المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحزيب الأحزاب لحصار بغداد


المراقب العام
06-09-2016, 06:41 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/07/29/%D8%AA%D8%AD%D8%B2%D9%8A%D8%A8.gif

قال الله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب: 20].

وكأن الآية تتنزل من جديد، لتصف منافقين آخرين ينظرون إلى أحزابٍ تتحالف على الدولة الإسلامية مجددًا من دون أن يكون لهم رد فعل، وإن كان لهم كل الفعل في تقويتهم.

عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسة، وبصورة متناسقة؛ لتزيد فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وإسقاط عصمتها بغداد، وكل هذا قبل تحريك الجيوش والنزول الفعلي إلى ساحة المعركة، وقد تكلمنا – في مقال خطة هولاكو لهدم الخلافة - عن محورين من أربعة المحاور هما:

- إعداد الطرق الموصلة إلى بغداد.

- وإشعال الحرب النفسية في صدور المسلمين.

وفي هذا المقال نضيف إليهم المحورين الآخرين وهما من الخطورة والغرابة بمكان.

المحور الثالث: الاستعداد السياسي والدبلوماسي:
بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة؛ وذلك لضمان نجاح المهمَّة الكبيرة، وهذا تغيُّر كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفًا ولا دبلوماسية.

ولما كانت هذه نقطة تحوُّل في السياسة التترية، وفي الوقت ذاته كانت هذه الأحلاف في منتهى الخطورة؛ فقد تكفَّل بالقيام بهذه المعاهدات الخاقان الكبير «منكوخان» شخصيًّا، ولم يترك فيها حرية التصرُّف «لهولاكو»، وإن كان هولاكو من أكثر الناس الذين يعتبر برأيهم في هذا المجال.

1- استقبل «منكوخان» زعيم التتار سفارة صليبية أُرسلت في سنة 651 هجرية من قِبَل «لويس التاسع» ملك فرنسا[1]، الذي ما يئس من إمكانية التعاون مع التتار، وكان بالطبع يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين لهزيمته في موقعة المنصورة سنة 648 هجرية، (منذ ثلاث سنوات فقط)، وكان يتزعَّم السفارة راهب دومينيكاني اسمه «وليم روبروك»، ومَثُل فعلاً بين يدي «منكوخان»، وبدأت المفاوضات للتعاون، ولكن سرعان ما فشلت هذه المفاوضات، والسبب أن «منكوخان» كان رجلاً صريحًا للغاية؛ فلم يكن دبلوماسيًّا بما يكفي لإبرام معاهدات أو عقد أحلاف، ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، ولم يكن يعرف الطرق الغربية الملتوية، وتنميق الألفاظ، واختيار العبارات، والحصول على ما تُريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه يُفَرِّط، ولم يكن يعرف شيئًا عن النفاق الأوربي، أو عن الابتسامة الأوربية التي تُخفي وراءها كل الحقد، لم يكن يعرف كل ذلك؛ إنما كان رجلاً سهلًا واضحًا، مباشرًا في كلامه، محددًا في رغباته[2].

لقد قال «منكوخان» في بداية مفاوضاته: إنه لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه[3]! وإنه لا يعرف كلمة «صديق» إنما يعرف كلمة «تابع»! فأصدقاؤه هم مَنْ يتبعونه، ويُعلنون الولاء له والطاعة، وأعداؤه هم الذين يُحاربونه، أو الذين لا يقبلون طاعته، وهؤلاء ليست بينه وبينهم مفاوضات، إنما لهم السيف والإبادة.

سياسة «القطب الواحد» في العالم!

يُقَسِّم العالم إلى دولة «صديقة» أي: تابعة، ودولة «مارقة» أي: معادية!

وبالطبع رفض ملك فرنسا أن يتحالف على أساس هذا الشرط؛ ومن ثَمَّ فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوربا[4].

