المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عودة جلال الدين وصراع الحكم


المراقب العام
31-08-2016, 10:48 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/07/28/5awarezm.gif

مـا كُــلُّ مــا يَتَمَنَّــى المَـــرءُ يُدرِكُه
تجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ

لعل هذا البيت يصدق وصفًا لهذا الحدث، لكن أصدق منه قول الشاعر:

تَجْرِي الرِّيَاحُ كَمَا تَجْرِي سَفِينَتُنَا
نَحْنُ الرِّيَاحُ وَنَحْنُ الْبَحْرُ وَالسُّفُنُ

في سنتي (621، 622هـ) خفَّت القبضة التترية على غرب الدولة الخُوارِزمية (غرب وشمال إيران)، واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتمُّوا بتوطيد ملكهم وتثبيت أقدامهم في شرق الدولة الخُوارِزمية في مناطق نهري سيحون وجيحون، وفي شمال أفغانستان وشرق إيران.

ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين؛ إذ ظهر على مسرح الأحداث فجأة الأمير «جلال الدين بن محمد بن خُوارِزم»، والذي كان قد فرَّ قبل ذلك إلى الهند[1] منذ خمس سنوات (في سنة 617هـ)، وذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك الهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبيًّا، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك، وترك زعيمًا غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، وتم ذلك في سنة 621 هجرية كما أشرنا من قبلُ.

وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم للبحث عن المُلك الضائع، ولكنه للأسف لم يُدَقِّق النظرة، ولم يُشَخِّص المرض الذي أصاب الأُمَّة الإسلامية في ذلك الوقت، ولم يُدرك أنه الفُرقة والتشتُّت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين؛ كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أُمَّة الإسلام.

لم يُدرك جلال الدين هذه الأمور؛ ومن ثَمَّ فإنه بدلاً من أن يبذل مجهودًا لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خُوارِزم وهو يُجَهِّز نفسه ليكون طرفًا جديدًا في الصراع الإسلامي/ الإسلامي!

ماذا فعل جلال الدين؟!

عبر نهر السند ودخل إقليم كَرْمَان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى «سعد الدين بن دكلا» وتحالف معه ضدَّ أخيه غياث الدين[2]!

وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محاربًا أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريبًا من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خُوارِزم والخلافة العباسية متوتِّرة جدًّا، ووجد جلال الدين في نفسه قوَّة، ووجد في الخلافة ضعفًا؛ فأعلن الحرب على الخلافة العباسية، (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!) ولا عجب؛ فقد كان جُلُّ الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي، الذي أشرنا إليه من قبل، وتوجَّه جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدَّة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمرَّ قريبًا من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصَّن المدينة وجهَّز الجيوش لدفع جلال الدين[3]، ولكن لم يكتفِ بذلك؛ بل ارتكب فعلاً شنيعًا مقزِّزًا، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين[4]!

سبحان الله!

أيأتي بالتتار وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين ليحاربوا جلال الدين؟! حتى لو كان الظلم كل الظلم في جانب جلال الدين، والحقُّ كل الحقِّ في جانب الخليفة.. أيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين؛ فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟!

ماذا أردت يا خليفة المسلمين؟!

أردت أن تُطيل فترة ملكك أعوامًا قليلة؟!

أردتَ أن تموت عبدًا للتتار بدلاً من أن تكون عبدًا لجلال الدين؟!

ليس هذا -بالطبع- دِفاعًا عن جلال الدين؛ بل نلومه أشدَّ اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجَعْل بأسهم بينهم، وما أشبهه بصدام حسين[5]! فكما ترك جلال الدين نيران التتار تبتلع ديار المسلمين، وانصرف لحرب الدولة العباسية، كذلك فعل صدام يوم كانت أطماع الغرب والشرق تحدق بالأُمَّة في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكشمير.. فأعرض عن كل ذلك وغزا الكويت!

وعلى الرغم من كل هذا التدنِّي في الأخلاق وفي السياسة؛ فإن الحلَّ لا يكون أبدًا أن نأتي بقوَّة كافرة مهولة مروعة؛ لنزرعها داخل بلاد المسلمين تحلُّ لهم مشاكلهم، وتعالج لهم أمراضهم.

لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ كان كمن بغته لصٌّ صغير في بيته، فأسرع بالاستنجاد بأكبر لصوص المنطقة، فجاء اللصُّ الكبير وأزاح اللصَّ الصغير، ثم سرق هو البيت؛ بل ولم يكتفِ بذلك بل سرق البيوت المجاورة، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم!

