني علي ذلك جواز النظر كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل , ومنهم من رأي منعه كابن تيمية المذهبي (وهو غير بحثه الاجتهادي غير المتقيد بمذهب الحنابلة في مجموع الفتاوي) .

ومنهم من اختار الثانية وحملها علي ما عدا الوجه (أي في الصلاة) أو علي غير الصلاة (أي أنه عورة خارجها) , وهذه طريقة الزركشي.

ومن الحنابلة من جمع بين الروايتين أن الوجه عورة خارج الصلاة وليس بعورة فيها , وهذه التي زكرها المرداوي مجهلة.

وفق ما سبق فإن بعض الحنابلة يفرقون بين عورة الستر وعورة الصلاة خلافا لجماهير الفقهاء.

فيما يتعلق بالنظر إلي الأجنبية قال المرداوي:

((قال أكثر الأصحاب أنه لا يجوز للرجل النظر إلي غير ما تقدم ذكره , فلا يجوز له النظر إلي الأجنبية قصدا , وهو الصحيح , وهو المذهب , وجوَّز جماعة من الأصحاب نظرالرجل من الحرة الأجنبية إلي ما ليس بعورة صلاة , وجزم به (أي السامري ت:616هـ) في المستوعب في آدابه ,وذكره الشيخ تقي الدين رواية. قال القاضي (ت:458هـ) المحرم ما عدا الوجه والكفين.وصرح القاضي في الجامع: أنه لا يجوز النظر إلي المرأة الأجنبية لغير حاجة. ثم قال:النظر إلي العورة محرم وإلي غير العورة مكروه. وهكذا ذكر ابن عقيل وأبو الحسين (ابن أبي يعلي). وقال أبو الخطاب (أي الكلوذاني) : لا يجوز النظر لغير ما ذكرنا إلا أن القاضي أطلق هذه العبارة. وحكى الكراهة في غير العورة. قال الشيخ تقي الدين: هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة؟ رواية عن الإمام أحمد: يكره ولا يحرم. وقال ابن عقيل (ت:513هـ): لا يحرم النظر إلى وجه الأجنبية إذا أمن الفتنة. انتهي. قلت:وهذا الذي لا يسع الناس غيره، خصوصا للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم، وهو مذهب الشافعي)).

وحاصل هذا: أن الحنابلة مختلفون في النظر إلي الأجنبية من غير حاجة , ونلاحظ أن القاضي أبي يعلي , الذي ذكر أن الوجه ليس بعورة إجماعا , يجيز النظر هاهنا , وهذا يستلزم أن مراد الأول كان عورة الصلاة وعورة الستر العامة خارجها معا.

ويدل علي ذلك أيضا أنه يصرح أن الوجه ليس بعورة خارج الصلاة قوله في المسائل الفقهية : (يكره للرجل النظر من المرأة الأجنبية ما ليس بعورة لغير حاجة خوفا أن يدعو ذلك إلي الفتنة وهذا المعني موجود في المرأة لا يؤمن عليها حصول الفتنة بنظرها إلي الأجنبي فيجب أن يكره ذلك في حقها).

وبذلك نجد أن طريقة الأكثر الانفكاك بين عورة الستر والنظر , فأكثر الأصحاب – علي رواية المرداوي – مع أن الوجه ليس بعورة إلا أنه لا يجوز النظر إليه.

وخلافا لحكاية المرداوي فقد نسب ابن مفلح جواز النظر من غير شهوة للأكثرية , قال: (فأما قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم: إن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة، فلا ينبغي الإنكار عليهن إذا كشفن عن وجوههن في الطريق).

والسبب في اضطراب المذهب الحنبلي فضلا عن تعدد الروايات هو احتمال بعضها أن تكون متعلقة بالصلاة وخارجها , وصراحة بعضها في الصلاة , ثم احتمال بعضها أن يكون النظر دون الستر, وصراحة بعضها في الستر, وصراحة بعضها في الكراهة دون الحرمة. وهذا واضح من تصرف الحنابلة أنفسهم واختلافهم في حمل كلام الإمام.