2- وإذا كان نصارى غرب أوربا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع «منكوخان» على أساس التبعية؛ فهناك من الملوك الآخرين مَنْ يقبل بذلك، ويعتبره نوعًا من الواقعية.

لقد فكر «هيثوم» ملك أرمينيا النصرانية في التحالف مع التتار على أساس التبعية كما يُريد «منكوخان»؛ فملك أرمينيا يعلم قوَّة التتار؛ فبلاده قد دُمِّرت من قَبْلُ على أيديهم في عهد جنكيزخان، ثم في عهد أوكيتاي، كما يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة، لا تُقارن بأي حال من الأحوال مع دولة التتار؛ فمساحة أرمينيا أقل من 30 ألف كيلومتر مربع، ويعلم ملك أرمينيا -أخيرًا- أنه محصور بين قوَّات التتار من جهة، وقوَّات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جدًّا بينه وبين المسلمين، وهو يتحرَّق شوقًا لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيُرغم عليها غدًا، وساعتها سيفقد ملكه بلا ثمن.

كل هذا دفع «هيثوم» ملك أرمينيا أن يذهب بنفسه لمقابلة «منكوخان» في قراقورم عاصمة المغول، ويبدو أن منكوخان قد بدأ يتعلَّم طرق السياسة، وبدأ يتعلَّم الاعتماد على المظاهر والكلمات المنمَّقة المختارة؛ فقد أقام «منكوخان» احتفالاً كبيرًا، واستقبالاً رسميًّا مهيبًا «لهيثوم» ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع، وإن كانت كل بنود الاتفاق بينهما لا تصلح إلا بين سيد وتابع، لا ملك وملك.

فبعد الاستقبال الحافل لملك أرمينيا (الذي قَدَّم نفسه على أنه من رعايا «منكوخان») بدأ منكوخان يُعطي وعودًا كبيرة وهدايا عظيمة إلى هذا الملك، وهو يشتري بذلك ولاءه وتبعيته؛ فماذا أعطاه «منكوخان»؟

لقد أعطاه ما يلي:

1- ضمان سلامة الممتلكات الشخصية للملك «هيثوم».

2- إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب.

3- مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون منهم خلال الحروب التي دارت بينهم.

4- اعتبار ملك أرمينيا كبير مستشاري الخاقان الكبير «منكوخان»؛ وذلك فيما يختصُّ بشئون غرب آسيا[5].

وهكذا سعد ملك أرمينيا «هيثوم» بقربه من ملك التتار.

ولكن يجب أن نتساءل:

في مقابل ماذا كان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني؟!

إن الناظر للقوى العسكرية في ذلك الوقت يجد أن القوَّة العسكرية لأرمينيا لا تُقارن بالمرَّة بقوَّة التتار، وقد لا تُضيف إليها عددًا مؤثِّرًا؛ فلماذا يتواضع ملك التتار ويعقد معاهدة مع ملك أرمينيا؟

الناظر والمحلِّل لهذا الحدث يجد ما يلي:

أولاً:
ملك التتار سيستفيد من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين؛ فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة، وقد فهم الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، ولا شكَّ أن المعلومات الصادقة التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في حرب المسلمين، (تمامًا كما تحالفت أميركا القوية مع إنجلترا الضعيفة فقط لأن عندها خِبرة بأرض المسلمين، بالتحديد أرض العراق).

ثانيًا:
سيحتاج ملك التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، فإذا كان المدير من أهل البلد، وله ولاء ووفاء له فهو أفضل من الإدارة الخارجية، وأقدر على التحكُّم في الموقف، وأقوى على تهدئة غضب الشعوب.

