المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأمانة خلق الأتقياء والمجتمعات الحضارية الراقية


المراقب العام
17-07-2019, 08:21 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



خطبة منبرية – الأمانة خلق الأتقياء والأمناء الأوفياء





الخطبة الأولى:
… وبعد:
أيها المؤمنون والمؤمنات: يقول جلّ وعلا: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (الأحزاب: 72)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “عرضها الله على السموات والأرضِ والجبال؛ إن أدَّوها أثابهم؛ وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا، من غير معصية؛ ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضت على آدم؛ فقيل: خذها بما فيها؛ فإن أطعتَ غَفرتُ لك، وإن عصيتَ عذبتُك، قال: قبلتها بما فيها…”.


عباد الله: الأمانة صفة الأنبياء وأولهم نبينا محمد الذي لقب قبل بعثته بالصادق الأمين. وهي خصلةٌ من خصال المؤمنين الصادقين، قال تعالى مثنيا على من حافظ عليها من عباده وأتقيائه المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (المؤمنون: 1-8).


فحفظ الأمانة أمر مرغوب، وأداؤها والقيام بحقها فرض مطلوب يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النساء: 57)، ويقول : “أدِّ الأمانةَ إلى من ائتَمَنك..” (رواه أبو داودَ والترمذيّ وصححه الألباني).
الأمانة سبيل لرعاية الحقوق وارتفاع النفوس عن الدنيا، ولا تتحقق إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، روى الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة»، بمعنى أنها فطرة وخصلة جبلية في الإنسان منذ أن خلقه الله تعالى. فهي إذن تحقق وتخلق بمضامين كتاب الله تعالى وسنة رسوله في أعمال أصحاب الضمائر والقلوب المؤمنة الحية، فإذا ذهب الإيمان انتزعت الأمانة، ولا ينفع ساعتها ادعاء بتدين وتمظهر مناقض لعدم الانتفاع بالوحي النازل من عند الحق جل جلاله من قبل أناس يزعمون أنهم أمناء على مصالح الأمة ورعاية حقوقها. ومن لم يحفظ دينه وخلقه فهيهات أن يحافظ على مصالح غيره حق المحافظة.


أيها المسلمون: لقد أخبرنا رسولنا الكريم أن الحفاظ على الأمانة وأدائها بحق من علامة الإيمان؛ فقال: «لا إيمان لمن لا أمانة له»، كما أخبر أن تضييعَ الأمانة والاستهانة بها وخيانتها نِفاقٌ وعصيان، وروى البخاري في صحيحه أن النبي قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». فخيانة الأمانة من صفاتِ المنافقين، ودليلٌ على سوء الطوية وقبح البطانة، ودليلٌ على ضعف الإيمان بالله جل وعلا. وضياعها وعيد شديد، يوم يُضرب الصراط على متن جهنم، لاجتياز العباد عليه بعد نداء الله تعالى، وعندها تكون دعوةُ الأنبياء: اللهم سلّم سلم. فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم “قامت الأمانة والرحم على جَنبتَي الصراط” كما جاء في صحيح مسلم عن النبي ، فتكون الخيانة سببا في السقوط في نار جهنم.


وأخبر النبي أن ضياع الأمانة من علامات الساعة بعدما سأله أعرابي فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: «أين السائلُ عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (رواه البخاري عن أبي هريرة ).
عباد الله: الأمانة خلق ومنزلة عظيمة ومواطنها كثيرة، فمنها عِفّةُ الأمين عمّا ليس له بحقٍّ، ومنها تأدِيَةُ الأمين ما يجِب عليه من حقٍّ؛ سواء لله أو لخلقِ الله، وتشمل كذلك اهتمامُه بحفظِ ما استُؤمِن عليه من ودائعَ وأموالٍ وحُرمات وأسرار.


فالأمانة أصلٌ في جميع العبادات والمعاملات، فالصلاة أمانة مفروض تأديتها كاملة الشروط والأركان، والصيامُ أمانةٌ بينك وبين الله، والزكاةُ أمانة والله مطلعٌ عليك في أدائها كاملةً أو ناقصة، والأيمانُ والعهود والمواثيق والالتزامات والمواعيد أمانة كذلك، والصحة أمانة، وسمعك وبصرك ولسانك وفؤادك أمانةٌ عندك، وسوف تسأل عنها، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (الإسراء: 36).
ومن أخطر صور الأمانة خيانة ما كان له علاقة بحقوق عباد الله المؤمنين، ثم حقوق أهل الذمة، بأكل أموالهم بالباطل ظلمًا وعدوانًا، أو بالكذب عليهم أو خداعهم أو غشهم أو المماطلة في إعطائهم حقوقهم.
أيها المسلمون: من أنواع الأمانات العظيمة والخطيرة الولايات العامة، كالإمارة والقضاء ومواقع المسؤولية في أي منصب من المناصب، وتحمل هذه الولايات أمرٌ عظيم وخطير وحسابه عند الله تعالى شديد وعسير، فعن أبي ذر قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! (يريد أن يعمل تحت ولاية النبي ) قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: «يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف (يعني ضعيف القوة)، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامة خِزيٌ وندامة، إلاّ من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها» (رواه مسلم).