روايات تبين أن الوجه ليس بعورة في الصلاة:

• في مسائل الإمام أحمد وإسحاق: قلت: في كم تصلي المرأة؟ قال: أقله ثوبات: قميص ومقنعة.

• وفي مسائل ابن هانيء: سألته – أي أحمد – عن المرأة في كم ثوب تصلي؟ قال: أقله درع وخمار وتغطي رجليها , ويكون درعا سابغا يغطي رجليها.

رواية صريحة في ستر الوجه داخل الصلاة:

• وردت في كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني الحافظ صاحب السنن (ت:275هـ ) ونصها: ( أخبرنا أبو بكر, قال أبو داود قلت لأحمد: المرأة إذا صلت ما يري منها؟ قال: لايري منها ولا ظفرها ، تغطي كل شئ منها).

وهذه الرواية صريحة ولا يصح معها حمل الزركشي المطلق: (وأطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة , وهو محمول علي ما عدا الوجه أو في غير الصلاة). ونفس إطلاق الزركشي ليس فيه إلا إطلاق أحمد العورية.

كما أن هذه الرواية تدل علي خطأ ابن قدامة في نفي الخلاف في عورة الوجه داخل الصلاة (عندما قال:لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة).

علي أن حكاية الإجماع علي أنه ليس بعورة داخل الصلاة من بعض الحنابلة, وورود الروايات المجيزة للاختمار , وهم لم يفهموا من الاختمار غير كشف الوجه ,هي التي جعلت بعضهم يضطربون ويحملون هذا الحمل بناء علي رواية أحمد المطلقة أن المرأة عورة حتي ظفرها , فاستعملوا هذا الاطلاق لتخصيصه , والصحيح وجود الروايتين في الوجه داخل الصلاة. وعلي هذا مشي المحقق ابن تيمية في طوره الاجتهادي أن في العورة داخل الصلاة روايتين مختلفتين عن أحمد (عندما قال: وهو إحدى الروايتين عن أحمد).

وهذه الرواية هي المشهورة عند الفقهاء من المذاهب الأخري فيما يفهمونه من مذهب أحمد , فهي نوع ما معروفه عندهم علي نحو أكثر من رواية الكشف , وهو القول الموافق لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث – التابعي أحد فقهاء المدينة السبعة - والذي ينقلونه في كتب المذاهب منسوبا لمذهب الحنابلة بالعموم , قال : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها.

• قال الإمام القرافي المالكي (ت:682هـ) في "الذخيرة": (إذا صلت منتقبة لا إعادة عليها... وأوجب أحمد ابن حنبل تغطية وجهها وكفيها).

• قال ابن عبد البر المالكي (ت:463هـ) في"التمهيد": (قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم لإجماع العلماء على أن للمرأة أن ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به... وقد روي نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن عن أحمد ابن حنبل).

• قال الماوردي الشافعي (ت:450ه‍( فى (الحاوى الكبير) : (وقال أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام – أحد فقهاء السبعة – وأحمد بن حنبل: جميع المرأة مع وجهها وكفيها عورة)

• قال ابن القطان المالكي (ت:628هـ) في "أحكام النظر": (وقال أحمد بن حنبل: إذا صلت المرأة تغطي كل شيء منها ولا يري منها شيء ولا ظفرها).

وكلام هؤلاء عنه في الصلاة معناه أن وجهها عورة خارج الصلاة وهذا قول صحيح في مذهب الحنابلة.

في ضوء ما تقدم ليس بصحيح من جعل من الحنابلة الرواية عن أحمد في عورة الوجه مختصة بما هو خارج الصلاة , لا الصلاة.


أما في الستر خارج الصلاة والنظر:

• ورد في (أحكام النساء للإمام أحمد) رواية الخلال (ت:311هـ): قال: حدثنا أبو طالب، أنه سمع أبا عبد الله يقول: ظفر المرأة عورة، واذا خرجت فلا يبين منها لا يدها ولا ظفرها ولا خفها، فإن الخف يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل كفها إلى عند يدها، حتى إذا خرجت يدها لا يبين منها شيء).