ثالثًا:
بهذه الخطوة يفتح ملك التتار «منكوخان» باب المعاملات مع النصارى من جديد؛ الذين قد يحتاجهم بعد ذلك عند استكمال فتوحاته في داخل الشام ومصر، وقد يحتاج إلى ملك أرمينيا في استئناف المفاوضات مع ملوك أوربا، هذا إضافة إلى أنه يعلم أن في قلوب النصارى كراهية شديدة للتتار؛ وذلك بسبب المذابح البشعة التي قام بها التتار في روسيا وشرق أوربا؛ وقد تكون فرصة المعاهدة مع ملك أرمينيا داعية إلى شيء من التعاون لرعاية المصالح المشتركة.

رابعًا:
الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي عند المسلمين؛ فالحرب مع التتار شيء، والحرب مع قوَّات «التحالف» شيء آخر! نعم القوَّات المتحالفة مع التتار لا تمثِّل شيئًا يُذكر في الجيش التتري؛ ولكن كلمة «التحالف» لها وقع خاص في نفوس الناس.

خامسًا:
قد تُوكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهامِّ الخطِرة، التي قد يرغب ملك التتار في تجنُّبها؛ وبذلك تكون الخسارة البشرية في جانب الأرمن بدلاً من التتار.

وهكذا فالناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار والأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئًا مطلقًا، وأن المفاوضات بين سيد يملك كل شيء، وبين تابع لا يملك أي شيء، وهكذا يفعل الزعماء الكبار في العالم؛ فإنهم يعقدون معاهدات مع ملوك صغار لا يحملون من صفات الملك إلا الاسم فقط، ويوكلون إليهم القيام بمهامَّ كثيرة، ولا يكون المقابل أكثر من السماح لهم بمجرَّد العيش إلى جوارهم في الأرض، مع إمكانية منحهم بعض الألقاب الفخرية مثل: «كبير مستشاري ملك التتار لشئون غرب آسيا» أو لقب: «الملك الصديق»، أو «الدولة الصديقة»، أو «العلاقات الحميمة بين البلدين»، أو «فخامة الرئيس»، أو «جلالة الملك».

مجرَّد ألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع الحقيقي أن القوَّة التي بيد التتار هي التي فرضت بنود المعاهدة، وهذا يحدث ويتكرَّر في كل الأزمان والأمكنة؛ فالحقوق لا تُحمى إلاَّ بالقوَّة.

وهكذا عاد ملك أرمينيا «هيثوم» منتشيًا بمعاهدته، فخورًا بعلاقته مع ملك التتار، مُعَظَّمًا في شعبه؛ لأنه استطاع بسياسته التي يُسَمُّونها «حكيمة» أن يُجَنِّب مملكته ويلات الحروب!

3- كان من رغبات «منكوخان» -أيضًا- أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، وكان لهم أكثر من مملكة في أنطاكية وطَرَابُلُس وصيدا وحيفا وعكا؛ وذلك ليشغلوا المسلمين في منطقة الشام فلا يُدافعون عن الخلافة العباسية إذا هوجمت.

ولتشجيع هؤلاء الأمراء الصليبيين؛ فقد أوصل لهم ملك التتار طلب التحالف مع «صديقه» الجديد ملك أرمينيا، الذي بدأ يقوم بدور السفير التتري في هذه المنطقة؛ ولزيادة التشجيع فإن ملك التتار وعد الأمراء الصليبيين في الشام بأن يُعطيهم بيت المقدس«هدية» لهم في حال اتفاقهم معه، (وكان بيت المقدس قد حُرِّر مرَّة ثانية على يد الملك الصالح أيوب سنة 643 هجرية بعد أن أهداه أمراء الشام الأيوبيون إلى الصليبيين سنة 626هـ)؛ وكأن منكوخان يملك بيت المقدس، وله الحقُّ في إهدائه! وهكذا وعد مَنْ لا يملك بإعطاء مَنْ لا يستحق.. والتاريخ يتكرَّر بحذافيره!

ومع كل هذا التشجيع؛ فإن أمراء الممالك الصليبية بالشام تردَّدُوا كثيرًا في قبول هذه الاتفاقيات، باستثناء أمير أنطاكية «بوهيموند السادس» الذي استحسن هذا الأمر، وانضمَّ فعلاً إلى ملك التتار.

