المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إطلاق سراح بلدوين الثاني وسقوط صور


المراقب العام
24-10-2016, 09:46 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/16/10/43/beldween.gif

كانت حلب من نصيب حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وقد ضمَّها إلى مَارِدِين، إلا أنه آثر أن يبقى في مَارِدِين لبُعدها عن أرض الشام حيث الصدامات المتكرِّرة مع الصليبيين، بينما هو -كما يقول ابن الأثير- رجل يحب الدَّعة والرفاهية[1]!

ولكن هناك مشكلة كبيرة جدًّا لا بُدَّ أن يُقحِم تمرتاش الوديع نفسه فيها! وهي مشكلة الأسير المهم الملك بلدوين الثاني حبيس قلعة حلب! إنه الآن المتصرِّف في أمر هذا الأسير، ولا بُدَّ أن يُبدِي رأيه في قضيته!

وتحرَّكت الوساطة السياسية بين الفريقين، وقام أمير شيزر سلطان بن منقذ بهذا الدور، وبعد مفاوضات وصل الفريقان إلى عدَّة شروط يُطلق على أثرها سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس؛ وهذه الشروط هي:

1-يدفع الملك بلدوين الثاني مبلغ ثمانين ألف دينار فدية، على أن يدفع منها مبلغ عشرين ألف دينار مقدَّمًا، والباقي بعد ذلك[2].

2-يتعهَّد الملك بلدوين الثاني بوصفه وصيًّا على إمارة أنطاكية بإعادة حصون عزاز والأثارب وزردنا والجزر وكفرطاب إلى إمارة حلب.

3-يتعاون الملك بلدوين الثاني مع تمرتاش في إخضاع دُبَيْس بن صَدَقَة الزعيم العربي الشيعي الذي نزح إلى الجزيرة بعد فراره من الخليفة العباسي في العراق[3].

4-يُسلِّم بلدوين الثاني عددًا من الرهائن يُحْتَفَظُ بهم عند المسلمين لحين تنفيذ بلدوين الثاني ما طُلب منه من دفع المال وتسليم الحصون، وهؤلاء الرهائن هم مجموعة من الأمراء الصليبيين على رأسهم ابنة بلدوين الثاني شخصيًّا، وهي طفلة عمرها خمسة أعوام فقط، وجوسلين الثاني[4] ابن جوسلين دي كورتناي أمير الرها، على أن تبقى هذه الرهائن في يد الوسيط، وهو أمير شيزر سلطان بن منقذ.

وتمَّ بالفعل إطلاق سراح بلدوين الثاني بعد أكثر من سنة من أسره، وتوجه بلدوين أولاً إلى أنطاكية، وهناك وبعد لقاء مع بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس قرَّر الطرفان الرجوع في البند الخاص بإرجاع الحصون إلى حلب؛ ومن ثَمَّ أرسلا رسالة بهذا المعنى إلى تمرتاش[5]!

وفي هذه الأثناء وفي خلال السنة الماضية بكاملها، منذ اتجاه بلدوين الثاني إلى الشمال لقتال بلك بن بهرام، وأثناء أسر بلدوين وما تعلَّق به من أحداث، كان الصليبيون يُحاصرون مدينة صور اللبنانية، وذلك بمساعدة أسطول عسكريٍّ كبير من البندقية[6].

ومدينة صور -كما ذكرنا من قبل- هي إحدى مدينتين لم تُسقطا بعدُ في كل الساحل الإسلامي الشامي على البحر المتوسط، والمدينة الثانية هي عَسْقَلان؛ ولذلك فهي مدينة في غاية الأهمية، ليس لحصانتها فقط، ولكن لكونها أحد منفذين لا ثالث لهما للإمدادات البحرية الإسلامية.

سقوط «صور»:
وكانت صور في هذا الوقت تحت وصاية طُغْتِكِين أمير دمشق، وذلك منذ سنة (506هـ= 1112م)، ولكن الدولة العبيدية الخبيثة في مصر حاولت أن تستغلَّ الظروف السيئة في بلاد الشام لتضمَّ إلى حوزتها مدينة صور، فدبَّرت مؤامرة لإقصاء الأمير مسعود، وهو أميرها من طرف طُغْتِكِين، مع أنه كان يتمتَّع بالكفاءة العسكرية والروح الجهادية، واستطاع الحفاظ على المدينة مدَّة أحد عشر عامًا كاملة، مقاومًا ببسالة كل الهجمات الصليبية على المدينة، ولكن السلطة العبيديَّة فشلت بعد السيطرة على صور في الحفاظ عليها، وكانت النتيجة حصارًا محكمًا حول صور من الصليبيين، وإشراف سكان صور على الهلاك لقلَّة الطعام والشراب، لولا تدخل طُغْتِكِين الذي مُنع من الوصول إلى صور لاعتراض جيش أمير طَرَابُلُس بونز له، ولكن طُغْتِكِين أفلح في إجراء مباحثات مع الصليبيين قضت بتسليم المدينة إلى الجيش الصليبي في مقابل تأمين أرواح السكان بكاملهم، وبالفعل تمَّت الاتفاقية، وقام الصليبيون بترحيل أهل المدينة إلى خارجها[7]، وبذلك سقطت المدينة الحصينة صور في 23 من جمادى الأولى سنة 518هـ= أوائل يوليو 1124م، بعد أكثر من 25 سنة من دخول الصليبيين أرض الشام[8]!

