المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أين مستقر الأرواح بعد الموت ؟


نبيل القيسي
03-05-2019, 08:59 AM
س: أين مستقر الأرواح بعد الموت؟

ج: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة؟ هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة والنار أم لا؟ وهل تُودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟



فهذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تُتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك:

فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله، شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرةٌ ولا ديْن، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة، وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم.



وقالت طائفة: هم بفِناء الجنَّة على بابها، يأتيهم من رَوحها ونعيمها ورزقها.



وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.



وقال مالك رحمه الله: بلغني أن الروح مُرسَلة تذهب حيث شاءت.



وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة.



ورُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببرهوت (بئر بحضرموت).



وقال كعب رحمه الله: أرواح المؤمنين في علِّيِّين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سِجِّين في الأرض السابعة تحت خد إبليس.



وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.



وقالت طائفة أخرى، منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.



بعد عرض ما سبق يترجح لنا أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت.



أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عِليِّين، في الرفيق الأعلى، وقد سمِعَت السيدةُ عائشةُ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم- في آخر لحظات حياته يقول: ((اللهم الرفيق الأعلى))؛ (البخاري).



وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء، وهذا قول ابن القيم وشارح الطحاوية.



قال ابن رجب - رحمه الله - في "أهوال القبور": "أما الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فليس فيهم شكٌّ أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين".



ثانيًا: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يُرزقون.

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].



وقد سأل مسروق - رحمه الله - عبدَالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: "إنا قد سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: ((أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل مُعلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل))"؛ (رواه مسلم في صحيحه).



قال النووي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: قال القاضي عياض: "وفيه أن الأرواح باقية لا تَفنى، فينعَّم المحسن ويُعذَّب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السنة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضر، تَرِد أنهارَ الجنة، وتأكل من ثِمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهب، مُعلَّقة في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يُبلِّغ عنا إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق، لئلَّا يَنكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ قال: فقال الله عز وجل: أنا أُبلِّغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]"؛ (أحمد).



وفي "صحيح البخاري" عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمُّه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، قد عَرَفت منزلة حارثة منِّي، فإن يكن في الجنة صبرتُ واحتسبت، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ قال: ((ويحك! أَوَهبلتِ؟ جنَّة واحدةٌ هي؟ إنها جنانٌ كثيرة، وإنه في جنة الفردوس)).



وقال صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ جعفر بن أبي طالب ملَكًا يطير في الجنة مع الملائكة بجناحَين))؛ (الترمذي).



الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيورًا تعلُق شجر الجنة.



قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما نَسَمة المؤمن طائر يَعْلُقُ[1] في شجر الجنة، حتى يبعثه الله إلى جسده يوم يبعثه))؛ (رواه مالك وأحمد والنسائي عن كعب بن مالك عن أبيه، وهو في صحيح الجامع: 2373).



قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهناك أحاديث على اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وهناك أحاديث تدل على انفراد الروح وحدها كالأحاديث السابقة، ثم قال شيخ الإسلام: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تُنعَّم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله، وإنما تُنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حقٌّ، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت" عن مالك بن أنسٍ قال: "بلغني أن الروح مرسَلة تذهب حيث شاءت".



الرابع: أرواح العصاة: وستأتي النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب.

فمن ذلك أن الذي يَكذِب الكذبةَ تبلغ الآفاقَ يُعذَّب بكلُّوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يُشدَخ رأسه بصخرة، والزُّناة والزَّواني يُعذَّبون في ثقب مثل التَّنُّور، ضيِّق أعلاه وأسفله واسع، تُوقد النار من تحته، والمُرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشطِّ من يلقمه حجارة، وهناك من الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنَّميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة، ونحو ذلك.



الخامس: قال ابن القيم: "ومنهم: من يكون محبوسًا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: ((رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة)).



وعن سمُرة بن جُندب، قال: "صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فلما انصرف قال: ((أها هُنا مِن آل فلان أحد؟)) فسكتَ القوم - وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا - فقال ذلك مرارًا ثلاثًا، فلم يجبه أحد، فقال رجلٌ: هو ذا، فقام رجلٌ يجرُّ إزارَه من مُؤخر الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما منعك في المرَّتَين الأُولَيَين أن تكون أَجبتَني؟ أما إني لم أُنوِّه باسمك إلا لخير، إن فلانًا - لرجل منهم - مأسور بدَيْنه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله عز وجل))"؛ (أبو داود).



السادس: مَن يكونُ مقرُّه بابَ الجنة:

قال ابن القيم في "الروح" (ص 154): "ومنهم من يكون مقرُّه باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبَّة خضراء، يخرج رزقهم من الجنة بُكرة وعشيَّة"؛ (رواه أحمد).



وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب؛ حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.



السابع: أرواح الكفار: في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند النسائي: بعد أن وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض رُوحه: "تَخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به بابَ الأرض، فيقولون: ما أنتنَ هذه الرِّيح! حتى يأتون به أرواح الكفار".



الثامن: أطفال المشركين، والراجح أنهم في الجنة كما مرَّ بنا.


الشيخ ندا أبو أحمد