المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سياسة بلدوين في إمارة الرها


المراقب العام
26-09-2016, 11:50 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/09/38/Raha.gif

بعدما تصالح بلدوين وتانكرد إثر مقاتلتهما على أبواب مدينة "موبسواسطيه" أكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيسي المتجه إلى أنطاكية.

ولكن عند وصولهم إلى الجيش الصليبي اجتمع زعماء الحملة الصليبية على لوم وتقريع بلدوين بما فيهم أخوه جودفري بوايون، واستغلَّ بلدوين هذا اللوم والعتاب ليغضب وينسحب بجيشه من الجيوش الصليبية الرئيسية متجهًا ناحية الرها في الشرق[1]، متناسيًا تمامًا قصة بيت المقدس والحجيج النصارى، فلم يكن له همٌّ إلا تأسيس مملكة خاصَّة به، وإن كانت بعيدة كل البعد عن بيت المقدس وطريق الحجيج.

وبالفعل خرج بلدوين من الجيش واتجه إلى الرها، وفي الطريق سلَّمت له كل المدن دون قتال، وغالبية سكانها كانت من الأرمن، ثم وصل إلى الرها، واستقبله أهلها الأرمن بالترحاب، وكان هذا على غير رغبة أميرها اليوناني ثوروس Thoros، الذي كان يدفع الجزية قبل ذلك للمسلمين[2]، وكان يأمل أن يستقلَّ بالمدينة لنفسه ليُصبح تابعًا للدولة البيزنطية لا لبلدوين، غير أن الأمير تعامل مع الأمر في واقعية، وقرَّر أن يأخذ حلاًّ وسطًا، وهو أن يعرض على بلدوين أن يُصبح بمنزلة ابنه -وكان هذا الأمير مسنًّا- ومن ثَمَّ يُصبح الوريث الشرعي له على مدينة الرها وما حولها من مدن وقرى[3]، وهي منطقة غنية خصبة، فوافق بلدوين على ذلك، ودخل المدينة، ثم إنه اتفق مع بعض الأرمن في المدينة على الغدر بثوروس، وبالفعل قتلوه، ليتسلم بلدوين مقاليد الحكم في المدينة، وليؤسِّس أول إمارة صليبية في العالم الإسلامي، وهي إمارة الرها، وذلك في (491هـ= مارس سنة 1098م)[4].

ولما كانت الحامية الصليبية في منطقة الرها صغيرة، والشعب بكامله من الأرمن تقريبًا، فقد اتخذ بلدوين عدة خطوات لتثبيت أركان إمارته، وعدم السماح بحدوث قلاقل أو اضطرابات.

كان من هذه الخطوات التزاوج بين الصليبيين الغربيين والأرمن، وبدأ بلدوين بنفسه حيث تزوج من الأميرة الأرمينية أردا Arda، وهي ابنة أحد زعماء الأرمن[5].

وكان من هذه الخطوات -أيضًا- توسيع رقعة إمارة الرها، وذلك على حساب العدو اللدود للأرمن وهم الأتراك، فاتجه بجيش مشترك من الصليبيين والأرمن إلى مدينة سُمَيْسَاط، وهي على بُعد مسيرة يوم من الرها (45 كيلو مترًا شرقي الرها)، وكان على رأسها أحد السلاجقة الأتراك، الذي أدرك من الوهلة الأولى أنْ لا طاقة له بحرب الجيش الصليبي الأرمني، وخاصةً بعد الهزائم المتتالية للسلاجقة في آسيا الصغرى، وعدم اهتمام سلاجقة فارس أو الشام بالأمر حتى هذه اللحظة، وهذا الإحباط دفعه إلى فعل شنيع؛ إذ طلب من بلدوين أن يقبل بشراء سُمَيْسَاط بالمال، ويُوَفِّر على نفسه القتال والحرب، وطلب الأمير التركي مبلغ عشرة آلاف دينار ذهبي مقابل تسليم المدينة بشعبها، ووافق بلدوين على الفور؛ فقد كانت خزينة الزعيم الراحل ثوروس مليئة بالأموال، ودفع المبلغ المطلوب، وتسلَّم المدينة المسلمة دون قتال[6]!!

