المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كلمات في العيش مع القرآن...................


نبيل القيسي
16-05-2019, 04:47 PM
مقدمة: تعمَّدتُ ألا أُرسل هذا المقال في الموسم؛ حتى يستمر عيشُنا مع القرآن في رمضان وغير رمضان، والعيش مع القرآن بالمجمل لحظاتٌ ثمينة تَقتات عليها أرواحُنا، تنتعش نفوسُنا، تتغذى عقولنا وأفكارُنا، ويَصطبغ سلوكُنا بما جاء في كتاب الله تعالى، فيستقيم عملُنا بعون الله أُسوةً بالحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد "كان خُلقه القرآن"؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم، وقال النووي فيه: "معناه العملُ به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبُّره وحُسنُ تلاوته"؛ فهذا العيش يكون تلاوة وفَهمًا وتفسيرًا وتدبرًا وحفظًا، وهي حالات تتآزَر وتتكامل، والتدبر عاملٌ مشترك بينها، ومتداخل معها، أحيانًا يَضُمُّها وأحيانًا تَضُمُّه، وقال ابن تيمية متدبرًا قوله تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [العنكبوت: 45]: "وتلاوة الكتاب هي اتِّباعُه والعملُ به"، واستشهد المؤلف بكلام ابن مسعود في قوله تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، "قال ابن مسعود: يُحِلُّون حلاله، ويُحرِّمون حرامه، ويؤمنون بمتشابَهه، ويعملون بمُحْكَمه"[1]، وفي قوليهما معانٍ عظيمة تغيب عن أكثرنا اليوم، وتدخُل في المعنى العام للتدبر كما سنرى.



وبهذا فإن سعادة العيش مع القرآن - وهي مصدرٌ للسعادة بشكل عام - تتحقق بتدبُّر آياته؛ لا سيما ونحن في زمن تنتشر فيه الأمراضُ النفسية، وتشحُّ مصادرُ السعادة الحقيقية، ويشيعُ الضيقُ والتبرُّم، وغيابُ الطمأنينة وفَقْدُ السكينة.



لذا سأتحدث قليلًا عن تدبر القرآن في ظل المعاناة مِن هَيمنة الفصل والانفصال عن القرآن الكريم، بوجود حواجز وهمية تجعل أكثرَنا يقرأه ككتاب تاريخ، فنُحرَم من سعادة انطلاق أرواحنا معه، ومن انتفاع عقولنا وأبداننا من كلِّ كلمة فيه! وإن يكن الشائعُ هو تدبر الآيات، إلا أن التدبر يشمَل السورة كاملةً، والكلمة القرآنية، وربما الحرف!



• كيف أتدبر آيات كتاب الله[2]:

(أ) العلم: أن أعلمَ ما هو التدبر ومعناه:

• نجد في تعريف علماء الأمة لتدبر كتاب الله:

• إن التدبر هو التفكر والتأمل، والنظر بالعواقب؛ كما جاء في تفسير سورة النساء من قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وقال البغوي فيها: "أفلا يتفكَّرون في القرآن، والتدبر: هو النظر في آخر الأمر".



• وهو التفهُّم والعمل بالتنزيل؛ قال الشوكاني في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]: "فيعملون بما اشتمَل عليه".



• إنه علمٌ بمرامي آيات كتاب الله، مبنيٌّ على التفكر والتأمل، واتِّعاظٌ وعملٌ بما فيها، تشترك فيه الجوارحُ مع القلب.



وبجمع المعاني، فإن تدبُّرَ كتاب الله يقتضي المزاوجة بين التفكر والعمل، فهما متلازمان يترتَّب على تلازُمهما التوجهُ بمضامين التدبُّر للذات، ونُسقطها على الواقع، فنُحيل معانيها عيشًا حقيقيًّا بكلِّ ما فيها من الدعاء والرجاء إلى التربية والتعليم، إلى التشريع والاقتصاد.



