المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اجتياح التتار للشام


المراقب العام
18-09-2016, 12:59 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/07/29/26.gif

انتهت قصة بغداد، وخرج التتار منها بعد أربعين يومًا من القتل والتدمير، وبدأ الجميع: التتار والمسلمون والنصارى يرتبون أوراقهم من جديد على ضوء النتائج التي تمت في بغداد.

أما هولاكو فقد انسحب من بغداد إلى هَمَذَان بفارس[1]، ثم توجه إلى قلعة «شها» على شاطئ بحيرة «أورمية»، (في الشمال الغربي لإيران الآن)، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين، ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال..

وبالطبع ترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية.. والخطوة التالية بعد العراق- لا شك- أنها ستكون الشام (سوريا ..) فبدأ هولاكو في دراسة الموقف في هذه المنطقة.

وبينما هو يقوم بهذه الدراسة، ويحدد نقاط الضعف والقوَّة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار.. وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار تطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع «الصديق» الجديد، رجل الحرب والسلام: هولاكو!

ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، فإن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو؛ فالفجوة -كما يقولون- شاسعة بينهم وبين هولاكو، والأفضل -في اعتباراتهم- أن يفوزوا بأي شيء أفضل من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه، ويأمنون شره.

{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}[النساء: 72].

لا شك أن هؤلاء الأمراء كانوا سعداء جدًّا بأنهم لم يشتركوا مع العباسيين في الدفاع عن بغداد، ولا شك أنهم كانوا يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب.. ولا شك أن خطبهم كانت قوية ونارية وحماسية!

{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}[المنافقون: 4].

ولا شك أنه كان هناك -أيضًا- من العلماء الوصوليين من يؤيدون خطواتهم، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباعهم، والرضى بأفعالهم.

ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة.. فيقولون لهم مثلًا: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين في صلح الحديبية، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟! ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟! وهكذا!

ثم إن التتار يريدون «السلام» معنا.. والله عز وجل يقول في كتابه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

والتتار جنحوا للسلم معنا!

أتريدون مخالفة شرعية؟!

أتريدون سفك الدماء؟!

أتريدون تخريب الديار؟!

أتريدون تدمير الاقتصاد؟!

إن الحكمة -كل الحكمة- ما فعله أميرنا بالتصالح والتعاهد والتحالف مع التتار.

لنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية!

سبحان الله!

{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 78].

جاء هؤلاء الأمراء وقلوبهم تدق، وأنفاسهم تتسارع.

هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟!

وجاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع «الصديق» هولاكو.

- الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.

- الأمير كيكاوس الثاني والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول (وسط وغرب تركيا).

- الأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص.

- الأمير الناصر يوسف (حفيد صلاح الدين الأيوبي) أمير حلب ودمشق.

وهؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا.. إذن لقد حُلت المشكلات أمام هولاكو.. لقد فتحت بلاد المسلمين أبوابها له دون أن يتكلف قتالًا.

لكن ظهرت مشكلتان أمام هولاكو:

أما المشكلة الأولى: فكانت في أحد الأمراء الأيوبيين الذي رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات سلام مع التتار، وقرر أن يجاهد التتار إلى النهاية، بالطبع اعتبره هولاكو رجلاً «إرهابيًا» يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا شك أن هولاكو قال: إنه يعلم أن هذا الرجل لا يمثل دين الإسلام؛ لأن الإسلام دين السماحة والرحمة والحب والسلام!

هذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظًا بمروءته وكرامته ودينه هو الأمير «الكامل محمد الأيوبي[2]» : أمير منطقة «ميافارقين».

و«ميافارقين» مدينة تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة «وان».. وكانت جيوش الكامل محمد تسيطر على شرق تركيا، إضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، أي أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق، وعلى الشمال الشرقي من سوريا.