ومع استعانة الخليفة بالتتار، فإن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم على المناطق الشاسعة التي احتلُّوها، فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال؛ إلاَّ في أواخر سنة 622 هجرية، واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أَذْرَبِيجَان وما حولها من أقاليم إسلامية.

http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/07/28/7.gif

وكانت حروبه -هو والخُوارِزمية الذين معه- حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب؛ وكأنه تعلَّم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه، بدلاً من أن يتعلَّم كيف يرحم الذين عُذِّبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار.

ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكُرْج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحًا مؤقَّتًا، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر.

وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة فإنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، إضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه؛ بمن فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله؛ وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خُوارِزم -وتحدَّثْنَا عنها من قبل- ولم تأتِ إلا بالويلات على الأمة، وليت المسلمون يفقهون!

وفي آخر سنة 622 هجرية تُوُفِّي الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عامًا متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفَّف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة؛ وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه؛ وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضدَّ المسلمين[6].

أحداث سنتي 623 و624 الهجريتين:
تولَّى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله[7] الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تمامًا؛ فقد كان رجلاً صالحًا تقيًّا؛ أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل؛ لدرجة أن ابن الأثير قال: «إنه لو قيل: إنه لم يَلِ الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا»[8]. فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدَّق على الفقراء[9]، حتى قيل في حقه: إنه كان غريبًا في هذا الزمان الفاسد.

ولقد قال فيه ابن الأثير -وكان معاصرًا له- كلمة عجيبة؛ لقد قال: «إني أخاف أن تقصر مدَّة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقُّون خلافته!»[10]. إلى هذا الحدِّ كان المجتمع فاسدًا؟!

وسبحان الله!

لقد صدق حدس ابن الأثير، وتُوُفِّيَ الخليفة الظاهر بأمر الله سريعًا! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة أشهر وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رَخُصَت الأسعار جدًّا في فترة حكمه، وتحسَّن الاقتصاد في العراق. وهي إشارات لا تخفى على عاقل، والحمد لله الذي وضع في الأرض سننًا لا تتبدَّل ولا تتغيَّر! فهل من مُدَّكر؟!

وتولَّى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله[11]، والذي ظلَّ في كرسي الحكم حتى (سنة 640هـ) أي حوالي: سبعة عشر عامًا؛ وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمرُّ في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار؛ ولكن مع المسلمين! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل «خلاط» أو «أخلاط»، وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقًا كثيرًا، وامتدَّت أيدي الجنود الخُوارِزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب؛ حتى سبوا الحريم المسلمات[12]!

والحقُّ أني لا أجد تفسيرًا منطقيًّا لهذا التردِّي في الأخلاق، والتردِّي في الفهم، والتردِّي في السياسة، والتردِّي في الحكمة! ولولا أن هذا مسجَّل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم!

ثم حدث أمر مهمٌّ جدًّا ومحوريٌّ في سنة 624 هجرية؛ وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة[13]، ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب؛ بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم (ومعظمهم من المسلمين!)؛ ولكن اللوم كل اللوم على مَنْ وصل إلى حالة من الضعف مكَّنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء.

وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبيًّا في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريبًا، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين، وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حقٌّ له.

الفترة من سنة 624 هجرية إلى 627 هجرية:
هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيزخان، فقد تولَّى قيادة التتار الزعيم الجديد «أوكيتاي»، وأخذ يُنَظِّم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين.

أين كان المسلمون في هذه الفترة؟!

لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق؛ لم يستغلّ المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان؛ ليجمعوا صفَّهم ويُحَرِّرُوا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم البعض، وبظلم بعضهم بعضًا؛ فقد تجدَّدت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه.

ليس هذا فقط؛ بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين؛ فالحروب بين أمراء المسلمين في الشام ومصر كانت مستمرَّة، ولم تتحد كلمتهم قطُّ، مع أن معظمهم من العائلة الأيوبية نفسها، بل وأحيانًا من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مُرِيع في سنة 626 هجرية، وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرَّره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحًا! أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين!

نعوذ بالله من الضعف بعد القوَّة، ومن الذلَّة بعد العزَّة، ومن الخذلان بعد النصر!

ثم إن جلال الدين استمرَّ في حروبه البشعة في المنطقة، وكان مما فعل أن حاصر مدينة «خلاط» مرَّة ثانية بعد أن تمرَّدت عليه، وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران! ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترقَّ الأولاد ثم باع الجميع! وكما يقول ابن الأثير: «إن هذا ما لم يُسمع بمثله، لا جَرَمَ أن الله عز وجل لن يُمهله!»[14].

