المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين الزهد والسلطان


النهر الأزرق
27-04-2010, 08:26 AM
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وزهدك يا محمد ؟ زهدك وقد أحلت لأمتك الطيبات ، وحببت إليك؟ . هذه أم سلمة زوجك تصف ما وجدته فى ليلة عرسها : نظرت فإذا جرة فيها شئ من شعير ، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب . فأخذت ذلك الشعير فطحنته ، ثم عصدت البرمة ، وأخذت ذلك الكعب فأدَّمته ؛ فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أهله ليلة عرسه !! وكل كلام بعد هذا الوصف الساذج الصادق فضول غث فى التعليق على زهد الرجل الذى لم يؤت أحد فى زمانه سلطانا على أصحابه كما أوتى ، لولا أنه يرى برهان ربه رأىَ العيان ، فتصغر فى عينه الدنيا وما فيها ..ويؤثر على نفسه ولو به خصاصة ويؤثر على آله ولوبهم خصاصة ولايدخرلغده شيئا.أليس وقد قبض ودرعه مرهونة عند يهودى فى قوت عياله ؟ ومن هو ؟ هو السيد غير منازع ، وقد أوتى الفتح المبين ، وعنت له رؤوس المعاندين ، ولكنه كان مشغولا بأن يسود نفسه لا بأن يسود الناس . لهذا كان ينام على حشية من ليف. ولم يبلغ من طعام حد الشبع . ولم يطعم خبزالشعيريومين متواليين ، وجل طعامه التمر . لايتفق له ولآله أكل الثريد كثيرا. وكم من مرة ربط على بطنه حجرا ليقاوم الجوع حين تشتدعليه . وهذه عائشة أصغر زوجاته وآثرهن لديه بعد خديجة تصف طعام زوجها العطيم الذى لم يؤت كسرى ولا قيصر مثل سلطانه على قومه : لم يأكل خبزا مرققا ولا أكل خبزا نقيا . وقد جاءت إليه فاطمة أبنته يوما بكسرة خبزفقال : ماهذه الكسرة يا فاطمة ؟ قالت : قرص خبز خبزته فلم تطب نفسى حتى آتيك بهذه الكسرة . فقال صلى الله عليه وسلم : إما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام ! ودخل أبوبكر بيت النبى ليلا ، فلم يجد سراجا. فسأل إبنته عائشة : أما لكم من سراج ؛ فقالت : لوكان لنا ما نسرج به لأكلناه ! وماذا يُسْرَج به ؟ الدهن أو الزيت ، وذاك ما كان يعوز نبيا وهولايعوزأفقر أتباعه الذين يفدونه بالنفس والنفيس .
قمة شاهقة فى الزهد لا يطيقها كثيرون .فلاعجب أن نرى زوجاته يتضجرن بهذا الضيق ، وهو الذى يملك خمس الغنائم بشريعة القرآن ، فيهلك ذلك فى الصدقات ولا يستبقى لآله من الطيبات شيئا ، حتى يتحسرن على ما يوقد به السراج ليأكلنه عسى أن يرد عنهن غائلة الجوع . وهن يرين زوجات أدنى المؤمنين شأنا أوسع منهن رزقا وأحظى بالرفاهية والزينة .
وصارحنه بما فى نفوسهن من الضيق بهذا الضنك ، فآلى أن يعتزلهن جميعا شهرا من الزمان ، حتى تحدث الناس أن النبى طلق أزواجه . وذهب النبى فعلا يُخيِّرهن بين الطلاق والرضى بما أخذ على نفسه من المعيشة ، وليس يعنينا هاهنا أنهن جميعا اخترن الحياة معه على الوجه الذى يريد لنفسه ولهن ، فما كان يدرى شيئا من هذا حين خيرهن ذلك الخيار ؛ بل كان موطنا نفسه على أنهن قد يخترن ما تصبو إليه نفوسهن من زينة الحياة الدنيا .. وكان مستعدا لهذا الموقف، مؤثرا زهده على كل شئ !..
وعمر الزاهد المُخشَوْشَن ليس فى زهده إلا تلميذا لهذا الزاهدالمطبوع . وقد رآه يوما وقد أثر فى جنبه الحصير الذى يفترشه لنومه فقال له : يارسول الله قد أثرفى جنبك رمل هذا الحصير ، وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله !؟ فاستوى النبى جالسا وقال أفى شك ياإبن الخطاب ؟ أولئك قوم قد عجلت لهم الطيبات فى الحياة الدنيا !
ذلكم هوالرجل الذى كان الزهد عنده طبعا لاضرورة . وغنى نفس لافقرا ولاعجزا ... فإنه كان أقدر القادرين على البذخ ، لولا أن الإقتدار على نفسه كان مُقدَّما عنده على الإقتدار على المنعم والطيبات .
وفتنة السلطان ياأبا القاسم ما عرفت شيئا يُغير الرجال ويمتحن معادنهم مثل فتنة السلطان ومارأيت رجلا - إلا أقل القليل- لم تغيره بوادرالنفوذ ، ولم تدر برأسه خمر السلطة .. فإذا خيلاء وصَيَد تتغثى له النفس ، حتى ليصدقنى قول القائل فيهم أنهم ينحطون باطنا كلما ارتفعوا ظاهرا . وما سلطان هؤلاء الهلافيت فى جانب ما اوتيت به من السلطان ياأبا القاسم ، يالسان السماء ، وياحاكم الدنيا ، ويامن لايعلو سلطانك على أتباعك من بنى آدم سلطان فليس فوقك إلا المُهَيمن الأحد ؟ هباء سُلطان أولئك جميعا مهما علوا واستطالوا إلى جانب سُلطانك ، أوأهون من الهباء .. وما فتنك سلطان ، وقد انتهيت من العنت والبأس والحصار والمطاردة ، إلى النصر المؤزر ، والفتح المبين والطاعة العمياء والسؤودالذى لم ينبغ لأحد من قبل ولامن بعد !
تذهب مع أبى هريرة إلى السوق فتشترى لنفسك سراويل ، ويثب البائع إلى يدك يُقبِّلها ، فتجذب يدك من يده مُسْتنكِراوتقول له : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك ، إنما أنا رجل منكم ..." رجل منكم " وما كان ملك من ملوك الأعاجم أوغير الأعاجم أبعد منك نفوذا فى قومه ، ولا أمضى كلمة وسلطانامنك فى رعاياه .. ولكنها عصمة الله التى عصمك بها من فتنة ذلك السلطان ، وإنه لكبير ... كبير أجل أمر ذلك السلطان ، وكبير أجل ماقام عليه من الحق والهدى والفضل العميم ... ولكن لُباب المسألة كلها أنك كنت أكبر من سلطانك الكبير .
ويأتيك رجل من الأعراب ليبايعك يوم الفتح المبين ، وأنت فوق قمة السلطان ، فتأخذه الرهبة بين يديك ويرتعد ؛ فتأخذك من ذلك دهشة رائعة فى بساطتها وتقول له : هون عليك لست بملك ! إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة!
إنى والله لأخجل من قوم أراهم بعد ذلك يأخذهم الزهو بالمنصب ويركبهم الإفتتان بالسلطان ، وأنا أتمثلك فى هذا الموقف الذى لاتدانيه فى علوه وقفات العواهل الفاتحين . وإن مجد هذه الكلمة وحدها ليرجح فى نظرى فتوح الغزاة كافة ، وأبهة القياصرة أجمعين ...
أنت بأجمعك فى هذه الكلمة ، وما أضخمها أيها الصادق الأمين ! . ثم سلام على الصادقين .