(ب) أن أسعى في التدبر وتحقيق معانيه؛ قال الجرجاني معقبًا على أن التدبر هو النظر في عواقب الأمور: "وهو قريبٌ من التفكر، إلا أن التفكرَ تصرُّفُ القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرُّفه بالنظر في العواقب".



ولاحِظ أخي القارئ مِن قوله أن هنالك تصرُّفًا؛ أي: عملًا يقوم به أحدُنا بإملاء القلب، فأنت إذ تتدبَّر فاعلٌ، ولستَ فقط منفعلًا، مع تأكيد أن عملك يَسبقه إلْمامُك بتفسير صحيح للآيات، ويرتبط به، فإن كان الفهم والتفسير خاطئًا، جاء التفكر والإسقاط، (أو النظر بالعواقب) خاطئًا، وهذا من مصادر الشَّطط في التدبر الذي يَكثُر اليوم مع الأسف[3]، ومن الأهمية بمكان معرفة العلاقة بين التدبر والتفسير، وستكون موضوع حلقة قادمة مع الأمثلة بإذن الله، وعليه فإن المتدبر:

1) يجب أن يلمَّ بمعاني الآيات وتفسيرها.

2) ويتفكر ويتأمل فيها.

3) ويُدرك ما تَؤول له عمليًّا، فيعرض نفسَه عليها، وكذلك أسرته ومجتمعه اتِّعاظًا واتباعًا، فكريًّا وعمليًّا.



وتلك أركان ثلاثة تلزم كلَّ متدبِّر للآيات، وإن ثالثها هام لدرجة أن بعض علمائنا اعتبروا أن هذا هو التدبُّر، ففي قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]؛ قال الحسن البصري رحمه الله تعالى متذكرًا ومذكرًا - فهو مِن أولي الألباب -: "وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه، والله يعلم، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده".



وهذا يؤكد أن التدبر جمع القول والتفكر والعمل، والإسقاط على واقعنا بلغة العصر, وأنه يمثِّل تطبيقًا عمليًّا لتَوْءَمةِ الإيمان والعمل[4]، وعيشًا حقيقيًّا مع القرآن، ولأهمية هذا الركن الثالث أفرده بالبيان.



أهمية التفاعل مع الآية والإسقاط على الواقع أثناء التدبر: وترجع أهميته لأمرين:

• زيادة على أنه ركنٌ، فهو هدف للتدبر: بتحقُّقه ينتشر أثرُ القرآن والفائدة منه والعمل به.



• ولأن معظمنا لا يُحسنه، فعندما أقول: يتم لك تدبُّر القرآن عندما تَمتزج مع الآيات، وتُحيلها واقعًا ما استطعتَ، يأتيني السؤال: كيف أمتزج مع القرآن؟! فهذه اليوم معضلة في التدبر عند كُثُرٍ ممن عرَفت، لكنه ليس أمرًا صعبًا بإذن الله بالمتابعة والاستعانة بالخطوات هنا، وفي البحوث والكتب الموسعة، وسماع وقراءة الأمثلة، ومثلًا كتبتُ على قصاصة متدبرة وأنا أتلو قوله تعالى: ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87]، "داخرين؛ أي: صاغرين أذِلاء بعد البعث، كلٌّ على الإطلاق، فتنبَّهي! وكائنًا مَن كنت، انظُر للمشهد من الداخل أنا وأنت، أحدهم وكلٌّ منا، حقًّا وعملًا، وليس فقط لفظًا ولا تَخيُّلًا"، وهذا التدبر الذي بدأته بالفهم: تفسير داخرين، ثم تأملتُ المعنى، وأسقطتُه على واقعي بشموليَّة وإيجازٍ، وهو أحد أوجه الامتزاج مع الآيات، والمهم أين يُسْقِطُ المرءُ ما يتدبَّره؟ لو كان على نفسه وعلى غيره بنفس القدر من الجدية واليقين العملي، لكان صلاح الحال أقربَ لأُمَّتنا! ولكن هناك صورة تتكرَّر؛ كأنَّ واحدنا يلبَس ثوبًا فضفاضًا، ويُلقي ما يتدبَّره في جيوبه، وأفضيته هنا وهناك، ثم أبعد عن يمينه وشماله وخلف ظهره، فإن خيِّر بين نفسه والأقربين، أسقَطه على الأقربين - (على الأخ والولد أو زوجته، وعلى الزوج أو والدته، وعلى الجار وقريبه) - ثم على البعيد لا القريب - (شريكه أو مديره ومرؤوسه) - ومع العولمة قد يُسقطه على المجتمعات الأخرى في كل مكان إلا نفسه! فالإسقاط وإن كان عامًّا أو حتى شديد العموميَّة، فهو لا بد أن يخص، فنحن بشرٌ لا ملائكة! ومن لم يصلح بتدبُّره نفسه أولًا، فقد فوَّت نعمةً عظيمة أنعمَها الله عليه حتى يتداركها! ولو انتفَع من تدبره خلقٌ، إلا أنه ظلَم نفسه، وقد يقع في حِمى مَن يدعو للخير ولا يفعله، لا سمح الله.