ولا شكَّ أن وجود مثل هؤلاء القادة المفرطين، والبائعين لكل شيء في مقابل المال هو تفسير واضح لهذا الاجتياح الصليبي للبلاد المسلمة!

ولم يكتفِ بلدوين بضم سُمَيْسَاط ولكن أتبعها بعد ذلك بضم سَرُوج ثم البِيرَة لتتسع رقعة إمارة الرها[7]، وتُصبح مُرضيَّة لغرور الأمير الفرنسي بلدوين.

ومن خطوات بلدوين -أيضًا- لتثبيت أقدامه في إمارة الرها أنه كان حريصًا عند ضمِّ المدن الإسلامية أن يُحَرِّر الأسرى الأرمن من السجون التركية، وخاصة في سُمَيْسَاط، وإرجاع هؤلاء الأسرى إلى عائلتهم الأرمينية دون مقابل؛ مما أكسبه مودَّة الشعب الأرمني وتعاطفه.

وكان من الخطوات الرئيسية التي اتخذها بلدوين أنه أنكر تبعيَّتَه للإمبراطور البيزنطي، وتحلَّل صراحةً من اتفاقية القسطنطينية[8]، وضرب بهذا عصفورين بحجر واحد؛ فهو حقَّقَ أحلامه بتكوين إمارة يُصبح هو القائد الوحيد لها دون تبعيَّتِه لأحد، ثم إنه أرضى الشعب الأرمني جدًّا حيث إن الأرمن المتعصِّبِينَ لمذهبهم كان يحنقون بشدَّة على المذهب الأرثوذكسي؛ والجدير بالذكر أن المذهب الأرمني أقرب إلى الكنيسة الغربية منه إلى الأرثوذكس، ولكنه ليس متطابقًا معها، ومع ذلك فقد سمح بلدوين بالحرية العقائدية في إمارة الرها، ولم يضغط مطلقًا على الأرمن ليعتنقوا المذهب الكاثوليكي الغربي، ولا شكَّ أن هذا وافق قبولاً عامًّا عند الشعب الأرمني[9].

أمَّا بالنسبة إلى الإمبراطور البيزنطي فإنه لم يستطع أن يفعل شيئًا؛ لأن الرها كانت بعيدة عن مركز قوَّته، وكان تركيزه الأساسي على غرب آسيا الصغرى، ومدن منطقة قليقية، وعلى رأسها طَرَسُوس وأَذَنَة والمَصِّيصَة، كما كان مشغولاً جدًّا بأمر مدينة أنطاكية المهمَّة، التي يَتَّجِه إليها الجيش الصليبي الآن[10].

أمَّا بالنسبة إلى بلدوين فإنه لم يكتفِ بقبول الشعب الأرمني له، فإنه يُدرك كقائد محنَّك أن هؤلاء ما استقبلوه بالترحاب إلاَّ هربًا من التبعية البيزنطية من ناحية، وهربًا من السيطرة التركية من ناحية أخرى، وأنهم متى توفَّرت لهم القوَّة فسوف يستقلُّون بحكمهم، ويطردون بلدوين وجيشه؛ لذلك بدأ بلدوين يسعى في تغيير التركيبة السكانية في إمارة الرها لصالح الصليبيين؛ ففعل مثلما يفعل اليهود الآن في فلسطين، حيث بدأ يرسل إلى أوربا يستقدم الصليبيين الغربيين، وخاصة من فرنسا للقدوم والاستيطان الكامل في إمارة الرها، فهو لم يكن يستقدم الجنود المرتزقة، ولكن كان يستقدم العائلات الأوربية برجالها ونسائها وأطفالها، وكان يستقدم -أيضًا- أصحاب الوجاهة والأمراء في مقابل مبالغ مالية كبيرة من المال، وإغراءات كثيرة تشمل إعطاء إقطاعيات خارج أسوار مدينة الرها تبلغ مساحات كبيرة؛ وهكذا حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي، فيها النظام الإقطاعي المعروف هناك، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيات، بينما الأرمن يعملون في الزراعة والتجارة تحت الهيمنة الصليبية[11].