أمَّا لماذا لم يستحسن بقية الأمراء الصليبيين في الشام هذه الفكرة؟ فذلك لأنهم:

أولاً:
يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، أو يُضَحُّون بهم في مقابل أي شيء، أو ربما دون مقابل.

وثانيًا:
لأنهم في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار، بل لعلَّها خطورة أقرب؛ ومن ثَمَّ لم يتحمَّس هؤلاء الأمراء للتحالف المعلن مع التتار، وإن كانوا لم يرفضوا الأمر صراحة، وتعاملوا مع الطلب بالطريقة السياسية النفاقية المعروفة، مع شيء من الابتسامة وبعض كلمات التبجيل، واختاروا أن يقفوا على الحياد بصورة مؤقَّتة إلى أن ترجح إحدى الكفتين: التتارية أو الإسلامية، وهنا سوف يُسارعون إلى الفئة المنتصرة: يُصافحون ويُباركون ويُهَنِّئون ويُؤَيِّدون.. ويعتذرون أنه لولا «الظروف القاسية» التي كانت تمرُّ بها بلادهم لهان عليهم كل شيء في سبيل راحة المنتصر.. وهذا ما يُسميه البعض «سياسة»!

4- سعى «منكوخان» -أيضًا- إلى عقد بعض الاتفاقات مع نصارى الشام والعراق، وهؤلاء ليسوا من الأمراء أو الملوك، ولكنهم من النصارى الذين يعيشون في كنف الإمارات الإسلامية في الشام، أو في الخلافة العباسية في العراق؛ وهذه بالطبع لم تكن اتفاقات رسمية ولا معلنة، وإنما كانت اتفاقات سرية مع بعض رءوس النصارى، ومع بعض القساوسة؛ وذلك لتسهيل مهمَّة دخول التتار إلى هذه البلاد، ولنقل الأخبار من وإلى التتار، وقد نجح «منكوخان» فعلاً في الوصول إلى عدد كبير من هؤلاء النصارى، وعلى رأسهم بطريرك بغداد شخصيًّا، وكان اسمه «ماكيكا»، وكان عاملاً مساعدًا مهمًّا في دخول بغداد.

5- عقد «منكوخان» -أيضًا- معاهدات مع مملكة الكُرْج النصرانية (في جورجيا الآن)، ومع أن تاريخ التتار مع مملكة الكُرْج كان تاريخًا أسود؛ فإن تاريخ الكُرْج مع المسلمين لم يكن أقلَّ سوادًا؛ ومن ثَمَّ فضَّل نصارى الكُرْج التعاون مع عدوِّهم الجديد التتار ضدَّ عدوِّهم القديم المسلمين؛ وذلك لأمرين؛ الأول: هو أن التتار لهم القوَّة الأعلى، ويغلب على الظنِّ جدًّا أن ينتصروا. وثانيًا: لأن الحرب بين النصارى والمسلمين حرب عقائديَّة أبديَّة -كما ذكرنا من قبلُ- والكراهية أصيلة بين الطرفين، ولا تغيُّر في العقيدة؛ ولذلك لا تغيُّر في الكراهية، وغياب الكراهية لن يكون إلا بغياب العقيدة؛ قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة: 217].

أمَّا الحرب مع التتار فهي حرب مصالح؛ فإذا تعارضت المصالح حدثت الحرب، وإذا اتفقت المصالح حدث الوئام والألفة والصداقة، وإذا اتفقت مصالح مملكة الكُرْج النصرانية مع مصالح التتار الوثنية، فلا مانع من السير معًا في طريق واحد، وهذا -أيضًا- مما يسمونه: «سياسة»!

6- وإذا كانت كل هذه المفاوضات والمعاهدات في كفة؛ فالمفاوضات التي سأذكرها الآن في كفة أخرى؛ ليس لأهميتها فقط ولكن لغرابتها، أو قل: لبشاعتها!