(ج)- سمو الروح وتنمية موهبة الإحاطة: أنت مفطور على السمو برُوحك، وهذا العيش مع القرآن سيرتفع بك؛ إذ يعيد إلى فِطرتك نقاءها، ويجلوها إن غشاها الرانُ، وأفقدك التفاعلَ مع كلام ربك! وهو ما يعاني منه أكثرُنا! فتستعيد سلامتَها بتطهيرها من الفيروسات المفسدة والملوثة! وعندما تَملِك المقدرةَ على السمو والإحاطة انطلاقًا من الفطرة السليمة، تحلِّق روحُك مع الآيات، وينشرح صدرُك لتدبُّرها، فالنقاء والإحاطة سبلٌ للتدبر، كما أن الحفاظ عليها وتنميتها من ثمراته!



وأسوأ الحالات: الفطرة السليبة التي ابتلعتْها وُحولُ الماديات ومستنقعاتها الآسِنة! فيُصبح الأمر أكثرَ صعوبةً، ولكنه يبقى مُمكنًا بالإرادة، ومع الوقت والتَّكرار، والمزيد من الإيمان - (فالإيمان يزيد وينقص) - وبالعيش مع القرآن والحديث، تلك الأوساط المغذية للرُّوح، ستنجح في التفوق على الرؤية المسطحة للأمور الباهتة! وغالبًا أنت تَملِك موهبةً الإحاطة، ولكنها مُهملة بسبب التسطيح والاستسلام للتكبيل الأرضي: (التأريض بالمصطلح الفيزيائي)؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]، والإحاطة هنا ألا تَمشي مكبًّا، بل أن تنظُر للمشهد الحياتي أيًّا كان: ناس وبيئة، أفكار وأعمال، من خارج الإطار، دون أن تُغفلَ أنك عنصرٌ من المشهد! وكنت كتبت في تدبر هذه الآية: راقبنا ونحن نسير مكبين، ثم ضع زبالة الدنيا هدفًا، وراقبنا ونحن نسير إليه مشمرين: واقعٌ معاش وحصاد خاسر! كأني بنا نلهث وراء "الهباء المنثور": منذ الخطأ في تحديد الأهداف وصولًا للقصور والتقصير في تصحيحها: الوسائل والأهداف! ومع الانكباب على الوجه تفقد المقدرة على الإحاطة، تتعثر بالخيط فتراه حبلًا، وتنشغل بالنفايات عن الجمال والنقاء الذي سخَّره الله لك، وعن أصل الأمر أو المشكل، وحلوله بالتفاهات والذيول! وتسد الشهوات عليك المنافذ، فيشح أكسجين الروح!



