المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : واإسلاماه..صيحة النصر الخالدة


المراقب العام
02-10-2016, 11:56 PM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/08/32/44.gif

اشتدت المعركة في عين جالوت على أخرها، وحمي الوطيس، وبدأت الميمنة التترية تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون.

وشاهد قطز المعاناة التي تعيشها ميسرة الجيش المسلم، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعل بعضهم قد شك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه: إنه لا يهزم.

واإسـلاماه صيحة من القائد في أرض المعركة:
وقطز يشاهد كل ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جدًّا، هنا لم يجد قطز إلا حلًا واحدًا لا بديل له.

لا بد أن ينزل بنفسه إلى ساحة القتال.

لا بد أن يثبّت جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم... طريقة القدوة!

لا بد أن يوضح لجنوده بطريقة عملية أن الموت في سبيل الله غاية ومطمح وهدف.

نحن نريد الآخرة.. وهم يريدون الدنيا.. وشتان!

هنا فعل قطز فعلًا مجيدًا.

لقد ألقى بخوذته على الأرض.. تعبيرًا عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلب الموازين في أرض المعركة.

لقد صرخ قطز بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه[1]!

وألقى بنفسه وسط الأمواج المتلاطمة من البشر.

وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز في وسطهم.. يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون.. ويقاتل كما يقاتلون.

أي تأييد؟! وأي تثبيت؟! وأي سكينة؟! وأي اطمئنان؟!

القضية إذن واضحة جدًّا أمام الجميع.. القضية قضية إغاثة الإسلام والدفاع عنه.. القضية ليست أبدًا حفاظًا على ملك.. أو حماية لكرسي.. القضية ليست حرصًا على توريث لابن أو عائلة. القضية قضية صادقة.

وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه.. والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيرًا عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه.

والتهب حماس الجنود، وهانت عليهم جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة.

إنها ليست هجمة على ذواتهم.. إنها هجمة على الإسلام.

واشتعل القتال في سهل عين جالوت.. وعلا صوت تكبير الفلاحين على كل شيء.. ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان.

وقاتل قطز قتالًا عجيبًا.

ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجل قطز على الأرض، وقاتل ماشيًا لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته.

ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشيًا، فجاء إليه مسرعًا، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز امتنع، وقال: «ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!»[2].

وظل يقاتل ماشيًا إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية!

وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك.

فقال قطز في يقين رائع: «أما أنا كنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان... حتى عد خلقًا من الملوك (مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام»[3].

رحمك الله يا قطز.. كنت -ولا زلت والله- قدوة للمسلمين.

وعلى أكتاف أمثالك تنهض الأمم.

ونتيجة مثل هذه المواقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقيًا جدًّا في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة.

وبدأت الكفة -بفضل الله- تميل من جديد لصالح المسلمين.. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. وكان يومًا على الكافرين عسيرًا.

مصرع الطاغية!
وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمسي، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسنًا في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفقة حتى وصل في اختراقه إلى كتبغا.. قائد التتار!

لقد ساقه الله إليه!

ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا.. وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال[4].. وسقط زعيم التتار.. وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}[الأنفال: 17].

وتغير سيناريو القتال عند التتار.. فما أصبح لهم من هَمٍّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقًا في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب.. وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقًا ويأسرون فريقًا.

وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

ضاعت السمعة.. وسقطت الهيبة.. ومُزّق الجيش الرهيب.

موقعة بيسان:
وركز التتار جهدهم على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي.. واستطاعوا بعد جَهدٍ شديد أن يُحْدثوا ثغرة في الصف المسلم الواقف على باب المدخل، وانطلق التتار في سرعة عجيبة يولون الأدبار، وخرجت أعداد كبيرة يسرعون الخطا في اتجاه الشمال لعل هناك مهربًا.. وجيوش المسلمين تجري خلف جيوش التتار.. لا يتركونهم.. فليس الغرض هو الانتصار في موقعة ما، وتحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده.. إنما الغرض تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد.

التتار ينهبون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم.