فهذه المعاهدات عُقدت مع بعض «أمراء المسلمين» لتسهيل ضرب «بلاد المسلمين»!

ولَمْ يعقد «منكوخان» هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جدًّا بهؤلاء الأمراء؛ فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يُسَمِّي نفسه أميرًا، بل ويُلَقِّب نفسه بالألقاب الفاخرة؛ مثل: المعظم، والأشرف، والعزيز، والسعيد.. وغير ذلك.

وكَّل «منكوخان» أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية؛ فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يُسارعون في موالاة ومعاونة التتار الأقوياء.. {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 52].

فجاء إلى هولاكو «بدر الدين لؤلؤ[6]» أمير الموصل ليتحالف معه[7].

وجاء سلطانَا السلاجقة؛ وهما «كيكاوس الثاني»، و«قلج أرسلان الرابع» ليتحالفا -أيضًا- مع هولاكو[8]، وكانا في مكان حساس جدًّا؛ فهما في شمال العراق (تركيا الآن)، وتحالفهما يُؤَدِّي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزيًا جدًّا إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!

ورضخ -أيضًا- «الناصر يوسف» أمير حلب ودمشق[9]، ومع كونه حفيد «الناصر صلاح الدين الأيوبي» ، بل شبيهه في الاسم واللقب؛ فإنه لم يكن يُشبهه في شيء من الأخلاق أو الروح، بل كان مهينًا إلى الدرجة التي أرسل ابنه «العزيز» لا ليُقَدِّم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه!

وكذلك جاء «الأشرف الأيوبي» أمير حمص ليُقَدِّم ولاءه لزعيم التتار[10].

لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة؛ فهي -إضافة إلى مهانتها وحقارتها- قد زادت جدًّا من قوَّة التتار، الذين أصبحوا يُحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدَّت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حكامها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وعُدِمَت الثقة في القادة؛ ومن ثَمَّ لم يَعُدْ لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار.

كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس!

7- ووصل هولاكو -أيضًا- في مجهوده السياسي والدبلوماسي إلى شخصية خطيرة في البلاط العباسي نفسه؛ فقد وصل إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة، وهو الوزير «مؤيد الدين العلقمي الشيعي[11]»[12]!

كان مؤيد الدين رجلاً فاسدًا خبيثًا رافضيًّا؛ (شيعيًّا يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ويسبهما هما وأمهات المؤمنين وعامَّة الصحابة)، وكان شديد التشيع؛ كارهًا للسُّنَّة ولأهل السُّنَّة، ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سُنِّيَّة تحمل اسم الخلافة، ولا شكَّ أن هذا كان قلَّة رأي، وضحالة فكر، وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الرفيع.

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ»[13].

وهذا الوزير ممن ينطبق عليهم وصف «بطانة السوء»، ولا يخفى على عاقل كيف يكون دور بطانة السوء في فساد البلاد، وهلاك العباد.

والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبقَ في مكانه شهرًا أو شهرين أو عامًا أو عامين! وإنما بقي في مكانه أربع عشرة سنة كاملة، من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية وقت سقوط بغداد، وإذا مرَّت كل هذه الفترة دون أن يُدرك الخليفة خطورته، فلا شكَّ أن هذا دليل واضح على خفَّة عقل الخليفة.

لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاًّ فساده وتشيعه وكراهيته للسُّنَّة، واتَّفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضلِّلة التي يُقَدِّمها للخليفة العباسي المستعصم بالله؛ وذلك في مقابل أن يكون له شأن في «مجلس الحكم» الذي سيُدير بغداد بعد سقوط الخلافة والتخلُّص من الخليفة، وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون؛ وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرَّت بالمنطقة في تلك الأوقات.

