المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من أيبك إلى قطز.. حزم بعد نزاع


المراقب العام
13-07-2016, 09:14 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/06/26/qotoz.gif

بقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين متنافرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عزّ الدين أيبك.

هروب المماليك البحرية:
حيث إن فارس الدين أقطاي نفسه -وهو أكبر المماليك البحرية قدرًا، وأعظمهم هيبة- قد قُتل، فاحتمال قتل بقية زعماء المماليك البحرية أصبح قريبًا.. وبات المماليك البحرية في توجس وريبة.. وما استطاعت زعيمتهم شجرة الدرّ أن تفعل لهم شيئًا، وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام، خوفًا من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق أيام التتار، ودخل ركن الدين بيبرس في طاعته[1].

وهكذا صفا الجو في مصر تمامًا للملك المعز عز الدين أيبك، وإن كان العداء بينه وبين المماليك البحرية قد خرج من مرحلة الشكوك والتوقعات وأصبح معلنًا وصريحًا، ومن جديد توسط الخليفة العباسي المستعصم بالله ليضمن استقرار الأوضاع في مصر والشام؛ لأن انضمام المماليك البحرية إلى الأمراء الأيوبيين بالشام قد يشعل نار الفتنة من جديد بين مصر والشام، ونجحت وساطة الخليفة العباسي، واتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين التي كانت تابعة للملك المعز، ويبقى الملك المعز في مصر[2]، إلا أن ركن الدين بيبرس - زعيم المماليك البحرية الآن بعد قتل فارس الدين أقطاي - آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي.

«شجرة الدر» تحترق!:
مرت السنوات، والملك المعز عزّ الدين أيبك مستقر في عرشه، وقد أصبح قائده سيف الدين قطز قائدًا بارزًا معروفًا عند الخاصة والعامة، واختفي تقريبًا دور الزوجة الملكة القديمة شجرة الدر، وهذا كله ولاشك جعل الحقد يغلي في قلب شجرة الدر، ولا شك أن عزّ الدين أيبك كان يبادلها الشعور بالكراهية، فهو يعلم أنها ما تزوجته إلا لتحكم مصر من خلاله، ولكن أحيانًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!

وجاءت سنة 655 هجرية وقد مرت 7 سنوات كاملة على حكم الملك المعز عز الدين أيبك، وأراد الملك المعز أن يثبت أقدامه على العرش بصورة أكبر، بل وتزايدت أطماعه جدًّا في المناطق المجاورة له في فلسطين والشام، ولم تكن له طاقة على تنفيذ أحلامه بمفرده، فأراد أن يقيم حلفًا مع أحد الأمراء الكبار في المنطقة ليساعده على ذلك، ولما كانت الخيانة في العهود أمرًا طبيعيًا في تلك الآونة، فإنه أراد أن يوثق الحلف برباط غليظ وهو...... الزواج!

اختار الملك المعز عزّ الدين أيبك بنت حاكم الموصل الأمير الخائن «بدر الدين لؤلؤ»[3]، الذي كان له تعاونًا مقززًا مع التتار وكان سببًا في سقوط بغداد.

وعلمت شجرة الدرّ بهذا الأمر فاشتعلت الغيرة في قلبها.. وركبها الهم والغم، وعلمت أنه لو تم هذا الزواج الجديد فستطوى صفحتها تمامًا من التاريخ، وأعْمَتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور، وهي التي اشتهرت بالحكمة، فلم تقدّر أن زعماء المماليك البحرية قد اختفوا، وأن القوَّة الحقيقية الآن في أيدي المماليك المعزّية الذين يدينون بالولاء والطاعة للملك المعز عز الدين أيبك.. لم تقدّر كل ذلك، وقررت بعاطفة المرأة أن تقدم على خطوة غير مدروسة، ولكنها مألوفة لديها، فقد فعلتها قبل ذلك مع توران شاه ابن زوجها السابق، وهي ستفعلها الآن مع زوجها الحالي.. وهذه الخطوة هي: قتل الزوج الملك المعز: عزّ الدين أيبك.. فليُقتل وليكن ما يكون! هكذا فكرت شجرة الدر!

بالفعل دبرت مؤامرة لئيمة لقتل زوجها الملك، وتم تنفيذ المؤامرة فعلًا في قصرها في شهر ربيع الأول سنة655 هجرية، لينتهي بذلك حكم المعز عزّ الدين أيبك بعد سبع سنوات من الجلوس على عرش مصر، وهكذا تكون شجرة الدرّ قد قتلت اثنين من سلاطين مصر: توران شاه ثم عز الدين أيبك[4].

علم الجميع بجريمة القتل، وأسرع سيف الدين قطز قائد الجيش والذراع اليمنى للمعز عز الدين أيبك، ومعه ابن عزّ الدين أيبك من زوجته الأولى وكان اسمه نور الدين علي.. أسرعا ومعهما فرقة من المماليك المعزية، وألقيا القبض على شجرة الدرّ[5].