وكانت صدمة كبيرة جدًّا للمسلمين؛ خاصةً أن هذه الصدمة تزامنت مع مماطلة بلدوين الثاني في تنفيذ شروط إطلاق سراحه؛ مما يُنذر بضياع الفرصة الثمينة التي كانت في أيدي المسلمين!

رَفَع سقوط صور معنويات بلدوين الثاني؛ ومن ثَمَّ فقد قرَّر أن ينكث عهده في مسألة ردِّ الحصون الإسلامية، بل قرَّر أن ينقض الاتفاق من أساسه، فتحالف مع خصم تمرتاش، وهو دبيس بن صدقة الشيعيّ، الذي كان من المفترض على بلدوين أن يُساعد تمرتاش في السيطرة عليه وإخضاعه، ثم جمع بلدوين الثاني جيوشه وجيوش أنطاكية، إضافةً إلى جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وكذلك جيش دبيس بن صدقة، وتوجَّه بكل هذه الجيوش إلى حلب لحصارها، وكان تمرتاش في ذلك الوقت في مَارِدِين بعيدًا عن المشاكل[9]!

ومن المؤكَّد أن بلدوين الثاني كان مطمئنًّا إلى أن الزعيم المسلم لن يُقدم على قتل الرهائن لا لضعفه فقط، ولا لعلمه أن الشريعة الإسلامية تُحَرِّم قتل الأطفال؛ ولكن لأن الرهائن ورقة ضغط رابحة سيُحِبُّ تمرتاش أن يحتفظ بها إلى آخر مدى، فأراد بلدوين الثاني أن يُمارس ضغطًا عنيفًا على تمرتاش، فيقبل في النهاية أن يُطْلِق الرهائن نظير رفع الضغط العنيف من عليه.

وهكذا وجد أهل حلب أنفسهم محصورين بقوَّات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ودبيس بن صدقة، وليس في وسطهم أميرهم ليدفع عنهم هذه الجيوش الضخمة!

لقد كانت أزمة عنيفة!

وما أكثر الأزمات التي وقعت فيها حلب في خلال العقود الأخيرة! وذلك منذ أيام رضوان بن تتش ثم ابنه ألب أرسلان فالخادم بدر الدين لؤلؤ، وأخيرًا تحت حكم الأراتقة: إيلغازي، ثم بلك بن بهرام، ثم حسام الدين تمرتاش.

وإن كنا نفهم الآلام التي مرَّت بها المدينة تحت حكم الطغاة رضوان وابنه ألب أرسلان ثم بدر الدين لؤلؤ، فلماذا تعاني المدينة تحت حكم الأراتقة، وهم كما رأينا قادتهم على قدرٍ لا بأس به من حبِّ الجهاد، وتوقير الشريعة؟!

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/227.
[2] أسامة بن منقذ: الاعتبار ص120.
[3] ابن العديم: زبدة الحلب 2/221.
[4] جوسلين الثاني: هو الأمير الرابع والأخير لإمارة الرها، وكان قد أُسر في معركة أعزاز، ثم أُطلق سراحه بعد ن أفتداه بلدوين الثاني سنة 1131م، وتم فتح الإمارة على يد عماد الدين زنكي سنة 1144م، وحاول استعادتها سنة 1146م؛ لكنه فشل بعد أن تصدَّى له نور الدين زنكي، أُسر على يد نور الدين زنكي سنة 1149م، وأمضى بقية حياته في الأسر، توفي سنة 1159م.
[5] أسامة بن منقذ: الاعتبار ص103.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/227.
[7] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص211.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/228، 229.
[9] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/230، وابن العديم: زبدة الحلب 2/223، Setton: op. cit., 1, pp. 423-424.


د. راغب السرجاني

مريم™
19-11-2016, 07:03 PM
مشكور اخى الكريم ويعطيك الف عافية