فإذا وضعنا في حساباتنا أن هولاكو يريد أن يحتل سوريا، فإنه ليس أمامه إلا أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد، وعلى الرغم من خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، فإن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوَّة أصبح لازمًا، خاصةً أن مدينة ميافارقين مدينة حصينة، وتقع بين سلسلة جبال البحر الأسود.. كما أن الشعوب المسلمة قد تتعاطف مع «المتمرد» الكامل الأيوبي.

أما المشكلة الثانية: فهي مشكلة تافهة نسبيًا، وهي أن أولئك الأمراء المسلمين الذي رغبوا في التحالف مع هولاكو كانوا يبتغون البقاء في أماكنهم، يحكمون بلادهم حكمًا ذاتيًا، ولو تحت المظلة التترية، بينما كان هولاكو يرغب في السيطرة الكاملة على البلاد بطبيعة الحال، يعين من يشاء، ويعزل من يشاء، فهولاكو لا يرى أحدًا من سادة العالم إلى جواره، فما بالكم بهؤلاء الأمراء الأقزام؟!

لكن هولاكو بما عرف عنه من ذكاء كان يحسن ترتيب الأولويات، فأدرك أنه من المهم أن يقضي أولًا على حركة الكامل محمد الأيوبي، ثم يستكمل طريقه بعد ذلك إلى الشام، وهناك إذا اعترض واحد من هؤلاء الأقزام على ما يريده هولاكو، فإن التعامل معه سيكون يسيرًا.. بل في منتهى اليسر.

حصار «ميافارقين»:
بدأ هولاكو بالطرق السهلة وغير المكلفة، وحاول إرهاب «الكامل» وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد «الطائشة»، فأرسل إليه رسولًا يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، وإلى الدخول في زمرة غيره من الأمراء المسلمين.. وكان هولاكو ذكيًا جدًّا في اختيار الرسول، فهو لم يرسل رسولًا تتريًا، إنما أرسل رسولًا عربيًا نصرانيًا اسمه «قسيس يعقوبي»؛ فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وينقل له أخبار هولاكو وقوته وبأسه، وهو من ناحية أخرى نصراني، وذلك حتى يلفت نظر الكامل محمد إلى أن النصارى يتعاونون مع التتار، وهذا له بعد إستراتيجي مهم؛ لأنك لو نظرت إلى الموقع الجغرافي لإمارة ميافارقين في شرق تركيا لرأيت أن حدودها الشرقية تكون مع مملكة أرمينيا النصرانية والمتحالفة مع التتار، وحدودها الشمالية الشرقية مع مملكة الكُرْج (جورجيا) النصرانية والمتحالفة -أيضًا- مع التتار.

وهكذا أصبح الكامل محمد الأيوبي كالجزيرة الصغيرة المؤمنة في وسط خضم هائل من المنافقين والمشركين والعملاء.

* من الشرق أرمينيا النصرانية.

* من الشمال الشرقي الكُرْج النصرانية.

* من الجنوب الشرقي إمارة الموصل العميلة للتتار.

* من الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار.

* من الجنوب الغربي إمارة حلب العميلة للتتار.

وأصبح الموقف في غاية الخطورة!

ماذا فعل الكامل محمد مع الرسول النصراني من قبل هولاكو؟

لقد أمسك به، وقتله!

ومع أن الأعراف تقتضي أن لا يقتل الرسل فإن الكامل قام بذلك ليكون بمثابة الإعلان الرسمي للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين انتقامًا من ذبح مليون مسلم في بغداد؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافًا في حياتهم.

كان قتل «قسيس يعقوبي» رسول التتار رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو، وأدرك هولاكو أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد[3].

لم يضيع هولاكو وقتًا؛ فهذه أول صحوة في المنطقة، فعلى الفور جهز جيشًا كبيرًا، ووضع على رأسه ابنه «أشموط بن هولاكو»، وتوجه الجيش إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل أرضه للمرور.

وتوجه «أشموط بن هولاكو» بجيشه الجرار إلى أهم معاقل إمارة ميافارقين، وهو الحصن المنيع الواقع في مدينة ميافارقين نفسها وبه «الكامل محمد» نفسه، وكان الكامل محمد قد جمع جيشه كله في هذه القلعة؛ وذلك لأنه لو فرقه في أرض الجزيرة (بين دجلة والفرات) فإنه لن تكون له طاقة بجيوش التتار المهولة.