فلإتقان التدبر حاوِل أن تُخرج نفسَك من الإطار، لا تَستسلِمْ وكرِّر ذلك بين الفَينة والفينة، ارتفِع بنفسك، فأنت أَسمى مما تفعل بها، والله أراد بنا خيرًا لو نعلم! وتدبر قوله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، تجد لسانك يَلهج بالدعاء: ربَّنا تُب علينا، وألْهِمنا ألا نغفل عن مكانتنا التي أردتَها لنا سبحانك، أنت الرحمن الرحيم، اللهم اغفِر تقصيرنا، وأعِنَّا على ذكرك وشُكرك، وحُسن عبادتك، (وهذا من ثمار التدبر: الدعاء)، وسيُسعدك أن تقدِّم لروحك المزيدَ من الأكسجين مع كتاب الله، وأنت تلقي نظرة على المشهد بكامله مِن عل.



(د) تجديد النية ومشيئة الاستقامة: والنية هي مبتدأ الأمر، وإن لم نُشر لذلك في أول المقال؛ (لأنه معلوم)، ومع كل تدبر للقرآن من المهمِّ تجديد النية وتنقيتها؛ لتكون خالصة لوجه الله في تعلم التدبر والعمل به وتعليمه! وأن تتوفَّر لدينا مشيئة الاستقامة والتثبُّت، والتنزه عن تدبُّر فيه لَيٌّ لأعناق النصوص؛ قال تعالى:﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴾ [التكوير: 27، 28]، ذلك أنَّ كلام الله لا يقبَل العِوَجَ في الوسائل مهما شرُفت الغايات؛ قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]: كلما فتحت القرآن افتَح قلبك وعقلك، وتذكَّر أن الأمر منوطٌ بك أنت؛ لتأمَن الزَّيغَ عن الاستقامة رغم الوضوح سبحان الله، واليوم ما أكثر المضلين! يزيغون وهي "بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك"[5]! فكيف لو كانت رمادية معتمة مُدْلَهِمَّةً؟!



واجتهِد في جسر الفجوة بين القول والعمل، وإلا فهي ليست استقامة إن اقتصَرت على التنظير!



التعبير العملي عن التدبر: ويرتبط بالآيات وحالة المتدبر؛ ولكلِّ إنسانٍ أسلوبُه في تحقيق التدبر، وما نذكره للاستئناس:

1- تأثر الجوارح:

أ- وتعبيرها التلقائي عن امتزاج فيض الأفكار والمشاعر عند التدبر، يكتب فيه صفحات، وهو يكون بالاستعبار، ووجل القلوب، والرقة والبكاء، والسجود؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وفي الآية نجد استجابة الجوارح قبل وخلال وبعد التدبر، وقال تعالى يصف خوف قريش من "التأثر"، وأن تقوم الحجة عليهم بالتدبر: ﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وهذا بإيجاز شديد.



ب- وتعبيرها المقصود بإسقاطنا الآيات على سلوكها: (اليد والقدم، واللسان، والعين والأذن، وحتى الجلد!)[6].



2- البيان بالقلم واللسان: وذلك بالمتاح من وسيلة وزمنٍ ومكان، من جلسة سمر عائلية إلى محاضرة في مؤتمر، مرورًا بالكتابة والنشر، والموعظة والاتِّعاظ والدعاء؛ وقد يتم تأليفُ بحثٍ أو حتى كتابٍ، انطلاقًا مِن تدبر آية! تَخيُّل! ورحم الله القدماء كانوا يتدبرون القرآن بدقة الكلمة الواحدة! فابن تيمية ألَّف كتاب "العبودية" المشار له أعلاه في تدبُّره لقول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، جوابًا لسائل هو إنسان عادي مثلي ومثلكم، ولكن أهمَّتْه كلمةُ: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾؛ إذ ذهب يتدبرها ويُسقطها على الواقع، فسأل أعلمَ منه: "فكيف نعبُده"؛ فكان سببًا لانتفاع الأمة بهذا المؤلف الحافل بتدبُّر الآيات! ندعو الله له بظهر الغيب أن يَجزيه خيرًا، ويُمكن الاستعانة بالميديا الحديثة، وكل طرق التواصل المرئية والمسموعة ضمن ضوابط العمل الإعلامي الإسلامي؛ إذ تقتضي المصلحة ذلك لنشر التدبر وتوظيفه لخدمة الإسلام ورحمة للعالمين.



