المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مشكلة عكا والحل الدبلوماسي


المراقب العام
21-08-2016, 12:04 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/08/31/3akka.gif

أثناء تجهيز قطز الجيش المصري كانت هناك جهود دبلوماسية ماهرة يقوم بها قطز لتمهيد الطريق إلى اللقاء الكبير المرتقب مع التتار.
لقد كانت هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا -خاصة على ساحل البحر الأبيض المتوسط- محتلة من قبل الإمارات الصليبية، فكانت هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية وغيرها.. وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقًا هي إمارة عكا في فلسطين، وهذه الإمارة تقع في طريق قطز إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين.. فماذا يفعل قطز مع الصليبيين في عكا؟!

تعالوا نفكر مع قطز:
أولًا: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداء الأمة، بل إن الصليبيين -كما أشرنا قبل ذلك- أشد خطرًا على الإسلام من التتار؛ لأن حرب التتار حرب همجية ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، فهي لمجرد التدمير، لا لشيء غير التدمير، أما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حربًا عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم لحرب الإسلام نفسه، بينما كان التتار يحاربون أي بشر وأي حضارة، والمشروع الصليبي يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمة الأصلية سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش! الجيوش التترية ليس لها -مستقبلًا- إلا المغادرة لا محالة، أما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان.. فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، وكونهم يحاربون ليستوطنوا في البلاد، وليعيشوا فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية أشد فتكًا وأكثر تدميرًا من حروب الصليبيين، وكلاهما مُرّ.. فقطز يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولا بُدَّ أن يوضع هذا في الحسبان.

ثانيًا: تاريخ التعاون الصليبي مع التتار قديم ومعروف، فهم الذين رغّبوا التتار أصلًا في بلاد المسلمين من أيام جنكيزخان، وهم الذين ساعدوا هولاكو على إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالُف التتار مع الأرمن والكُرْج وأنطاكية ببعيد.. فوارد جدًّا أن يصل التتار إلى تحالف إستراتيجي خطِر مع الصليبيين في عكا.

ثالثًا: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، فإن قطز كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار -أيضًا- كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط بل يخافون منهم كذلك.. فالتتار لا عهد لهم أبدًا.. ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوربا وفي روسيا لا تُنسى، وأعداد النصارى الذين قُتلوا على أيدي التتار لا تحصى، كما أن نهب إماراتي صيدا وبيروت على يد التتار لم يمضِ عليه إلا شهور قليلة.. هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو؛ لأنه فرض بطريركًا أرثوذكسيًا يونانيًا على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية، وذلك في سابقة لم تحدث قبل ذلك قط، والجميع يعلم العداء المستحكم بين الأرثوذكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جدًّا، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلًا أن يحدث معهم في عكا.. فكل هذه الخلفيات تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد.

رابعًا: الصليبيون في ذلك الوقت -في سنة 658 هجرية- يعانون من ضعف شديد، فمنذ هزيمة المنصورة سنة 648 هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي.. منذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر.. فإذا أضفنا إلى كل ما سبق تحرير بيت المقدس قبل ذلك في سنة 643 هجرية على يد الصالح أيوب يتضح الوضع الحقيقي للصليبيين الآن.. فكل هذه التداعيات أدّت إلى هبوط كبير في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا.. ومن هنا فقطز يعلم أنه يتعامل مع عدو شديد الكراهية، ولكنه ليس شديد القوَّة.

خامسًا: إمارة عكا إمارة حصينة جدًّا جدًّا.. بل هي أحصن مدينة على الإطلاق في كل الشام وفلسطين، واستولى عليها النصارى سنة 492 هجرية، أي منذ مائة وست وستين سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون (بمن فيهم صلاح الدين الأيوبي) يفشلون دائمًا في فتحها، ولا شك أن قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جدًّا، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها.

إذن خلاصة هذه الأمور أن الصليبيين أعداء المسلمين كما أن التتار أعداؤهم، وتحالف الصليبيين في عكا مع التتار أمر وارد، وإن كان الصليبيون في عكا يكرهون التتار ويخافون منهم، والصليبيون في أشد حالات ضعفهم الإعدادي والمعنوي، وإن كانت مدينتهم عكا ما زالت أحصن مدن الشام وفلسطين.

