المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصفحة الغائبة من حياة ابن مالك رحمه الله تعالى ......................


نبيل القيسي
26-10-2016, 12:18 PM
لقد أدارت الدُّنيا ظهرَها للعلماء العاملينَ قديمًا؛ لإعراضهم عنها، واحتقارِهم لشأنها، وانشغالهم بأمور الآخرة، والآخرةُ خير وأبقى، فعاشوا فقراءَ، وهم بما قدَّموا لأنفسهم من خيرٍ سعداءُ.

ومن هؤلاء الذين عاشوا فقراء في دنياهم، وعُدُّوا من المفلوكين: العلَمُ النحْويُّ الشهير، والفقيه اللغويُّ الكبير، الذي سَلَّمَته العربيةُ مقاليد خزائنها النحوية والصرفية واللغوية في القرن السابع الهجري في حين ضَنَّتْ بها على آخرين: أبو عبدالله محمدُ بن عبدالله بن مالك الطائي الأندلسي الجَيَّانيُّ، صاحب التصانيف المبسوطة والمختصرة، شيخُ النحاة في عصره، قيل عنه: "خرَج من الدنيا ولم يتعلَّق بأعراضها، ولا قَرْطَسَ سهْمَهُ في أغراضها "، وقرَّر صاحب (الفلاكة والمفلوكون) أنَّ هذه المقولة والفلاكة عبارتان عن معنى واحد[1].

ولم أرَ فيما كُتِبَ عن ابن مالك من دراساتٍ وقفتُ عليها، أو أبحاثٍ دارت حول آرائه ومواقفه من العلماء، أو تُراثٍ له تَمَّ تحقيقُه ونشره، لم أَرَ الصفحةَ الأخيرةَ من حياته، التي تُشبه الصفحةَ الأخيرة من حياة إمام النحويينَ الأول سيبويهِ رحمه الله تعالى.

فكلاهما مات غبنًا وقهرًا، وهما بالعِلم حيَّانِ؛ فسيبويه إثر (المسألة الزُّنبوريَّة) المشهورة، وما دار حولها من نقاش وحوار، لم يَسَعْه إلا أن خرج إلى بلاد فارس، وأقام بها حتى مات، سنة 180هـ، وابنُ مالك بعد أن نُزعت منه خطبة الجمعة ببعض قرى دمشق كاد أن يموت، وكانت عونًا له على حياته مع شدة الاحتياج وضيق الوقت، وأُسندت الخطبةُ إلى جاهل من جهلة دمشق، ومع جهله الظاهر على يد ابن مالك التفت حوله العامَّةُ، وجعلت منه شيئًا ذا بالٍ؛ فحزن ابنُ مالك لذلك، ومات بعد أيام قليلة، سنة 672هـ.

جاء في (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ)[2]: وممن مات بآخرةٍ غبنًا الجمالُ بن مالك، راويةُ جزيرة العرب نحوًا ولغةً، فإنَّهُ مع أوصافه الجليلة، وكونه كان على جانب عظيم من الاحتياج وضيق الوقت، عورض فيما استقر فيه من خطابةٍ ببعض قرى دمشق من بعض جهلتها، وانتُزعت منه له، فكاد أن يموت، سيما وقد حضر الجمعة، وسأل الجاهلَ المشار إليه بعد فراغه من الخطبة والصلاة عن مَخرَج الألف، فتحيَّر، وظنَّ أنَّهُ كلَّمَهُ بالعجمية، ثم عدَّد له حروف الهجاء مبتدئًا بالألف، وسردها، فصاح العامَّةُ الذين تعصبوا لهذا الجاهلِ سرورًا؛ لكونه سُئِلَ عن مسألةٍ فأجاب بتسع وعشرين إجابة، وما وجد الجمالُ ناصرًا، بل استكان، ومات بعد أيام يسيرة[3].

رحم الله تعالى سيبويهِ وابنَ مالك ذَوَيِ النهاية المتشابهة، وجزاهما عن العربية وأهلِها خيرَ الجزاء، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد النبيِّ العربي وعلى آله وصحبه وسلَّم.

[1] ينظر: الفلاكة والمفلوكون؛ لشهاب الدين الدَّلْجي المصري، 64.
[2] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ؛ لمحمد بن عبدالرحمن بن محمد شمس الدين السخاوي ت 902 هـ، نشر الأستاذ/ فرانز رُوزنثال، ترجمة د/ صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1407هـ 1986م.
[3] ينظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ، ص 62.

د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن