المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خُلق التَّغَافل ...!!!...........


نبيل القيسي
26-02-2019, 02:23 PM
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ اتصاف المسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب-أيها الأحباب- لهو من أهم الأسباب المعينة له بإذن العزيز الوهاب على تحصيل الخير والتوفيق للصواب ، يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب ". مدارج السالكين (2/390)
ومن الأخلاق الجليلة و الصفات النبيلة التي تدل على رِفعة العبد وسموه بين أقرانه – أيها الأفاضل- خُلق التَّغافل ، الذي هو إظهار الغفلة والتغاضي عن عثرات الآخرين،سواء كانت في حق المتغافل أو غيره، تَكرمًا منه وترفعًا، مع العلم بها والاطَّلاع عليها،والاجتهاد في بذل النصح والتَّذكير للمقصرين دون إحراجهم أو التَشهير بهم، يُقال:"(تغافل)- أي- تعمد الغَفْلَة وَأرى من نَفسه أَنه غافل وليس به غفلة ". المعجم الوسيط (2/657)
فهو خُلق كريم وأدب قويم، من تحلَّى به من العباد ارتفع بين الناس وساد، يقول الإمام أيوب السختياني ( ت: 131هـ) – رحمه الله- :" لا يَسُودُ الْعَبْدُ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالتَّغَافُلُ عَمَّا يَكُونُ مِنْهُمْ ". سير السلف الصالحين للأصبهاني (ص699)
ويقول الشاعر :
مَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَسُودَ عَشِيرَةً ... فَعَلَيْهِ بِالتَّقْوَى وَلِينِ الْجَانِبِ
وَيَغُضُّ طَرْفًا عَنْ مَسَاوِي مَنْ أَسَى ... مِنْهُمْ وَيَحْلُمُ عِنْدَ جَهْلِ الصَّاحِبِ ". الآداب الشرعية لابن مفلح (3/555)
ولذا لا يتصف به إلا من كان من أهل المروءات، يقول الإمام عمرو بن عثمان المكي – رحمه الله- ( ت: 297هـ): " الْمُرُوءَةُ: التَّغَافُلُ عَنْ زَلَلِ الْإِخْوَانِ " شعب الإيمان (8025)
ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" من المروءة .... التَّغافل عن عثرات الناس ، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرةً". مدارج السالكين (2/335)
ولا يتخلَّق به من الأنام - أيها الأحبة- إلا أهل الجود الكِرام ، يقول الإمام سفيان الثوري – رحمه الله- :" ما زَال التغافل من فعل الكرام ".تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ( 28 / 353)
ووجُوده في العبد يدل على رَجاحة عقله وقُوة شخصيته، يقول أمير المؤمنين معاوية – رضي الله عنه- :"العقلُ مِكيال ثُلثُه فِطنة، وثلثاه تغافل ".العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ( 2/ 97)
فمن تحلَّى به من المسلمين فسيكون في هذه الدنيا الفانية من أهل الخير والسعادة والسرور، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: " العافية عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، كلُّها في التَّغَافُلِ". شعب الإيمان للبيهقي(8028)
وسيُحفَظ كذلك بإذن العزيز الغفور من أكثر الآفات و الشُرور ، يقول الإمام الأعمش - رحمه الله- :" التَّغافُل يُطفئ شرا كثيرا ".شعب الإيمان (8459)
إنَّ النَّاظر في حال وسيرة ومعاملات من اتَّصف بهذا الخلق الكريم مع الآخرين ليجدنَّه دومًا قابلاً لعُذر من أساء إليه، غير مُتَّبع لعثراته ، ولا مُدققًا في زلاَّته ، آخذا بالظاهر و مُوكلاً للخالق ما في الضمائر، وهذا كله دليل على تواضعه وعدم تكبره وعُجبه بنفسه، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإنَّ التَّواضع يُوجب عليك قبول معذرته حقًا كانت أو باطلاً، وتَكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو، فلما قَدِم جاءوا يعتذرون إليه فقَبل أعذارهم، ووكَّل سرائرهم إلى الله تعالى ".مدارج السالكين ( 2/ 337)
فقلبه الطَّيب! لم يتغلغل إليه الحقد! ولم يتسرب له الحسد! ولذا لا نراه يفرح بعثرات إخوانه ولا يشمت بهم، بل يحزن عليهم وينصحهم ويمد يد العون لهم، حتى وإن أخطؤوا في حقه ، يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"يتوجع- أي المؤمن- لعثرة أخيه المؤمن إذا عَثَر،حتى كأنه هو الذي عَثَر بها، ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته".مدارج السالكين (1/435)
فما أجمل أن يتزين المسلم بهذا الأدب الجميل و الخلق النبيل عند التَّعامل، وخاصة مع أقرب الناس إليه، كالأب مع ابنه والعكس،وكذلك الزوج مع زوجه و العكس،وأيضا الأخ مع أخيه والصَّديق مع صديقه،لتسود المودة وتستمر المحبة، وليقطع بإذن الله الطريق أمام كل مُفرِّقٍ ومُبغضٍ ومُفسدٍ.
فطُوبى لكلِّ من رُزق الاتصاف بهذا الخلق الرفيع؛ فقد وُفِّق بفضل الكريم القدير لخير كبير ، وليجتهد من لم يتحلى به في بذل الأسباب المعينة له على تحقيقه بإذن العزيز الوهاب، ومن ذلك قراءة ما جاء في فضله بصفة خاصة و غيره من الأخلاق الفاضلة بصفة عامة،وأيضا عليه أن يطلع على سير و أخبار من اشتُهر به من السابقين الصالحين و العلماء الربانيين ،وكذلك عليه أن يحرص على مصاحبة من عُرف به؛لأن الصُحبة مؤثرة على المرء،إما بفساد حاله أو استقامته، يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- : "من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار. ومن عقوبته لعبده، أن يبتليه بصُحبة الأشرار.
صُحبة الأخيار تُوصل العبد إلى أعلى عليِّين، وصُحبة الأشرار تُوصله إلى أسفل سافلين.
صُحبة الأخيار تُوجب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وصُحبة الأشرار: تَحرمه ذلك أجمع".بهجة قلوب الأبرار ( ص 221)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُوفِّقنا وإيَّاكم لكل ما فيه الخير والسُّرور، ومن ذلك التَّحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة كخُلق التَّغافل، وأن يُجنبنا جميعًا الوقوع في الآفات والشُّرور ، فهو سبحانه وليُّ ذلك و العزيز الغفور.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



أبو عبد الله حمزة النايلي