جاء جيش التتار، وحاصر ميافارقين حصارًا شديدًا، وكما هو المتوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكُرْج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان هذا الحصار الشرس في شهر رجب سنة 656 هجرية - بعد الانتهاء من تدمير بغداد بحوالي أربعة شهور[4].



وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد.

كان كريمًا في زمان اللئام!

شجاعًا في زمان الجبناء!

فاهمًا في زمان لا يعيش فيه إلا الأغبياء! بل أغابي الأغبياء!

كان من المفترض في هذا الحصار البشع الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها.. لكن هذا لم يحدث.. لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمة ولا أدوية.. لقد احترم الأمراء المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوَّة الأولى في العالم (التتار) على إخوانهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين.

والواقع أنني أتعجب من رد فعل الشعوب!

أين كانت الشعوب؟!

إذا كان الحكام على هذه الصورة الوضيعة من الأخلاق، فلماذا سكتت الشعوب؟! ولماذا لم تتحرك الشعوب لنجدة إخوانهم في الدين والعقيدة، بل وإخوانهم في الدم والنسب، فمجتمعاتهم كانت شديدة التلاصق؟!

سكتت الشعوب، وسكوتها مرده إلى أمور خَطِرة.

أولًا: لم تكن الشعوب تختلف كثيرًا عن حكامها.. إنما كانت تريد الحياة.. والحياة بأي صورة.

ثانيًا: كانت هناك عمليات «غسيل مخ» مستمرَّة لكل شعوب المنطقة.. فلا شك أن الحكام ووزراءهم وعلماءهم كانوا يقنعون الناس بحسن سياستهم، وبحكمة إدارتهم، ولا شك -أيضًا- أنهم كانوا يلومون الكامل محمدًا الذي «تهور» ودافع عن كرامته، وكرامة شعبه، بل وكرامة المسلمين.

لا شك أن منهم من يقول مثلاً:

«أما آن للكامل محمد أن يتنحى، ليجنب شعبه دمار الحروب؟!».

أو من يقول:

«لو سلم الكامل محمد أسلحته لانتهت المشكلة، ولكنه يخفي أسلحته عن عيون الدولة الأولى في الأرض (التتار)، وهذا خطأ يستحق إبادة الشعب الميافارقيني بكامله!».

ولا شك أن هولاكو كان يرسل بالرسائل يقول فيها: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، أما شعب ميافارقين فليس بيننا وبينه عداء.. إنما نريد أن نتعايش سلميًا بعضنا إلى جوار بعض!

كانت هذه عمليات غسيل مخ تهدّئ من حماسة الشعوب، وتقتل من مروءتها ونخوتها.

ثالثًا: من لم تقنعه الكلمات والخطب والحجج، فإقناعه يكون بالسيف!

تعودت الشعوب على القهر والبطش والظلم من الولاة.

وعاش الناس و«تأقلموا» على الكراهية المتبادلة بين الحكام والمحكومين.

لا شك أن الأمر سيتطور، ولن يقف عند الحصار فحسب.. وهذا ما نتعرض له في المقال القادم بإذن الله.

[1] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص266.
[2] الملك الكامل محمد بن العادل [576-635هـ]: كان جيد الفهم يحب العلماء، ويسألهم أسئلة مشكلة، وله كلام جيد على صحيح مسلم، وكان ذكيًّا مهيبًا ذا بأس شديد، عادلاً منصفًا، له حرمة وافرة، وسطوة قوية، ملك مصر ثلاثين سنة، وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج لعنهم الله، فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم، وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يومًا مشهودًا.
[3] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص108، عبد الله سعيد محمد سافر الغامدي: جهاد المماليك ص 75.
[4] قطب الونينى: ذيل مرآة الزمان 2/76.

د.راغب السرجاني