المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قطز وتقوية الجيش لمواجهة التتار


المراقب العام
20-09-2016, 11:52 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/07/30/34.gif

مع أن قطز قد استخدم الأخلاق العالية، والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، فإنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، وعن أخذه بأسباب السيطرة على الأمور.. فعزل الوزير «ابن بنت الأعز»[1] المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولّى بدلًا منه وزيرًا آخر يثق في ولائه وقدراته، وهو «زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع»[2]، وفي الوقت ذاته أقرّ قائد الجيش في مكانه وهو «فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي[3]» مع أنه من المماليك البحرية الصالحية فإنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق، وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة.. (وطبعًا «فارس الدين أقطاي الصغير» هذا غير «فارس الدين أقطاي» زعيم المماليك البحرية السابق، والذي قتل في سنة 652 هجرية قبل هذه الأحداث بست سنوات).

وبذلك فإن قطز قد حفظ الأمانة، ووسد الأمر لأهله، بصرف النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية.. وهذا تجرد واضح من قطز.

كما أنه ذكاء سياسي واضح أيضًا.. فهو بهذا يستميل قلوب المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا -ولا شكَّ- سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل البلاد تستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية.

كما قام قطز -أيضًا- بالقبض على بعض رءوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبيًا في مصر.

وعلم قطز أن الناس إن لم يُشغلوا بالجهاد شُغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة، وينظما الصفوف.. فانشغل الناس بهذه الغاية النبيلة، والمهمة الخطِرَة: «الجهاد في سبيل الله».

إذن الخطوة الأولى في سياسة قطز: السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وليس مجرد جمع المال، وضمان توريث الكرسي للأبناء، بل وأبناء الأبناء.

وبذلك استقرت الأحوال المحلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جدًّا في بناء الأمم.

العفو الحقيقي:
أما الخطوة الثانية لقطز في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جدًّا لقطز:

لقد أصدر قرارًا بالعفو العام «الحقيقي» عن كل المماليك البحرية! وأقصد بكونه «حقيقيًا» أنه لم يكن خدعة سياسية لأجلٍ معين، ولم يكن هذا العفو «شهر عسل» مؤقت إلى أن تهدأ الأمور.. إنما كان أمرًا يهدف فعلًا إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع، ولَمّ الشمل، ودرء المفاسد.

لقد كان قرارًا في منتهى الروعة! على عكس ما يفعل بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة، ولا يدركون موازين القوى في بلادهم؛ فيتعاملون تعاملًا غبيًا مع الأحداث.. فهو إما أن يقصي القوى الفاعلة في المجتمع تمامًا عن كل شيء؛ لأنها على خلاف معه! وأحيانًا يقيد حريتهم.. وأحيانًا يخرجهم من البلاد تمامًا... إما أن يفعل ذلك وإما أن يتجاهلهم تمامًا وكأنهم لا وجود لهم.. يضع رأسه في الرمال.. لا يعترف بوجودهم.. يُنكر طاقاتهم.. يهمل كيانهم..

كل هذا ولا شك لا يَصُب أبدًا في مصلحة البلد أو مصلحة الشعب.

أما قطز فكان رجلًا متجردًا لله.. محبًا لوطنه وأمته.. يفعل ما فيه المصلحة ولو كان يشكل خطورة على كرسيه وسلطته.

لقد حدثت فتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، وكانت بدايات الفتنة من ست سنوات (سنة 652 هـ) عندما قُتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية، ثم بدأت الفتنة تتفاقم تدريجيًا إلى أن وصلت إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عز الدين أيبك ثم شجرة الدرّ، ووصل الأمر إلى أن معظم المماليك البحرية -وعلى رأسهم القائد ركن الدين بيبرس- فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطر.

فلما اعتلى قطز عرش مصر أصدر قراره الحكيم جدًّا بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر بلدهم.

لقد أبرز هذا القرار الحسن أخلاق قطز الرفيعة، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، وذلك مع كون القوَّة في يديه، وهذا من أرفع الأخلاق: «العفو عند المقدرة»، كما أبرز هذا القرار النظرة السياسية العميقة لقطز، فقوات المصريين من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوَّة عظيمة جدًّا وقوية جدًّا، ولها خبرات واسعة في الحروب، وقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة المنصورة العظيمة، والتي كانت منذ عشر سنوات (سنة 648 هجرية(.. فإضافة قوَّة المماليك البحرية إلى قوَّة المماليك المعزية ستنشئ جيشًا قويًا أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، إذ إنه معلوم أن الوحدة طريق النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة.

وقطز يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما ذهبوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عددًا لا بأس به منهم، وقد تحقق له فعلًا ما أراد، ومنذ أن أعلن هذا القرار والمماليك البحرية تتوافد على مصر من بلاد سلاجقة الروم (تركياالآن(، ومن الكرك بالأردن، ومن دمشق، ومن غيرها، وهكذا صار المماليك قوَّة واحدة من جديد، واستقبلهم قطز استقبالًا لائقًا، ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم.

وإذا كان فعل قطز النبيل مع كل المماليك البحرية في كفة، ففعله النبيل مع قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس في كفة أخرى.. فبيبرس هو أخطرهم مطلقًا، ولو كان في نفس قطز غدر أو خيانة أو مصالح سياسية مجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر قط.