والرواية صريحة في عورة الستر , أي وجوب أن تستر المرأة كلها في الخروج.

وهل في روايات أحمد إلي ما يشير إلي عدم وجوب الستر , وعدم حرمة النظر, أم أن من قال ذلك من الحنابلة خرّج علي رواية عدم العورية في الصلاة؟

والجواب: أن من قال من الحنابلة كراهة النظر دون حرمته , كالقاضي وابن عقيل والمرداوي , نجد له في الروايات كراهة النظر دون تحريم:

• (أخبرني حرب بن إسماعيل، قال: قيل لأحمد: الرجل يكون في السوق، يبيع ويشتري، فتأتيه المرأة تشتري منه، فيرى كفها ونحو ذلك، فكره ذلك، وقال: كل شيء من المرأة عورة، قيل له: فالوجه؟ قال: إذا كانت شابة تُشتهى فإني أكره ذلك، وإن كانت عجوزَا رجوت). (أحكام النساء للإمام أحمد)

وبحسب لفظها ليست موجبة للستر ولا محرمة للنظر. وقد تقدم من قال بالكراهة كالقاضي كما عند المرداوي.

• قال أبو يعلي في "المسائل الفقهية": (وقال في رواية حرب ومحمد ابن أبي حرب الجرجاني في البيع: تأتيه المرأة فينظر في كفها ووجهها , فإن كانت عجوزا رجوت , وإن كانت شابة بسنها فإني أكره ذلك. فظاهر هذا أن الكفين ليس بعورة عنده , لإنهما لو كانا عورة لم يبح النظر إليها وإن كانت عجوز).

• (أخبرني محمد بن علي، قال: حدثنا مهنا، قال: سألت أحمد: عن الرجل يأكل مع مطلقته، قال: لا، هو رجل أجنبي، لا يحل له أن ينظر إليها، فكيف يأكل معها، ينظر إلى كفها؟! فلا يحل له ذاك). (أحكام النساء للإمام أحمد)

هنا لم يوجب عليها الستر وإنما أنكر أن ينظر الرجل , وهذا معناه أنها مكشوفة أصلا.

• وفي الإنصاف كتاب النكاح : (كما أن الراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله : أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة : لا يجوز . وإن كانت الشهوة منتفية ، لكن يخاف ثورانها).

وهذا أيضا معناه أن وجهها مكشوف أصلا.

• (أخبرني محمد بن علي، والحسن بن عبد الوهاب، أن محمد ابن أبي حرب حدَّثهم، قال: قلت لأبي عبد الله: البيع تأتيه المرأة، فينظر إلى كفها ووجهها، قال: إن كانت عجوزًا، وإن كانت ممن تحركه يغض طرفه، وقال: كل شيء من المرأة عورة، حتى ظفرها). (أحكام النساء للإمام أحمد)

وهذه في حرمة النظر وليست موجبة للستر , وإلا لأشار إلي لزوم سترها , فهذا جواب علي النظر , وإن قيل أنه أجاب بما هو أعم من السؤال , يعني هي عورة فيلزم الستر , فالجواب: إن الرواية لا تشي بذلك مع قوله: (وإن كانت ممن تحركه يغض طرفه) فعلق ذلك بالاشتهاء, وكان الأولي هنا أن يبين لزوم الستر.

فما تقدم يصحح أن الروايتين مطردتان داخل الصلاة وخارجها.


ونبين الآن عرض ابن قدامة (ت:620هـ) وما يدل علي رأيه في تلك المسألة.


قال ابن قدامة في استعراض عورة الصلاة:

((لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة , ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم , وأنه ليس لها كشف ماعدا وجهها وكفيها وفي الكفين روايتان. واختلف أهل العلم , فأجمع أكثرهم علي أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت... وقال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي : جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها ، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة ; لأن ابن عباس قال في قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال:الوجه والكفين. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء...)).