3- والمدهش أن الآية عينها قد يتدبرها الإنسانُ بأشكالٍ مختلفة في جلساته المختلفة مع القرآن؛ إذ تتنوَّع الإشراقات، وتزيد المداخلُ إلى واقعه في كلِّ مرةٍ، وكأنه يغرف من نبع ثرٍّ، كما أن تصريفه تعالى الآيات؛ أي: تَكرار القول بأساليب مختلفة لمواضيع متشابهة، يعطيك تلك السعادة في التدبر وإعمال الفكر، وتعدُّد الثمرات، علاوة على ما فيه من إعجاز.



لمن يُتاح التدبر: التدبر هو لك ولي، ولكل مسلمٍ، فابدأ أخي القارئ، وكرِّر وعالِجْ موانعَ التدبر بعد تحديدها، (ولعلنا نتناولها في لقاء آخر)، المهم ألا تَهجُر، وقد جعل ابن القيم هجر تدبِر القرآن أحدَ الأقسام الخمسة لهجر القرآن، متدبرًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]، وكان المسلمون الأوائل يتدبرون القرآن بداهة دون تكلفٍ، وكان هذا بالنسبة لهم "حق تلاوته" كما مرَّ.



• وهو للناشئين كما للناضجين، وقد أُحدثكم عن إمكانية وأهمية التبكير في تدريب الأطفال على تدبر آيات الله.



• والتدبر هو لكل إنسان: ولكن السؤال كيف يُسقط غيرُ المسلم القرآن على واقعه؟! قد لا نعرف ما الذي يثير اهتمام هذا الإنسان أو ذاك من آيات، وأي وترٍ حساس تُصادف في نفسه وبيئته، وتَوْقِهِ للحق، وكيف يتدبرها بفطرته، وكُثُرٌ ممن أسلموا ويُسلمون يتحدثون عن تأثُّرهم بآية أو آيات سمِعوا، أو قرؤوا تدبُّرها، أو تدبَّروها هم أنفسهم، وإليكم مثال:

فتى إيطالي بيئته متدينة، يروي أنه سأل صديقه المغربي المقيم في مدينته: "هل يوجد مسيح في كتابكم المقدس"، قال: "طبعًا توجد قصته هو وأمه مريم"، وكانت هذه بداية تعرُّفه على الإسلام، بعد ذلك: ليس العجيب أنه تدبَّر وحَسْبُ، بل المدهش أن الآية التي تدبَّرها الفتى ببساطة عجيبة، وأسقطها على نفسه، فكان لها دورٌ في إسلامه هي "البسملة"! والتي يقول بعض علمائنا أنها آية وبعضهم أنها جزء من آية! يقول: (وجدتُ أنكم تقولون في أول سورة الفاتحة: "بسم الله الرحمن الرحيم"! نحن نقول: بسم الأب والابن وروح القدس، وقد أعجبني هذا، كان من أكثر ما أثَّر فيَّ عندما بدأتُ أقرأ القرآن، أنا أريد إلهًا واحدًا، أدعوه ويسمعني مباشرة ليس ثلاثة))، سبحان الله!



