المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فلتكن أنت قطز


المراقب العام
06-10-2016, 05:27 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/08/33/anta-qutoz.gif

في قصة التتار رأينا كيف تحول مسار التاريخ تمامًا بظهور قطز، كما تحول مسار التاريخ قبل ذلك -أيضًا- بظهور جنكيزخان لعنه الله.. وشتان بين الشخصيتين.. ولكنهما يجتمعان في أن كليهما مؤثر.. فكلاهما أثَّر في الملايين.. كلاهما أثَّر في جغرافية الأرض.. كلاهما أثَّر في حركة التاريخ.. ولكن شتّان شتان بين الأثرين..

فالأثر الثاني استمد قوته من قوَّة الجسد والسلاح وشريعة الغاب.. وأما الأثر الأول فقد استمد قوته من قوَّة الإيمان والروح وشريعة الإسلام.

من السهل جدًّا أن تُدمِّر، لكن من الصعب جدًّا أن تبني.

من السهل جدًّا أن تظلم، لكن من الصعب جدًّا أن تعدل.

من السهل جدًّا أن تغضب، لكن من الصعب جدًّا أن تعفو.

وهذا هو جمال الإسلام.

قطز إنسان، وجنكيزخان إنسان.

لكنَّ الأوَّل جُمِّلَ بالإسلام، والثاني حُرِم الإسلام.

فتغيَّرت حركة التاريخ تبعًا لذلك.

قطز بنى حضارة الإنسان واستحق أن يكون خليفةً في الأرض، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30].

وجنكيزخان هدم حضارة الإنسان واستحق بذلك أن يكون مسخًا ملعونًا، {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء: 63].

وأمثال جنكيزخان في الأرض كثير.. وعلى عكس ذلك: أمثال قطز في الأرض قليل؛ لأنه كما ذكرنا: ما أسهلَ التدمير، وما أصعبَ البناء!

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}[الأنعام: 116].

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف: 103].

قطز رجل بأمة:
من المؤرخين من يشكك في أن التاريخ لا يُصنع بإنسان بعينه.. وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات.. وتغيير حركة التاريخ.

ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك.

تغيّرت حركة التاريخ تمامًا في أزمان كثيرة، وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم.. ولا أقول لك تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح ومفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة.. لكن أقول لك تتغير حركة التاريخ بأشخاص معينة ليسوا أنبياءً ولا رسلًا.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل أبي بكر الصديق، وراجعوا حروب الردة.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل عمر بن الخطاب وراجعوا فتوح الإسلام.. تغيرت حركة التاريخ بظهور عمر بن عبد العزيز، وبظهور موسى بن نصير، وبظهور عبد الرحمن الداخل، وبظهور عبد الرحمن الناصر، وبظهور عماد الدين زنكي، وبظهور نور الدين محمود، وبظهور صلاح الدين الأيوبي، وبظهور قطز وبظهور عبد الله بن ياسين، وبظهور يوسف بن تاشفين، وبظهور محمد الفاتح.. وبظهور غيرهم.... رحمهم الله جميعًا.

نعم يظهرون على فترات متباعدة.. ولكن يمتد أثرهم إلى آماد بعيدة.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» [1].

وقطز -ولا شكَّ- كان من هؤلاء المجددين، لقد قالها الشيخ العز بن عبد السلام بعد موت قطز وهو يبكى بشدة: «رحم الله شبابه، لو عاش طويلًا لجدد للإسلام شبابه».

وهكذا نرى بوضوح في حركة التاريخ أن هناك رجالًا بأعينهم يغيرون فعلًا من مسار التاريخ..

فلتكن أنت قطز:
مع وضوح هذا الأمر إلا أن الناس دائمًا يبحثون عن هذا الرجل في خارج بيوتهم وشوارعهم ومدنهم.. يعتقدون أن هذا الرجل سيأتي من بعيد.. من بعيد جدًّا.. بعيد في المكان، بعيد في الزمان.. أو لعله يأتي من خارج الأرض! لماذا لا يعدّ كل واحد منا نفسه وأهله وأبناءه وإخوانه ليكونوا هذا الرجل؟!

لماذا لا يكون قطز أنت؟!

لماذا لا يكون قطز ابنك؟!

لماذا لا يكون قطز أخاك؟!

لماذا ندرس التاريخ إذن؟

ألسنا ندرسه لكي نسير على درب الصالحين ونتجنب دروب الفاسدين؟!

لماذا لا نسير على خطوات قطز الواضحة الثابتة لنصل إلى عين جالوت في زمان كثر فيه التتار وأشباه التتار؟

والله ما عاد لدينا عذر.. فقد أقيمت علينا الحجة!

{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}[الأنفال: 42]

ولنسأل: كيف صنع قطز هذا المجد؟!

بل لنتساءل: كيف صُنع «قطز»؟!

الكتاب والسنة مصنع القادة:
لقد صُنع قطز بكتاب الله القرآن، وبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أعظم معجزات هذا الدين هي «صناعة الرجال»!

مَنْ عُمر بغير الإسلام؟ مَنْ خالد بغير الإسلام؟

مَنْ طارق بن زياد بغير الإسلام؟

مَنْ قطز بغير الإسلام؟

والكتاب بين أيدينا، وكذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حفظهما الله لنا.. وسيظلان كذلك إلى يوم القيامة.

ولن تضل الأمة قط ما دامت تتمسك بهما، مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» [2].

واللهُ الذي خلق للأمة خالدًا والقعقاع وطارقًا وصلاحًا وقطز سيخلق لها دومًا رجالًا يُغَيِّرون من واقعها، ويجددون لها دينها وشبابها، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها إلى صدارة الأمم وقيادة العالم.. بل يقودونها إلى جنات النعيم.

ففي الإسلام -والله- عزّ الدنيا، وعزّ الآخرة، ومَعين الأمة لا ينضب أبدًا.

وأخيرًا..

فقد انتهت قصة التتار.. وانتهت قصة عين جالوت.

ومات الصالحون.. ومات الطالحون.. مات الجند الظالمون، ومات الجند المؤمنون.. ومرت الأعوام والأعوام والقرون والقرون.

ذهبت الديار والرجال والقلاع والحصون.

ذهبت الأفراح والأتراح.. والضحكات والدموع.

ذهب كل شيء.. ولم تبق إلا العِبرة. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

الذي بقي هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» [3].

الذي بقي هي السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ} [آل عمران: 160].

ونسأل الله أن يجعل حياتنا كلَها في سبيله. وأن يجعل كلامنا وواقعنا ككلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وواقعهم عندما أجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا:

نحن الذين بايعوا محمدًا *** على الجهاد ما بقينا أبدًا[4].

وأسأل الله أن يجعل لنا في التاريخ عبرة!

[1] أبو داود: كتاب الملاحم، باب ما يذكر في القرن مائة (4291)، وقال الألباني: صحيح.
[2] الموطأ للإمام مالك تحقيق الأعظمي 5/ 1323
[3] البخاري: كتاب فرض الخمس، باب قول النبي ﷺ أحلت لكم الغنائم (3123).
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على القتال (2834).

د. راغب السرجاني