سنة 628 هجرية:
استقر مُلك التتار في منغوليا، بدأ «أوكيتاي» يُفَكِّر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، فكلف أحدَ أبرز قادته بالقيام بمهمَّة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد «شورماجان»، الذي جمع جيشًا هائلاً من التتر، وتقدَّم صوب العالم الإسلامي من جديد[15].

اجتاحت جيوش التتار البلاد الإسلامية اجتياحًا بشعًا، وقد وصل إلى عِلْمِها أن جلال الدين قد ضعف جدًّا في هذه السنة؛ لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية -وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس- قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه.

وجاءت جحافل التتار ودمَّرت في طريقها كل ما يُمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خُوارِزم، والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شرَّ هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزَّق جيشه، وإذا به يَلقَى المصير نفسه الذي لقيه أبوه منذ أحد عشر عامًا؛ فهو يفرُّ من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى أخرى، والتتار خلفه يقتلون ويسبون وينهبون، حتى وصل جلال الدين إلى أرض الجزيرة بشمال العراق حيث تفرَّق عنه جنوده أجمعون؛ وبقي وحيدًا شريدًا طريدًا -كما حدث مع أبيه تمامًا- وأخذ يتنقَّل بمفرده بين القرى فِرارًا من التتار، واختفى ذِكره من البلاد شهورًا متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر؟!

ثم وصل إلى إحدى القرى، حيث استقبله فلاح من الأكراد، وسأله: مَنْ أنت؟ وقد تعَّجب الفلاح من كثرة الجواهر والذهب الذي عليه، فقال له جلال الدين: أنا ملك الخُوارِزمية! يقول ذلك ليُلقي الرهبة في قلب الفلاح، ولَكِنْ -سبحان الله!- كان ذلك الإعلان ليَقضي اللهُ أمرًا كان مفعولاً؛ فقد كانت جنود الخُوارِزمية قتلت أخًا لهذا الفلاح! فلمَّا علم الفلاح بأن هذا هو جلال الدين استقبله وأكرمه وقدَّم له الطعام، حتى اطمأنَّ له جلال الدين فنام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلَّمَهَا إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين.

هكذا كانت نهاية الظالمين، ونهاية المفرِّطين! ونهاية الذين تملَّكُوا رقاب العباد فما رعوا لله حقًّا، وما رعوا للرعية حقًّا، وما رعوا للرحم حقًّا، وعاشوا لأنفسهم فقط، وصدق القائل: «ما استحقَّ أن يُولد من عاش لنفسه فقط».

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ.. ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود: 102] .

وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، نُدرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها؛ ولا جرم أن هذه سنة مطردة في الكون؛ فإنه مَنْ كانت هذه حاله فلا بُدَّ أن يُسَلَّط عليه طواغيت الأرض؛ فالله عز وجل لا ينصر إلا مَنْ ينصره: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}[آل عمران: 160].

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/388.
[2] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 3/134.
[3] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 5/144.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/125.
[5] صدام حسين (1937م-2006م): وُلد صدام حسين في 28 أبريل 1937م بقرية العوجة بالقرب من مدينة تكريت شمال غرب بغداد، وتلقى تربيته على يد أمه صبحة، وزوجها وخاله خير الله طلفاح، الذي كان ذا توجُّه قومي، وفي 16 يونيو 1979م انتقلت السلطة إلى صدام حسين، الذي انتخب رئيسًا للجمهورية، وأمينًا عامًّا لحزب البعث العراقي، وقائدًا لمجلس قياة الثورة، بعد أن جرى الإعلان رسميًّا عن تقديم رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر استقالته، أُعدم في 30 ديسمبر 2006م.
[6] ابن كثير: البداية والنهاية 13/125.
[7] الظاهر بأمر الله (571 - 623 هـ): محمد بن أحمد، أبو نصر، الظاهر ابن الناصر ابن المستضيء العباسي، من خلفاء الدولة العباسية في العراق، بويع بعد وفاة أبيه (سنة 622 هـ) وحمدت أيامه، وذلك على قصرها، قال ابن كثير: كان من أجود بني العباس، وأحسنهم سيرة وسريرة، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحًا كثيرًا على يديه.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/401.
[9] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص324.
[10] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/ 414.
[11] الخليفة المستنصر بالله (ت329هـ): توفي يوم الجمعة 10 من جمادى الآخرة 329هـ، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام كان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الأربعين فيُشترين له فيعتقهن، ويجهزهن ويزوجهن.
[12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/439.
[13] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 137.
[14] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/439.
[15] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص95.


د.راغب السرجاني