ووصل التتار الفارون إلى بيسان[5] (عشرون كيلومتر إلى الشمال الشرقي من عين جالوت تقريبًا) ووجد التتار أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد، لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل التتار قتالاً رهيبًا، ودافعوا عن حياتهم بكل قوَّة، وبدءوا يضغطون على المسلمين، وكادوا يقلبون الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالاً شديدًا، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية.. ورأى قطز كل ذلك.

فهو لم يكن «قريبًا من الأحداث».. بل كان «في وسط الأحداث».

فانطلق قطز يحفز الناس، ويدعوهم للثبات.

ثم أطلق صيحته الخالدة:

واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه.

صيحة عقيدة:

واإسلاماه.. صيحة قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع:

«يا الله! انصر عبدك قطز على التتار!»[6].

الله أكبر.

ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام!

يا الله.. انصر «عبدك» قطز على التتار.

لستُ أنا الملكَ المظفر.. لستُ أميرَ المسلمين.. لستُ سلطانَ مصر.

إنما أنا عبدك.

بالله عليكم.. كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله.. ثم يتركه الله عز وجل؟

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[7].

لقد دق قطز على الباب الذي ما طرق عليه صادق إلا وفتح له.

لقد تقرب قطز إلى من بيده ملكوت السموات والأرض.

وعندما يخشع ملوك الأرض، لا بُدَّ أن يرحم جبار السموات والأرض.

لقد كان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار فأهلكهم.

ما إن انتهى من دعائه وطلبه إلا وخارت قوى التتار تمامًا.

نهاية الأسطورة!
وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان.

قضى المسلمون تمامًا على أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار.

وجاءت اللحظة التي ينتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو تزيد.

{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم: 4، 5].

لقد أبيد جيش التتار بكامله!

لم يبق على قيد الحياة من الجيش أحد بالمرة.. هل سمعتم أمرًا كهذا؟!

لقد فني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية.

فني الجيش الذي سفك دماء الملايين وخرب مئات المدن، وعاث في الأرض فسادًا.

هنيئًا لكم أيها المسلمون بالنصر العظيم!

هنيئًا لك يا قطز.. فقد حان وقت قطف الثمار!

{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ}[آل عمران: 126].

عبودية الانتصار:
ماذا فعل قطز عندما رأى جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة؟

لقد نزل البطل المجاهد العظيم التقي الورع.. نزل من على فرسه.

ومرّغ وجهه في الأرض.. يسجد شكرًا لله عز وجل!

ما دخله غرور المنتصرين.. وما رفع رأسه بزهو المتكبرين.

وما شعر أنه قد فعل شيئًا.

بل إن الفضل والمنة لله عز وجل.. هو الذي أنعم عليه بأن اختاره ليكون مجاهدًا.. هو الذي مَنَّ عليه بالثبات.. هو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي.. هو الذي هداه السبيل.

هنا بيت القصيد.

أن تعرف أنك عبد الله.. لا تُنصر إلا بنصره.. ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته.. {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}[الروم: 4].

إذا أردتم أن تعرفوا قطز فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبرًا وزهوًا وفخرًا، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحًا.. كأنما يبغون خرق الأرض أو مطاولة الجبال! وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز.

بل كانوا وبالًا على شعوبهم، ومصيبة على أمتهم.

هنا تبرز قيمة قطز الحقيقية.

لماذا قطز؟

لا عجب أن يُنصر قطز، ولا عجب أن يُخذل غيره.

الله لا يظلم أحدًا.

لم يأت قطز في زمان تمكين ولا سيادة.. لم يأت في ظروف طيبة ومريحة.

لم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة.. لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى.

إنما كانت كل الظروف ضده.

لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفز الآخرين على العمل معه.. فكان لا بُدَّ من الوصول.

ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز سيصلون حتمًا إلى ما وصل إليه.

وليس بالضرورة أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود.

فقد كانت عين جالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور.

المهم أن يوجد المخلصون الصادقون العالِمون العاملون.

ووعد الله لا يتخلف أبدًا:

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[غافر: 51].

[1] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 220-222.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/261.
[3] عبد العزيز الحميدي: التاريخ الإسلامي (16/388).
[4] قطب اليونيني: ذيل مرآة الزمان 2/35.
[5] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/517.
[6] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/517.
[7] البخاري: كتاب التوحيد، باب ويحذركم الله نفسه (7405)، ومسلم (2675).


د. راغب السرجاني