المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل نجيد فن التفقد؟


نبيل القيسي
19-10-2019, 02:37 PM
لعلاقاتُ الاجتماعية المتميزة، وكسبُ ثقة الناس وودهم، واستمالة قلوبهم وجذْبهم - فنٌّ جميل يبحثُ عنه الكثيرون، ويطمحُ إليه الآخرون، ومن العادات التي يتصف بها الناجحون والموفقون في مسيرة حياتهم الاجتماعية واحتكاكهم بالناس، إجادتهم فنَّ التفَقد والسؤال الذي يَعْنِي الاهتمام والاعتناء بالآخرين والاستفسار عنهم، والحفاوة بهم وتعهدهم بالتواصل، والاطمئنانُ على الأمور والأعمال والمشاريع التي تهمهم.



وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه وأهله، ويتعرف على أحوالهم وشؤونهم؛ ليطمئن عليهم، ويُدخل السعادة والسرور على قلوبهم، ويحفِّزهم ويربِّتَ على أكتافهم، ويتقاسمَ معهم همومهم وآلامهم، فيسأل عن الغائب، ويَعُود المريض، ويُوَاسِي المهْموم، يقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إنا واللهِ قد صَحِبْنا رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ في السفرِ والحَضَرِ، فكان يعُودُ مَرْضانا، ويَتْبَعُ جَنائزَنا، ويَغْزُو معنا، ويُواسينا بالقليلِ والكثيرِ"؛ (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).



وبَلغَ من اهْتمامه صلى الله عليه وسلم واعْتِنائِه بأصحابه أنه كان يتفقدهم ليطمئن عليهم حتى في أَحْلَكِ الظروف وأشد المواقف، مما يدل على الحب والعناية والرعاية العالية، فيتذكر صلى الله عليه وسلم كَعْب بن مَالك في غزوة تَبوُك، وَهو جَالِسٌ في القَوْمِ، قائلًا: "ما فَعَلَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ؟"؛ (صحيح مسلم)، فلم يَنْسَه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خِضَم المعركة ضد جيش الروم، ولم ينفك عن خاطره بين الأعداد الغفيرة من المسلمين التي بلغت إلى ثلاثين ألف مقاتل، ولم تشغله مسؤولياته الكبيرة وظروف الجهاد وهموم المعركة من أن يتذكر صاحبه، مما يدل على حبه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وإكرامه لهم وحفاوته بهم.



والناظرُ في سيرته العطرة وشمائله الكريمة يدركُ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يتعهد الناس ويسألُ عنْ أحوالهم، ولم يخُص بذلك شخصًا دون آخر، بل شمل تفقُّدُه أضعفَ الناس في عيون الآخرين، مثل المرأة التي كانت تقم المسجد وتنظِّفه، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل عنها، فقالوا: ماتت، فقال: "دُلوني على قبرها"، فدلوه فصلى عليها"؛ (أخرجه البخاري ومسلم)، وكذلك تفقده للغلام اليهودي الذي كان يَخدُمُه، فمَرِضَ، فقام بعيادته ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، فقال: "الحمدُ للهِ الذي أنقَذَه بي مِنَ النارِ"؛ (أخرجه البخاري).



والتفقد صفة قيادية ملازمة للقائد، فالقائد الناجح يتفقد مَنْ تحت يده من الأتباع، ونجدُ مثالًا لذلك تفقد سليمان عليه السلام للطيور؛ قال تعالى:" ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة: "وَتَفَقدَ الطيْرَ"، دلَّ هذا على كمال عزمه وحزمه، وحُسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر: هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء؟"، فإذا كان تفقده عليه السلام للطيور بهذه الدقة، فكيف يكون تفقده لجنوده من البشر؟



ولا شك أن تفقُّد أحوال الناس والتقرب منهم والاطمئنان عليهم، له فوائد عظيمة، فمن لا يتفقد يُفْقد، ومن لا يهتَمْ بالآخرين لا يُهْتم به، فمن فوائده إحساسُ الفرد بأهميته وشعوره بالراحة النفسية تجاه من حوله، وكسر الحواجز بينه وبين غيره، وإدخال الفرح والسرور على قلبه، وتخفيف همه وكربه، وحصول الأجر والثواب من الله تعالى.