وفي كلامه عدم الاختلاف في المذهب في جواز أن تكشف وجهها , وهذا بناء علي الرواية الأولي , ولكن صح عن أحمد رواية ثانية في الستر كما تقدم , والحنابلة كثير ما يقولون هذه العبارة في ذلك الموضع , فما معناها؟ الظاهر أنه لا أحد من الحنابلة اختار هذه الرواية وجعلها المذهب في الصلاة , علي أننا لم نقف علي وقوفهم علي تلك الرواية الصريحة ومناقشتها , وإنما كلامهم في الرواية العامة في أن المرأة عورة.

والحق أن المذهب مضطرب في ذلك تقريرا وحكاية بسبب تعدد الروايات. فابن قدامة جعل الرواية الثانية في ستر الوجه مخالفة للإجماع الذي كان حكاه أولا , ثم رجع فقال إنه إجماع أكثرهم , يعني ليس جميعهم.

ثم حكي ابن قدامة القول الثاني في كونهما عورة عن بعض الأصحاب , ثم علل إباحة الكشف بالمشقة , فقال: ((...وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة لأنه قد روي في حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم ( المرأة عورة). لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها (أي في الصلاة) , لما في تغطيتة من المشقة))

فما معني ذلك؟

معناه أنه قد جعل الرواية الثانية عن أحمد في كونها كلها عورة , خارجة عن الصلاة , لأنه علل بإباحة الكشف بالمشقة في ستره في الصلاة , ويدل علي ذلك حكايته أولا عدم الخلاف في المذهب أن لها أن تكشف وجهها في الصلاة. وبناء علي ذلك إذا كان القولان متفقين علي جواز الكشف في الصلاة , كما حكي أولا اتفاق المذهب وكما نص أن أصحاب المذهب الثاني يرون الكشف في الصلاة , فما الفائدة التي لأجلها حكي القول الثاني للأصحاب بعد ذكره قول الجمهور: ((وقال مالك ، والأوزاعي , والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها ، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة)) أي ما فائدة التنويع بين القولين وجعل الثاني قسيما للأول ما دام أنهلا خلاف أنها تكشفه في الصلاة؟

والجواب الواضح عن ذلك: أن الإمام يريد أن يقول: أن الجمهور من الأصحاب كالجمهور من الفقهاء أن الوجه والكفين ليس بعورة أصلا , داخل الصلاة وخارجها , ويدل علي ذلك البناء الاستدلالي بالعورية العامة كآية الإبداء , وعدم وجوب الستر في الإحرام , والعادة التي جعلت الشارع لا يجعلها عورة , وقد شرحنا ذلك في الفقه الحنفي والشافعي. وهذا يدل بوضوح أنه ليس لأحد حيلة في أن يجعل قول الأئمة الثلاثة وجمهور الحنابلة – حسب نقل ابن قدامة -في عورة الصلاة في ظل قول بعض الحنابلة أنه عورة في الخارج ويباح كشفه في الصلاة ,فما هو قول جمهور الحنابلة إذن؟!

وعلي ذلك فيكون من الحنابلة من يختار أن الوجه ليس بعورة مطلقا داخل الصلاة وخارجها , ومن ثَمَّ فلا يختار رواية أن المرأة عورة. ولا يمتنع أن منهم لايرُد رواية أن المرأة عورة ويكون جوابه عليها أن معناها عورة في النظر , فيحرم النظر إليهما ولا يجب سترهما عنده علي المرأة , أو يجوز بغير شهوة سواء كمذهب جماعةمن الشافعية – وهذا ما صرح به ابن مفلح – وقد يكون هذا مذهب ابن قدامة. فرواية المرأة عورة هي رواية مطلقة عن أحمد تحتمل الستر والنظر , فهؤلاء يحملونها علي النظر , وأما الحنابلة المتأخرون الذين يمشون علي طريقة الزركشي فهم يجمعون بين الرواية المطلقة ورواية أحمد المصرحة بالستر (ظفر المرأة عورة، واذا خرجت فلا يبين منها لا يدها ولا ظفرها ولا خفها، فإن الخف يصف القدم) فيجعلون الوجه عورة ستر ونظر جميعا خارج الصلاة.