• التدبر: أهداف وثمار = موضوع الهدف:

قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، نجد بتدبرها معادلة طرفها الأول: هذا كتاب منزَّل من السماء، هو وحي من الله تعالى، وهو مبارك؛ أي: كثير الخير، وطرفها الثاني: ليدبَّروا آياته! فالتدبر إذًا من أهم أهداف التنزيل، وإضافةً إلى أن التدبر هدف بحد ذاته لتَنَزُّل القرآن، ولوجوده محفوظًا بين أيدينا حتى اليوم، فإن التدبر له أهداف ونتائجُ، وكما نعلم فهنالك فرق بين الهدف والنتيجة؛ حيث إن النتيجة إما مطابقة للهدف، أو تَقصُر عنه، أو تُحقِّقه وتزيد[7]، فكيف تزيد في مقامنا هذا؟ لعل زيادتها بأن الله سبحانه قد يفتح لك فتوحًا عظيمة، لم تكن تتوقَّعها وأنت تهمُّ بالتدبر، ومن أهم أهداف وثمرات تدبر القرآن:

1- العبادة: أن نتعبَّد الله تعالى بتدبُّر كتابه بالمعنى الشامل للعبودية[8]، وهو هدف مشتق من هدف وجودنا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وأن نؤدي الأمانة التي أُنيطت بنا حين رضِينا حَمْلَها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]؛ وفي جلسة تفكُّر مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، قلتُ متدبِّرةً بامتنان عميق ورضا: الحمد لله الذي عبَّدنا له وحدَه! الله تعالى أكرَمنا بأن نكون عبيدًا وعبادًا له وحده، لو أنه كان مفروضًا علينا أن نعبُدَ خَلقًا أو شيئًا، أو هوًى، أيُّ شقاءٍ وأي تعاسةٍ! يا إلهي! وأرقى الكائنات الإنسان، ولكن تخيَّل أن يَعبُدَ من دون الله أو يُشرك به! وكل إنسان إذ يتدبَّر الآيات التي تتناول العبودية لله، تُرفرف رُوحه معها راضية، فهي فطرة سليمة موجودة عند كلِّ إنسان، [وذاك مثال على الإسقاط].



2- الدعوة لله وهي من عناصر أداء الأمانة بحقِّها؛ قال عزَّ من قائل يخاطب الحبيب صلى الله عليه وسلم ونحن مِن بعده: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فإن لم نَملِك البصيرة، ولم نتمكَّن مِن استنقاذ أنفسنا، فكيف ننقذ مَن حولنا، وحتى تكون على بصيرة يجب أن تُتقن التدبُّر مع إلمام بالتفسير، وتقدِّمه لهم، أو تُعينهم عليه، وقد شاهَدنا المهتدين من الغرب والشرق يلومون تقصيرنا، ويؤكِّدون دورَ التدبر في قصص إسلامهم.



3- ومن الأهداف الهدى والإصلاح ما استطعت لنفسي أولًا، وتقويم مساري كلما زللتُ، ولمن أحبَّ مِن إخوتي في الله، ولكل إنسان يلقي السمع ويتبع أحسن القول؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53]، آيات تَهبنا يقينًا عظيمًا مريحًا، ما أشدَّ حاجتنا له اليوم أكثر من أي يوم آخر! ولقد وصَف الحسن البصري من ادَّعى تدبُّرَ القرآن وهو يحفَظ الحروف ويضيِّع الحدود بأنه "ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خلق ولا عمل"، ومعنى كلامه رحمه الله أن من ثمرات التدبر أن يُرى عليك أثرُ القرآن في خلقك وعملك، وتتجنَّب السلبيات من معاصٍ وآثام، وتحقيق هذا الهدف يُشبه ما نُسميه كسرَ الحلقة المفرغة، فهذه السلبيات تَحجُبك عن التدبر، ولكن التدبر عمومًا يقيك منها ويعالجها إن كنت قد لابستَ بعضها، واستمرارُك بالتدبر يُثمر التحلي بخير الأخلاق في شؤونك وشجونك؛ في البيت والعمل، والمنشط والمكره، والإقامة والسفر، ويفيض ذلك في تربيتك لأبنائك وفي تخالقك مع أهلك وأصدقائك، أُسوة بالحبيب كما وصفته أم المؤمنين (ومرَّ).