في ضوء هذه المعطيات وجد قطز أن قتال الصليبيين في عكا سيؤثّر سلبًا على جيشه.. نعم الهدف العام والنهائي لقطز هو تحرير كل البلاد الإسلامية من أي احتلال سواء كان تتريًا أم صليبيًا، لكن الهدف المرحلي الآن هو قتال التتار، وحصار المدينة الحصينة عكا وقتال حاميتها سيضعف جيش المسلمين، وسيضيع عليهم وقتًا، وسيبدد طاقاتهم، وسيرهق جيشهم قبل الموقعة الكبيرة مع التتار.

لكن قطز -في الوقت نفسه- لا يستطيع أن يحارب التتار في فلسطين دون الانتهاء من مشكلة الصليبيين في عكا، فلو حدث تعاون (صليبي - تتري) فإن هذا سيضع الجيش المسلم بين شقي الرحى.. بين التتار من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى.
ومن ثم وجد قطز أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالف الصليبيون مع التتار.
وأسرع قطز بإرسال سفارة إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين[1]. ولو وُفق الوفد المسلم في هذه الهدنة فإن هذا سيحيّد جيش الصليبيين من جهة، وسيُؤمّن ظهر الجيش المسلم من ناحية أخرى.

وبالفعل جلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، وكان الصليبيون من الضعف بحيث إنهم خافوا ألا يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون، ولذلك فقد تقبلوا فكرة الهدنة بسرعة، بل أن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار، غير أن هذه الفكرة لم تلق موافقة من كلا الطرفين.. فبقية أمراء الصليبيين كانوا يخشون من الخروج من عكا بجيشهم فيدخل المسلمون عكا إذا انتصروا على التتار، كما أن المسلمين كانوا لا يضمنون خيانة الصليبيين أثناء القتال، وخاصة أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك وأمراء النصارى (ملك أرمينيا وملك الكُرْج وأمير أنطاكية)، كما أن قائد التتار الحالي نصراني وهو كتبغا.

لذلك قبل الطرفان بفكرة الهدنة المؤقتة، وأصر الوفد المسلم على أن تكون هذه الهدنة مؤقتة تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعًا أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب للأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض واستيطانها، واذكروا أن الصليبيين يعيشون الآن في عكا منذ مائة وست وستين سنة، أي أن هناك أجيالًا كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز قط بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة.

ولكن لأن قطز يعلم أن هؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإنه أخذ حذره عن طريق الترهيب والترغيب مع الصليبيين.. فقد حذرهم الوفد المسلم بشدة من أنه إذا حدثت أي خيانة للعهد، فإن المسلمين سيتركون التتار وينقلبون على الصليبيين، ولن يتركوهم حتى يحرروا عكا[2]، وهكذا فالمعاهدة من منطلق القوَّة والبأس تختلف كثيرًا عن المعاهدة من منطلق الضعف والخَوَر.. القوي دائمًا يملي شروطه، والضعيف يتلقى شروط الآخر، ولذلك فإذا عاهد المسلمون قومًا آخرين سواء كانوا تتارًا أو صليبيين أو يهودًا فإنهم لا بُدَّ أن يملكوا وسيلة العقاب للطرف الآخر إذا خالف المعاهدة أو نقض بندًا من بنودها، وإلا فلا معنى للمعاهدة، لأنهم حتمًا سيخالفون إذا وجدوا فرصة.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[البقرة: 100].

كان هذا هو جانب الترهيب.. أما الترغيب فإن قطز قد وعدهم أنه في حالة الانتصار على جيش التتار، فإنهم سيبيعون خيول المغول لأهل عكا بأسعار مخفضة.. وهذا إغراء كبير، وذلك لحاجة الناس والأمراء والجيوش الشديدة للخيول.. وخيول التتار مشهورة بالقوَّة.
هذا وقد اتفق قطز -أيضًا- مع الصليبيين في عكا أن يسهموا في إمداد الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء تواجده في فلسطين ووافق الصليبيون على ذلك.
وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمنًا، وبدأ قطز يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعدادًا للانطلاق.
ولنتابع ذلك في المقال التالي إن شاء الله
[1] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص119.
[2] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص119.


د. راغب السرجاني