والرواية السابقة المصرحة بجوب الستر ليست في شيء من كتب ابن قدامة , وليس عنده إلا رواية المرأة عورة العامة , فمع اختياره أن الوجه ليس بعورة , واختياره أن النظر غير جائز لغير حاجة, يكون تحصيل مذهبه أن الوجه ليس بعورة في الستر وهو عورة في النظر بمعني تحريم نظر الرجل لوجه المرأة.

وسيأتي كلام ابن قدامة الآن الذي يدل علي اختياره أن الوجه ليس عورة في الستر مطلقا , داخل الصلاة وخارجها , مع كونه عورة في النظر فقط.

يقول ابن قدامة في حكم ستر جزء من الوجه مع الرأس في الإحرام مع النهي عن ستره: ((ويجتمع في حق المحرمة : وجوب تغطية الرأس ، وتحريم تغطية الوجه ، ولا يمكنها تغطية كل الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه ، ولا كشف جميع الوجه إلا بكشف جزء من الرأس ، والمحافظة على ستر الرأس كله أولى ، لأنه آكد ، لأنه عورة ، ولا يختص تحريمه حالة الإحرام , وكشف الوجه بخلافه , وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى)).

فلاحظ تعبيره أن ستر الرأس أولي لأنه عورة وكشف الوجه بخلافه يعني : أن إيجاب كشفه خاص بالإحرام , أما خارج الإحرام يجوز كشفه ويجوز ستره , وذلك لأنه ليس بعورة. لذلك رجع فقال إن ستر جزء منه – أي: مع كونه ليس بعورة - لستر جزء من العورة - أي الرأس – أولي. وقد قال هو نفسه في حكم سدلها في الإحرام: (لأن بالمرأة حاجة إلي ستر وجهها , فلم يحرم عليها ستره علي إطلاق كالعورة) , ومعني هذا أنه ليس بعورة.

وقال ابن قدامة في حكم النظر إلي المخطوبة في تعليل إباحته: ((ولاخلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلي وجهها ( أي وجه المخطوبة) وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن وموضع النظر ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة. وحكي عن الأوزاعي أنه ينظر إلى مواضع اللحم وعن داود أنه ينظر إلى جميعها ، لظاهر قوله عليه السلام (انظر إليها) ولنا قول الله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وروي عن ابن عباس أنه قال: الوجه، وباطن الكف. ولأن النظر محرم أبيح للحاجة ، فيختص بما تدعو الحاجة إليه ، وهو ما ذكرنا)).

فإذا كان النظر محرما , وأبيح للحاجة لما هو ليس بعورة , لم يبق في الوجه عورة إلا في النظر , ولم يكن عورة ستر, بدليل آية الإبداء , وتصريحه نفيها لتعليل الإباحة (وقد سبق بيانه للحاجة وهي التي تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء) .


أما ما يتعلق بحكم النظر إلي الأجنبية:

فبعد أن ذكر النظر لحاجة كطبيب وقاض ونحوهما قال: ((فأما نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب ، فإنه محرم إلى جميعها ، في ظاهر كلام أحمد. قال أحمد : لايأكل مع مطلقته ، هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها ، كيف يأكل معها ينظر إلى كفها؟ ، لا يحل له ذلك. وقال القاضي : يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه والكفين ; لأنه عورة ، ويباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة ، ونظر لغير شهوة. وهذا مذهب الشافعي لقول الله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال ابن عباس: الوجه والكفين وروت عائشة (أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب رقاق ، فأعرض عنها ، وقال : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو بكر ، وغيره ; ولأنه ليس بعورة ، فلم يحرم النظر إليه بغير ريبة ، كوجه الرجل)).

قول القاضي: لأنه عورة: يعني لأن ماعدا الوجه والكفين عورة , أما هما فليسا بعورة.