4 - وهنالك المزيد من أهداف وثمرات تدبر القرآن: وكلما عشتَ معه وتدبرتَه، تفتَّحت لك أُفُقًا أوسع سبحانك ربنا، مثل الدعاء لله تعالى: (ومرَّ بنا مثال عليه)، والعلم وتبيُّن الحجة، والعيش في النور، ونوال الرحمة، وعلاج أمراض العصر، لا سيما النفسية منها المفضية لظلمة الروح والإدمان والانتحار؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]، ومنها السكينة والاطمئنان وحفيف الملائكة، وذكر الله لنا فيمن عنده، وإنها والمزيد منها لثمارٌ طيبة تتبيَّن وتتنوع للمتدبر، فأتركها للقارئ أو لحلقة تالية إن شاء الله.



ختامًا: قبل وبعد كل ما عدَدناه، فإن تحقيقَ التدبر وتحصيل ثمراته مِن فضل الله ورحمته؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 86، 87].



الحمد لله بهذه الرحمة وهذا الفضل الكبير من الله، أبقى تعالى لنا الوحي محفوظًا، وأتاح لنا العلم به، ولولا ذلك لهلَكنا، واليوم القرآن معنا محفوظٌ كيوم نزَل بحمد الله! ولكننا لسنا معه كما ينبغي تلاوةً وتدبرًا وعملًا بما فيه، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ووفِّقنا لحمل الأمانة من بعده صلى الله عليه وسلم، ومع بذل أقصى الجهد، فالمتدبِّر للآيات القرآنية كائنًا مَن كان، يجد فيها حِكَمًا تُدرَك بالتدبر، وهنالك حِكَمٌ تَخفى إلى أن يشاء الله.


[1] العبودية لابن تيمية، ط المكتب الإسلامي، بمقدمة الأستاذ عبدالرحمن الباني رحمه الله، ط 1962(ص 34-35).

[2] كتابي تدبر القرآن الكريم في الزمن الصعب: أسئلة وإجابات: الكتاب الفائز ثالثًا في مسابقة الهيئة العالمية لتدبر القرآن الكريم العلمية والإعلامية:10-2015 الفرع العلمي: قسم البحوث العلمية، مخطوط.

[3] ويضاف للتفسير أهمية المعرفة باللغة العربية، وانظر مقالي في الشطط بعنوان: الإعجاز العلمي في القرآن وتسويغ ما لا يسوغ المنشور على الألوكة: http://www.alukah.net/culture/0/79348/.

[4] مقال "تَوْءَمة الإيمان والعمل الصالح" د. غُنْـية عبدالرحمن النحلاوي، على موقع "تدبُّر".

[5] الحديث (قد تركتكم على البيضاء)؛ صحَّحه الألباني، وفي رواية: (المحجة البيضاء)، قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير: "وهي جادة الطريق، مَفعلة من الحج؛ أي: القصد، والميم زائدة".

[6] مقالي: التدبر العلمي والحواس: مخطوط.

[7] انظر معنى الهدف، كتاب أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع؛ الأستاذ عبدالرحمن النحلاوي، دار الفكر، ص 88، وفيه قال المؤلف رحمه الله: "ورد الحض على تدبر القرآن في أربع مواضع من القرآن، ونجد (14) موضعًا لكلمتي (يتفكرون، تتفكرون)، وورد (16) مرة تخصيص أولي الألباب (بالتذكر والموعظة والعبرة والهداية)، (ط الثالثة-2004)، ص 98.

[8] وعبادة الله بالمعنى الشامل للعبودية: كل ما يُحبه الله ويرضاه من أقوال وعمال ظاهرة وباطنة، رسالة العبودية مرجع سابق.
د. غنية عبدالرحمن النحلاوي