وكان بيبرس قد فرَّ من مصر إلى الناصر يوسف صاحب دمشق -ذلك الرجل الخائن الذي كان مواليًا للتتار في فترات كثيرة، ومدعيًا الجهاد ضدهم في فترات أخرى- وقد أنكر عليه بيبرس خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع له، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فرّ الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس -وقد وجد نفسه بمفرده- إلى أن يهرب هو الآخر إلى الجنوب في اتجاه فلسطين، حيث واصل الناصر يوسف فراره إلى الكرك ثم إلى الصحراء.. ووجد بيبرس نفسه وحيدًا في غزة ولم يدرِ ماذا يفعل! [انظر مقال: الناصر يوسف يتاجر بالجهاد].

في هذا الموقف العصيب، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو الذي كان قائدًا للمماليك البحرية بأكملهم، أي بمثابة وزير الحربية في زماننا، وأصبح مشتتًا بين قوات التتار القادمة من الشمال، والملك الناصر الذي فر إلى الصحراء، ومصر التي هرب منها.. في هذا الموقف الصعب يأتيه خطاب قطز يعرض عليه القدوم إلى مصر معززًا مكرمًا مرفوع الرأس محفوظ المكانة!

أي أخلاق عالية من قطز! وأي فقه سياسي بارع!

مميزات بيبرس:
لقد كان قطز يدرك أمورًا كثيرة مهمَّة.

يدرك أولًا: الكفاءة القتالية العالية جدًّا، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لركن الدين بيبرس، والحمية الإسلامية لهذا القائد الفذ.

ويدرك ثانيًا: الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس، والذي سيحاول قطز أن يوظفه لصالح معركة التتار بدلًا من أن يُوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية.

ويدرك ثالثًا: ولاء المماليك البحرية لركن الدين بيبرس، وأنه إن ظل هاربًا فلا يأمن أحد أن ينقلب عليه المماليك البحرية في أي وقت، لذلك فمن الأحكم سياسيًا أن يستقطب بيبرس لصفه، ويعظم قدره، ويستغل قدارته وإمكانياته، وبذلك يضمن استقرار النفوس، وتجميع الطاقات لحرب التتار بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها.

لذلك لما قدم بيبرس إلى مصر بعد استقدام قطز له، عظّم قطز من شأنه جدًّا، وأنزله دار الوزارة، وعرف له قدره وقيمته، بل وأقطعه «قليوب» وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين[4]، بل وسيجعله كما سنرى على مقدمة جيوشه.

وهكذا نتعلم من قطز العفو عند المقدرة، وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة.

السياسة الإسلامية:
ونتعلم منه شيئًا في غاية الأهمية في الأصول الإسلامية، وهو أنه ليس معنى أن يكون الإنسان سياسيًا حكيمًا بارعًا أن يتنازل عن أخلاقه؛ فليست السياسة في الإسلام نفاقًا، وليست السياسة في الإسلام ظلمًا، وليست السياسة في الإسلام كبرًا، وليست السياسة في الإسلام فقدانًا للضمير أو خلفًا للعهد أو نقضًا للمواثيق.. بل السياسة في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفصل بينها وبين الدين، ولا أن تستخدم فيها معايير تختلف مع أصول الإسلام.

إبراز الكفاءات:
كما علمنا قطز أن القائد الذي يثق في نفسه لا يمانع من ظهور طاقات بارزة إلى جواره، وذلك على عكس ما يفعل كثير من الزعماء الضعفاء فلا يسمحون أبدًا لأي كفاءة أن تبدع إلى جوارهم، وذلك لكي لا يصبح لهذه الكفاءات رصيد من الحب والاحترام عند الشعب فتقوى مكانتهم، ويرتفع قدرهم؛ ومن ثَمَّ قد ينازعون الزعيم سلطانه، وما كل هذه المخاوف في قلوب هؤلاء الزعماء إلا لإحساسهم بضعفهم وصغارهم وافتقادهم للرصيد الحقيقي من الحب عند شعوبهم، ولكن قطز لم يكن من هذه الزعامات الفارغة، إنما كان زعيمًا قويًا ذكيًا مخلصًا واعيًا محبًا لدينه ووطنه وأمته.. كان يدرك من نفسه هذه الأمور، وكذلك كان الشعب يدرك عنه هذه الأمور؛ ومن ثَمَّ لم يكن هناك داع للتردد أو الخوف.

وهكذا انضمت قوَّة المماليك البحرية -وعلى رأسها القائد ركن الدين بيبرس- إلى قوَّة الجيش المصري المسلم، ولا شك أن هذا رفع من معنويات المصريين جدًّا.

لقد كانت خطوة العفو عن المماليك البحرية من أعظم الخطوات في حياة قطز، وحقًا كانت كل خطواته عظيمة.

إذن كانت الخطوة الأولى لقطز هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، وكانت خطوته الثانية هي استقدام الفارّين من المماليك البحرية، والاستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم، وتقوية الجيش بهم.

ولنتابع باقي خطته في المقالات القادمة بإذن الله.
[1] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/42.
[2] قطب اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3/250.
[3] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/508.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/255.


د.راغب السرجاني