وكلام ابن قدامة هنا فضلا عن إثباته لمذهب هؤلاء الحنابلة في أنه ليس بعورة خارج الصلاة , ففيه إثبات لمذهب الشافعية أنه يجوز النظر لغير شهوة. وانظرالبناء الاستدلالي الذي ذكره: آية الإبداء , وحديث أسماء.

ثم قال: ((ولنا قول الله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب ، فملك ما يؤدي ، فلتحتجب منه) , (وعن أم سلمة ، قالت : كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم أنا وحفصة فاستأذن ابن أم مكتوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم احتجبن منه) رواه أبو داود, (وكان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الخثعمية تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه عنها) , وعن جريربن عبد الله ، قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري) حديث صحيح , وعن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتبع النظرة النظرة ،فإنما لك الأولى ، وليست لك الآخرة) رواهما أبو داود. وفي إباحة النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها دليل على التحريم عند عدم ذلك ، إذ لو كان مباحا على الإطلاق، فما وجه التخصيص لهذه ؟ ، وأما حديث أسماء إنصح فيحتمل أنه كان قبل نزول الحجاب ، فنحمله عليه)) .

نلاحظ أنه لم يذكر رواية أحمد عن النهي عن إبانة شيء منها التي يستفاد منها علي وجوب الستر , ولم يذكرها في موضع آخر من كتبه, ولو كانت عنده لذكرها هنا فهو موضع يحتاج إليها فيه , فيدل هذا علي أن الوجه ليس بعورة ستر عند ابن قدامة , وأنه عورة نظر فحسب , وعورة النظر لا تستلزم أنه عورة ستر , وقد صرح بأن الوجه ليس بعورة في أكثر من موضع , وبني علي النظر للمخطوبة أن بفهومة عدم جواز النظر للأجنبية , وهذا في النظر وليس في إيجاب الستر. وأورد آية وأحاديث في أمهات المؤمنين , ومن المعروف أن حكمهن في الاحتجاب خاص ولو أراد الستر لعوام النساء لأورد آية الجلباب فهي التي يستدل بها في هذا المقام , حتي أنه لم يورد آية الإبداء ولو بتفسير ابن مسعود المستعمل في هذا الموضع , فقد يكون مراده أن احتجاب أمهات المؤمنين هو أن الشرع أراد صرف النظر عنهن بالكلية , لذا أوجب عليهن ستر شخوصهن , بجدار ونحوه ولو كن منتقبات , ودليل تلك المبالغة حديث ابن أم مكتوم والأمر بالاحتجاب منه وهو أعمي. وقد يدل علي هذا التصور أنه أورد حديث الخثعمية والفضل , الذي هو دليل الجمهور علي أنه لا يلزمها الستر ويجب عليه الغض.

وينبغي أن نعلم أنه ليس في كلام العلماء تأويل هذا الحديث بما يحرم الكشف , بل إنه غير موجود في كتب الحنابلة الموجبين الستر أيضا. والحنابلة لا يستعملون حديث الخثعمية في بحث العورة أو النظر قط , لا يستعملونه إلا في بحث الاستطاعة في الحج , فانتبه لهذا , فإن الحكاية المذهبية يجب أن تكون متفقة في التوجيه والتعليل , بمعني أن كون بعض الموجبين للستر الآن يتأولون هذا الحديث , لا يتيح لهم أن يفترضوا أن الحنابلة يتأولونه ما لم يرد ذلك في تعليل المذهب وتدليله عند الحنابلة , فإذا أورده حنبلي في سياق المنع من النظر, مع عدم تصريحه بوجه الشاهد منه , لم يكن للمتأخر إلا أن يقبل أنه يستعمله الاستعمال الجمهوري القائل بحظر النظر مع إباحة الكشف.

وكذا أحاديث النظر التي استدل بها ابن قدامة ليس شيء منها في الستر , خاصه مع قوله المنصوص: أن الوجه ليس بعورة , ولم يذكر ستر معلقا علي فتنة دائمة كما شاع ذلك في بعض المتأخرين.