وطلبت أمّ نور الدين علي (زوجة المعز عزّ الدين أيبك الأولى) أن يترك لها الأمر في التصرف مع ضرتها شجرة الدرّ، وكانت النهاية المأساوية المشهورة، أن أمرت أمّ نور الدين جواريها أن تُقتل الملكة السابقة «ضربًا بالقباقيب»![6]

ولعل هذا هو حادث القتل الوحيد في القصة الذي له خلفية شرعية مقبولة، فقد قتلت شجرة الدرّ عزّ الدين أيبك دون مسوغ معقول.. فليس الزواج من امرأة أخرى جريمة، وليس الانفراد بالحكم دون الانصياع لحكم الزوجة جريمة، ولذلك فليس لديها مسوغ شرعي للقتل فكان لا بُدَّ أن تُقتل.. لكن المؤكد أن الطريقة التي قتلت بها لم تكن طريقة شرعية.. بل كانت طريقة نسائية بحتة.. لم يقصد منها القتل فقط، بل قصد منها الإهانة والتحقير والذل، على نحو ما فُعل بالخليفة المستعصم بعد ذلك عند سقوط بغداد عندما قتل رفسًا بالأقدام!

وهذه نهايات خاصة جدًّا يكتبها الله عز وجل لبعض الملوك ممن لم يرع حق الله وحق الشعوب في الدنيا!

وبعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم مقتل شجرة الدرّ بويع لابن عزّ الدين أيبك وهو نور الدين علي، والذي لم يكن قد بلغ بعد الخامسة عشر من عمره، وهذه مخالفة كبيرة جدًّا ولا شك، ولكن لعله قد وُضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم.. وتلقب السلطان الصغير بلقب «المنصور»، وتولى الوصاية الكاملة عليه أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت وهو سيف الدين قطز قائد الجيش، وزعيم المماليك المعزّية، وأكثر الناس ولاءً للملك السابق المعزّ عزّ الدين أيبك.. وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في ربيع الأول من سنة 655 هجرية[7].

وأصبح الحاكم الفعلي لمصر هو.... سيف الدين قطز.

من هو سيف الدين قطز؟:
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. اسمه الأصلي «محمود بن ممدود»، وهو من بيت مسلم ملكي أصيل.. وسبحان الله! كم هي صغيرة تلك الدنيا! فقطز هو ابن أخت جلال الدين الخُوارِزمي[8]! وجلال الدين هو ملك الخُوارِزميين المشهور، والذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم، ثم هُزم منهم، وفرّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا معظمهم، واسترقوا بعضهم، وكان محمود بن ممدود أحد أولئك الذين استرقهم التتار، وأطلقوا عليه اسمًا مغوليًا هو «قطز»، وهي كلمة تعني «الكلب الشرس»، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوَّة والبأس، ثم باعه التتار بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره، حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عزّ الدين أيبك ليصبح أكبر قواده كما رأينا.

اضطراب جديد:
كما أحدث صعود شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، فكذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم الاضطرابات نفسها، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعم أحد هؤلاء المماليك البحرية -واسمه «سنجر الحلبي»- الثورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه.. كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام، وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعزّ، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم «مغيث الدين عمر» أمير الكرك (بالأردن حاليًّا) الذي تقدم بجيشه لغزو مصر[9]! وكان أميرًا ضعيفًا جدًّا، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر كثيرًا من حجمه!

وصل مغيث الدين بالفعل بجيشه إلى مصر، وخرج له قطز فصدّه عن دخول مصر، وذلك في ذي القعدة من سنة 655 هجرية، ثم عاد مغيث الدين تراوده الأحلام لغزو مصر من جديد، ولكن صدّه قطز مرة أخرى في ربيع الآخر سنة 656 هجرية.

ومن الجدير بالذكر أن هذه المرة الأخيرة التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت -كما أشرت- في شهر ربيع الآخر سنة 656 هجرية، أي بعد سقوط «بغداد» عاصمة الخلافة الإسلامية بأقلّ من شهرين فقط! فبدلًا من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار إذا به يتوجه لحرب المسلمين! إنه مرض الحَوَل السياسي الذي كان منتشرًا في تلك الأيام وفي أي زمان يبتعد المسلمون فيه عن ربهم!

سقطت بغداد في صفر سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية من رجب سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مرورًا بشمال العراق في سنة 657 هجرية، واحتل نصيبين والرها والبيرة، واقترب من حلب.. وأصبح واضحًا أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لا بُدَّ أن تكون الخطوة التالية هي مصر.

وإن كان يدير الأمور فعليًا في مصر هو قطز، لكن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا.

وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين.. في ضوء كل ذلك لم يجد قطز أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل «نور الدين علي» على كرسي أهم دولة في المنطقة، وهي مصر، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها.

هنا اتخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، واعتلاء قطز بنفسه عرش مصر[10]، ولم يكن القرار غريبًا؛ فقطز هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع -بمن فيهم السلطان الطفل نفسه- يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن هناك صورة هزلية مضحكة يتحرك قطز من خلفها، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن رفع هذه الصورة الهزلية ليظهر من ورائها الأسد الهصور الذي على يديه ستتغير معالم الأرض، وتتغير جغرافية العالم، وتتغير كثيرٌ من صفحات التاريخ.

وكان هذا في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.. ومنذ أن صعد قطز إلى كرسي الحكم وهو يعدّ العدّة للقاء التتار.

فرحمه الله رحمة واسعة.

[1] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 3/190.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/12.
[3] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 7/27.
[4] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/403.
[5] العبادي: قيام دولة المماليك الأولى ص140.
[6] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/494.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/249.
[8] انظر سيرته عند الذهبي: العبر في خبر من غبر 3/291، وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/85.
[9] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 7/27.
[10] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/508.


د/ راغب السرجاني