ولا شكَّ أن هذه الأوضاع أثارت بعض الأرمن، فقاموا ببعض الثورات على حكم بلدوين، ولكن بلدوين قابلها بقسوة بالغة وبردعٍ صارم؛ مما أدَّى إلى هدوء الأوضاع بعد ذلك في الإمارة بكاملها[12].

وهكذا بالترغيب والترهيب، والتواصل مع الشعب الأرمني، والتعاون الوثيق مع نصارى غرب أوربا استطاع بلدوين أن يتمكَّن من حكم هذه الإمارة في عمق العالم الإسلامي، وكانت هذه الإمارة هي حاجز الصدِّ الأول ضدَّ سلاجقة فارس وشرق العالم الإسلامي لوقوعها في الطريق بينهم وبين منطقة الشام وبيت المقدس، حيث ستكون هناك بقية الإمارات والممالك الصليبية، وهي لكونها قريبة جدًّا من إمارة الموصل وديار بكر والجزيرة (وهي مناطق إسلامية صرفة من ناحية التركيبة السكانية)، فإنها كانت أشدَّ الإمارات الصليبية إيذاءً للمسلمين؛ غير أنها من الناحية الأخرى كانت أضعف الإمارات الصليبية؛ لبُعدها عن بقيَّة الإمارات الصليبية في الشام، ولعدم قدرتها على الإفادة من الأساطيل الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط[13]، ولكونها تحكم شعبًا من الأرمن له أطماعه الخاصة، ثم لقربها من الموصل التي ستشهد -مستقبلاً- نهضةً إسلامية جهادية سيكون لها أثرٌ في حياة إمارة الرها.

ولنعُدْ بعد هذه الرحلة في مدينة الرها وما حولها إلى الجيوش الصليبية، وهي تقطع الطرق الوعرة في آسيا الصغرى من خلال طبيعة الجبال القاسية، وندرة الماء في بعض الأماكن، وحدوث ما يمكن أن نُسَمِّيه بحرب العصابات من الأتراك المتفرِّقين هنا وهناك، إلا أنهم في النهاية وصلوا إلى المدينة المهمَّة جدًّا: مدينة أنطاكية، وكان وصولهم هذا في (490هـ= 21 من أكتوبر 1097م)[14].

[1] Albert d`Alix, (Hist Occid) III XX VII..
[2] Guibert de Nogent. 111. p. 156.
[3] Matthieu d`Edesse (Doc. Ar.) 1, p. 35; Runciman: op. cit. 1, p. 204.
[4] Matthieu d`Edesse, 1, pp. 37-38.
[5] Guillaume de Tyr, p. 402.
[6] Guillaume de Tyr, 1, p. 159.
[7] Albert d`Aix (Hist. Occid. 1v). pp. 356-357. 445-446; Grousset: L`Empire du Levant, p. 402.
[8] Runciman: op. cit., 1, p. 206.
[9] Runciman: op. cit., 1, p. 211.
[10] Setton: op. cit., 1, p. 304.
[11] Michaud: op. Cit. 1, p. 235; Runciman: op. cit., 1, p. 211.
[12] Albert d`Aix, p. 443, & Guillaume de Tyr. 285.
[13] محمد سهيل طقوش: تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص92.
[14] Raymond d`Agueiler, in peters, pp. 160. ff; William of Tyre, 1, pp. 204-220.



د.راغب السرجاني