المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تزكية النفس ودورها في التنمية البشرية والحضارية


المراقب العام
29-07-2019, 06:08 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:


فإن من القضايا التي شغلت الناس اليوم، وأولوها عناية خاصة، ما يعرف بالتنمية البشرية. غير أن التساؤل الواجب استحضاره باستمرار هو: هل تحققت للنوع البشري اليوم تنمية بشرية حقيقية أم أن الأمر ليس كذلك؟ إن تحقيق تنمية بشرية حقيقية، تتسم بالشمولية والنجاعة، يتوقف على مدى توفر مجموعة من العناصر، لعل من أهمها: الأهلية الذاتية، للمنخرط في مجال التنمية البشرية ذاتها، وللمستفيد من جهودها؛ أهلية مبنية على صفاء النفس وطهارتها، وعلى تزكيتها والرقي بها إلى درجة الرشد بالمفهوم القرآني لهذا المصطلح، أي السداد في القول، والنضج في التصرف، والأمانة في الأداء، والعفة في التعامل… وهي أمور لا تتحقق إلا لمن تزكى وزكى نفسه…


إن لتزكية النفس دورا محوريا في أي تنمية بشرية، إلى درجة أن أي تنمية بشرية لا تكون التزكية حاضرة فيها، سيكون مصيرها إما الفشل، وإما ضعف النتيجة، أو على الأقل عدم التناسب بين الجهد المبذول، والدعم المقدم، وبين النتائج المحصل عليها.


ودور تزكية النفس في التنمية البشرية، يظهر جليا من خلال أمور كثيرة، لعل من أبرزها ما يأتي:


إن تزكية النفس، تعني من ضمن ما تعني، ترشيد العنصر البشري وتنمية شخصيته: عقليا، ونفسيا، ومعرفيا، وخلقيا، وماديا؛ وجعله يرقى إلى مصاف من يقول: لا تعطني سمكا ولكن علمني كيف أصطاد السمك… وهذا وجه من أوجه دور تزكية النفس في التنمية البشرية الحقيقية الشاملة.


فتزكية النفس، هي التي تجعل التنمية، تبلغ بمن يتم دعمه، درجة الوعي بقول الحبيب المصطفى : «اليد العليا خير من اليد السفلى…» (رواه البخاري ومسلم). وقوله : «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده» (رواه البخاري).


إن من أدلة الدور الكبير الذي لتزكية النفس في التنمية البشرية، ما وجدناه عند الدارسين القدامى والمحدثين من تفسير للتزكية بالتنمية، ومن ربط واضح للتربية التي تكاد تكون رديف التزكية بالتنمية، ومن كشف للعلاقة الموجودة بين التنمية والحياة… وهذا توضيح موجز لذلك:


أ- تفسير التزكية بالتنمية:
جاء في تفسير الرازي: “التزكية عبارة عن التنمية” (ج1ص664/و: ج2ص433).
وجاء في تفسير الألوسي: “والتزكية: التنمية” (ج22ص471).
ويقول أبو حيان الأندلسي: “ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية” (البحر المحيط، ج2ص24).
وقد فسر محمد رشيد رضا التزكية بالتربية فقال كما في مجلة “المنار”: “التزكية هي التربية الفضلى التي تكون بها نفس الإنسان زكية كريمة متحلية بالفضائل، مطهرة من الرذائل” (مجلة المنار، ج15ص567).


ب- تفسير التربية بالتنمية:
يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ويزكيهم (البقرة: 151) “والتربية هي التنمية، وهي من قولهم: ربا الشيء إذا انتفخ” (ج 10 ص 37)..


ج- العلاقة بين التنمية والحياة:
ورد ما يشير إلى العلاقة الموجودة بين التنمية والحياة عند ابن عجيبة، وذلك حين قال: … بعد موتها (الجاثية: 4)، أي خلوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها (البحر المديد، ج 6 ص 5).
ويقول أبو السعود في تفسير نفس الآية: “…بعد موتها” وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وخلو أشجارها عن الثمار (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ج 6 ص 123).
مما يكشف عن دور تزكية النفس في التنمية البشرية، أن تزكية النفس متى تحققت بالشكل المطلوب، وتوفرت بالقدر المنشود، أثرت تأثيرا بليغا في القائم أو القائمين على التنمية البشرية، وأثرت تأثيرا واضحا في المستفيدين من تلك التنمية.


أما القائمون على التنمية البشرية، فإنهم، متى زكت أنفسهم، وجدتهم أهل صدق وإخلاص، وأصحاب أمانة ووفاء؛… ومتى فقدوا تزكية النفس أو ضعف عندهم ذلك، توقعت منهم كل ما يعرقل أو حتى يفشل عملية التنمية البشرية برمتها… بناء على أن النفس هي الجوهر والجوارح تبع له، وأن التزكية في نهاية المطاف، إنما هي الارتقاء بالعنصر البشري إلى ما هو أرقى وأسنى…


وأما المستفيدون من التنمية البشرية، فإنهم متى زكت أنفسهم، حرصوا على أن يكونوا في مستوى ما يقدم إليهم من دعم وتنمية، وعملوا على أن يكونوا ممن إذا أُكْرِم أَكْرَمَ، وممن إذا أُسدِي إليه المعروف كافأ… لا ممن إذا أُكْرم تمرد…


فأهل النفوس الزكية، متى أتيحت لهم فرص تنمية أنفسهم وقدراتهم، علموا أن ذلك من النعم التي سيسألون عنها ولتُسألن يومئذ عن النعيم ، فأعدوا للسؤال جوابا، وهبوا إلى الاستفادة مما تم دعمهم به، وإلى استغلاله في تحقيق ما يرزقهم الله به الكفاف والعفاف والغنى عن الناس، في مستقبل أيامهم، وفي القادم من عمرهم…


من أوجه ظهور دور تزكية النفس في التنمية البشرية، أن الإنسان من حيث هو إنسان، يختلف عن ذوات الأربع؛ إذ لا يكفيه فقط ما له علاقة بالمأكل والمشرب والمأوى، وإنما لا بد له إضافة إلى ذلك، بل وفي درجة هي آكد وأكثر إلحاحا، من تنمية جانبه الروحي، عن طريق تزكية نفسه وتطهيرها من كل ما يدنسها، من فساد الاعتقاد، وضعف التعبد، وسوء الخلق، وجاهلية التصرف…؛ فإن العنصر البشري متى تمت تنميته ماديا فقط، غالبا ما يحصل له من التمرد والضياع ما يُفسِد به تلك التنمية المادية المقدمة إليه، ويجعل نتائجها في مهب الريح…




د. عبد الله طاهيري