ومن صور الخيانة لهذه الأمانات في هذه الولايات وغيرها أن يصل الأمر بالمستَأمَن إلى الغِش والتدليس، روى مسلم أيضًا عن النبي أنه قال: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً؛ يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة». ومن صور تضييع الأمانة استغلال الرجل منصبَه الذي عُيِّن فيه لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته بما لا يحق له، واستعمال الشطط في سلطته، وكأن ما عين فيه ملك خاص به وينسى أنه منتخب من قبل مجتمع وموظف من موظفي الدولة. ومن الصور الظاهرة لخيانة الأمانة سرقة ونهب المال العام أو الإنفاق منه بإسراف وتبذير، وتلك جريمة نبهنا إلى خطورتها نبينا فقال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا؛ فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول» (رواه أبو داود عن بريدة ، وصححه الألباني).


وقد شدد الإسلام في رفض المكاسب المشبوهة، والأموال العامة المسروقة فعن عدي بن عميرة الكِندي قال سمعت رسول الله يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غُلولاً يأتي به يوم القيامة» (رواه مسلم).


ومن صور خيانة الأمانة أخذ الرشاوى مطلقا وخاصة في مقابل عمل هو في الأصل واجب. جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل رجلاً من الأزد على جمع صدقات بني سُليم، فلما رجع حاسبه وقال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي. فقال رسول الله : «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيَك هديتُك إن كنت صادقا؟»، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانيَ الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه؛ حتى تأتيَه هديتُه إن كان صادقا، والله لا يأخذُ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر» ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: «اللهم بلغت» (رواه البخاري ومسلم، عن أبي حميد الساعدي ). إنه توجيه نبوي رشيد يحرم الخيانة ويمقتها ويأمر بالحفاظ على الأمانة وصيانتها.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة…


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه…
عباد الله: من الأمانات العامّةِ التي يجب على كل مسلم أن يحافظ عليها ويراقب الله فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها في جميع قطاعات المجتمع والدولة، لكن مع الأسف يوجد بعض الناس اليوم ممن لا يعبؤون بالأمانة، ترى بعض الموظفين وبعض العمال لا يقومون بأعمالهم على الوجه الصحيح، ويتباطؤون فيها، ولا يؤدونها في أوقاتها، ولا يبالون بظروف الناس ومعاناتهم. كما أن بعض الناس لا يقدرون ظروف مجموعة من الموظفين والعمال المخلصين في أعمالهم.
ومن الأمانات العظيمة التي يجب الوفاء بها مسؤولية الوالدين على أبنائهم فالرجل أمين على أهله، والمرأة أمينة، والخادم أمين، روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..»، ومن الأمانة ما يتصل بوسائل التأثير والتوجيه مثل الثقافة والإعلام والإرشاد والتعليم، فعلى القائمين عليها أن يراعوا حقوق هذه الأمانات، ويجتهدوا في أدائها بما يرضي الله جل وعلا. ومن الأمانات العظيمة حفظ شريعة الله تعالى وعلومها، فهي أمانة في عُنق علمائها ومعلميها ومربيها، يجب تبيانها للناس وعدم كتمانها. ومِن الأمانةِ الواجبِ مراعاتُها والقِيامِ بحقِّها إسداءُ النصيحةِ للمسلمين وإرادةُ الخير لهم، يقول جرير بن عبد الله : “بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم” (رواه البخاري)، فالمؤمن الحق يحب الخير لأخيه المسلم كما يحبه لنفسه وتتأكد هذه النصيحة عند طلبها؛ روى أبو داود وصححه الألباني عن أبي هريرة أن النبي قال: «المستَشار مؤتَمَن».
اللهم وفقنا لأداء ما حملنا من أمانات على الوجه الذي يرضيك عنا. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد… ووفق اللهم عاهل البلاد..


د. عبد اللطيف احميد