المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قطز وقرار الجهاد ضد التتار


المراقب العام
25-09-2016, 11:23 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/08/31/37.gif

قرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقًا.. وهو قرار لا ينفع أن يرجع عنه القائد أو الجيش أو الشعب، وقطز يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة، وتحت تأثير التذكير بالله، وبالواجب نحو الإسلام، لكن من الممكن لهذه القلوب أن تتردد وأن تخاف، ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمرًا يقطع به خط الرجعة تمامًا على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!

قتل رسل التتار:
لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرُسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة[1]، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب، وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلانًا للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيرًا عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلبًا على التتار، فيُلقي في قلوبهم ولو شيئًا من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل الأربعة هو: قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل الجادّ للجهاد، فبعد قتل الرسل الأربعة، لن يقبل التتار باستسلام مصر، حتى لو قبل بذلك المسلمون.

كان هذا هو اجتهاد قطز والأمراء، ومع ذلك فلنا وقفة مع هذا الحدث.

وقفة مع قتل الرسل:
لا أدري ما هو السند الشرعي لقطز في عملية القتل هذه؟!

فالرسل في الإسلام لا تقتل.. لا رسل المسلمين، ولا رسل الكفار، ولا حتى رسل المرتدين عن الإسلام!.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا».

يعلّق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على هذا الحديث، فيقول: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل[2].

هذا الحديث رواه الإمام أحمد والحاكم، وأخرجه -أيضًا- أبو داود والنسائي مختصرًا، وفي رواية لأحمد وأبي داود عن نعيم بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف نفسه: «وَاللهِ لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا»[3].

يقول الإمام الشوكاني، في كتابه القيم «نيل الأوطار»: هذان الحديثان (حديث عبد الله بن مسعود وحديث نعيم بن مسعود رضي الله عنهما) يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين[4].

لهذا فالحكم الشرعي في الإسلام أن الرسل لا تقتل، ولا أدري ما الحجة الشرعية التي استخدمها قطز ليقتل هؤلاء الرسل؟ ولا أدري لماذا سكت العلماء في زمانه عن هذه النقطة؟ أو لعلهم تكلموا ولم يصل إلينا قولهم، ولعل قطز اجتهد في أن التتار قد هتكوا كل الأعراف والقوانين والمواثيق، فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، وبأعداد لا تحصى، وقد قتلوا في بغداد وحدها مليون مسلم، هذا غير المدن التي سبقت والتي لحقت، ولعله اجتهد هذا الاجتهاد بعد أن أساء الرُسل الأدب معه، وأغلظوا له في القول، وتكبروا عليه.. لعل هذا كان اجتهاده.

لكل جواد كبوة
إننا لا يجب أن نُجرّ أبدًا إلى قذارات السياسة المادية، وإلى أخلاق الكفار.. فإذا قتل الكفارُ الأطفالَ المسلمين فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا أطفال الكفار بحجة أن العقاب بالمثل، وإذا قتل الكفار النساء المسلمات وهتكوا أعراضهن فليس هذا مسوغًا لقتل النساء الكافرات غير المقاتلات وهتك أعراضهن، وهتك العرض طبعًا غير مقبول سواء للمقاتلة أو غير المقاتلة، وإذا خان الكفار العهد فلا يجوز للمسلمين خيانة عهودهم.. وعلى الوتيرة نفسها لا يقتل المسلمون الرسل، ولا يقتل المسلمون الكفارَ الذين أخذوا أمانًا من المسلمين.

كلُّ هذا ليبقى دين الإسلام نقيًا خالصًا غير مختلط بقذارات القوانين الوضيعة.. وليظل المثل الإسلامي الرفيع، والخلق الإسلامي العالي وسيلة باقية لدعوة شعوب الأرض إلى هذا الدين البهي.. دين الإسلام.

لكل ما سبق فإني أعتبر ما حدث من قطز والأمراء في هذه الخطوة هو هفوة وخطأ في الاجتهاد.. ولا بُدَّ لكل إنسان مهما عظم قدره أن يكون له أخطاء إلا الأنبياء المعصومين.. ويكفي المرء فخرًا أن تعد معايبه.

[1] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/515.
[2] مسند الإمام أحمد 6/306، بسند ضعيف، وحسنه الألباني لغيره.
[3] المرجع السابق 25/366. وأبو داود حديث (2761) وصححه الألباني.
[4] الشوكاني: نيل الأوطار 8/37.



د.راغب السرجاني