بالاطلاع على هذه الجهود الدبلوماسية، التي قام بها «منكوخان» و«هولاكو» يتبين أنهما بذلا جهدًا كبيرًا ضخمًا للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، والتي تهدف إلى أمر خَطِر لم يحدث قبل ذلك في الدنيا.. ولو مرَّة واحدة، وهو إسقاط عاصمة الخلافة الإسلامية.

وخلاصة الجهود الدبلوماسية التترية أنهم تعاونوا تعاونًا قويًّا مهمًّا مع ملوك أرمينيا والكُرْج وأنطاكية النصارى، وحيَّدُوا إلى حدٍّ كبير جانب حكام الإمارات الصليبية بالشام، وأقاموا تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالفوا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي. ولا شكَّ أن هذه الجهود الدبلوماسية كان لها دور ملموس في إنجاح الخطة التترية لإسقاط الخلافة الإسلامية.

ويجدر القول هنا: إن المسلمين بصفة عامَّة -إلاَّ مَنْ ندر- كانوا يُراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم، أو وهم يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمِّس من القيام أو الحركة، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

المحور الرابع: إضعاف جيوش الخلافة العباسية:
وقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد «مؤيد الدين العلقمي» أن يُقنع الخليفة العباسي «المستعصم بالله» أن يُخَفِّض من ميزانية الجيش[14]، وأن يُقَلِّل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب؛ بل يُحَوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة.. وغيرها، والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات وبناء الجسور.. وأعمال المخابز والنوادي! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!

وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يُستغرب من مثله، ولكن الذي يُستغرب فعلاً أن الخليفة قَبِلَ هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد؛ حتى لا يُثير حفيظة التتار، وليُثبت لهم أنه رجل سلام ولا يُريد الحروب! لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام -أيضًا- بتقليل عدد الجنود؛ حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله؛ وذلك في سنة 640 هجرية، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية[15]! وهذا يعني هبوطًا مروعًا في الإمكانيات العسكرية للخلافة، ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع؛ حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق! وأُهملت التدريبات العسكرية، وفَقَدَ قوَّاد الجيش أيَّ مكانة لهم، ولم يَعُدْ يُذكر من بينهم مَنْ له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد!

وهذه والله الخيانة الكبرى.. والجريمة العظمى!

ويُلقي ابن كثير : باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة المستعصم بالله، ولكني أُلقي باللوم الأكبر على الخليفة ذاته، الذي قَبِلَ بهذا الهوان، ورضي بهذا الذلِّ، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يُدافع عن ترابه وأرضه ضدَّ أيِّ غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه، وتسليح جنده، وأن يُرَبِّيَ الشعب بكامله -لا الجيش فقط- على حبِّ الجهاد والموت في سبيل الله عز وجل.

لم يفعل الخليفة المستعصم بالله كل ذلك، ولا عذر له عندي؛ فقد كان يملك من السلطان ما يجعله قادرًا على اتخاذ القرار؛ لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[1] محمود سعيد عمران: المغول وأوربا ص232.
[2] رنسيمان ص511 ، Rubruck: pp165- 186.
[3] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص75.
[4] المرجع السابق.
[5] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص78.
[6] بدر الدين لؤلؤ: صاحب الموصل، كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيًّا، اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي آقسنقر الأتابكي صاحب الموصل، وقد بلغ من العمر قريبًا من تسعين.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/248.
[8] ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 2/195.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 13/249.
[10] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 3/202.
[11] مؤيد الدين العلقمي [593 -656هـ]: هو محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمي، كان رافضيًّا خبيثًا رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفارَ، دفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحدُّ ولا يوصف.
[12] الذهبي: تاريخ الإسلام 48/38.
[13] البخاري: كتاب القدر، باب المعصوم من عصم الله [6611].
[14] كمال الدين أبو الفضل: الحوادث الجامعة ص154.
[15] ابن كثير: البداية والنهاية 13/234.



د.راغب السرجاني