إن المريض ليستريح إذا اشتكى *** مما به لطَبيبه وخليله



وفيما يلي أمثلة عملية للتفقد يَجدُرُ بنا أن نجربها:

1- أن نتفقد والدينا بالإحسان إليهم والبر بهم والتواصل معهم باستمرار، وخدمتهم والاطمئنان عليهم، وعدم مقاطعتهم، أو الإعراض عن أوامرهم ما لم تكن في معصية الله؛ قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].

قال المعري:

وَأَعطِ أَباكَ النَصفَ حَيًّا وَمَيِتًا *** وَفَضِل عَلَيهِ مِن كَرامَتِها الأُما



2- أن نتفقد أبناءنا في المدراس ومراكز التحفيظ والمساجد وحلقات العلم، ونجلس معهم في حل الواجبات والمراجعات، ونمنحهم أجمل الأوقات، ونتدرج معهم في النصح والتوجيه والإرشاد والتعويد على شرائع الدين: (مُرُوا أبناءكم بالصلاة وهُم أبناء سَبْع سنين، واضْرِبُوهم عليها لِعَشْر وفرقُوا بينهم في المضَاجِعِ)؛ إرواء الغليل، الألباني: 298.

قال عمر بن كلثوم:

وَرِثْنَـاهُنَ عَنْ آبَـاءِ صِـدْقٍ *** وَنُـورِثُهَـا إِذَا مُتْنَـا بَنِيْنَـا



3- أن نتفقد الأقارب وذوي الأرحام ومن يعزُّ علينا بطيب الكلام وبشاشة الوجه وسماحة النفس والرحمة والإنعام: "الرحِمُ مُعلقةٌ بالعرشِ تقول:من وصَلني وصلَه اللهُ، ومن قطعَني قطعَه اللهُ"؛ صحيح الجامع: 3549.



4- أن نتفقد العلماء الربانيين بزيارتهم والحضور إلى دروسهم، والأخذ منهم وطلب العلم عليهم، وأن نحفظ لهم مكانتهم وهيبتهم، وأن نجتنب الوقيعة بينهم أو النيل من قدرهم، وأن نَلْزمَهُم قبل أن نَفْقِدَهُم: "إن اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتخَذَ الناسُ رُؤُوسًا جُهالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلوا وأَضَلوا"؛ (أخرجه البخاري).

فَوَالله لولا العلمُ ما اتضح الهُدى *** ولا لاحَ من غيبِ الأمورِ لنا رَسمُ



5- أن نتفقد الشباب وبُنَاة المستقبل بالرعاية والعناية والاهتمام والتوجيه والإرشاد، وإعدادهم لحمل الأمانة، وخدمة دينهم وأمتِهِم وبلدهم: "سَبْعَةٌ يُظِلهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلهِ، يَومَ لا ظِل إِلا ظِلهُ: وفيه: وَشَاب نَشَأَ في عِبَادَةِ اللهِ"؛ (أخرجه البخاري).

قال الرصافي:

وهُدى التجاربِ في الشيوخِ وإنما *** أملُ البلادِ يكونُ في شُبانِهَا



6- أن نتفقد الصغار باللطف والرفق والرحمة والعطف والشفقة، وأن نتفقد الكبار بالإجلال والتعظيم والمكانة اللائقة بهم، وأن ننثر السعادة والأمل في وجوههم: "ليس مِنا مَنْ لَمْ يَرحمُ صَغيرَنا، ولَمْ يَعرِفْ شَرَفَ كبيرِنا"؛ (أخرجه الترمذي).

وَقِّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ *** وَراعِ في كُل خَلْقٍ حقَّ مَنْ خَلَقَهْ



7- أن نتفقد الأيتام والأسر الضعيفة بما من الله علينا من المال والجاه والشفاعة: "هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بضُعَفَائِكُمْ"؛ (أخرجه البخاري).



8- أن نتفقد الأيادي العاملة بالسلام عليهم واللطف بهم في المعاملة، وتقديم الهدية المناسبة لهم، ودعوتهم إلى الإسلام: "فَوَاللهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ واحِدٌ خَيْرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ"؛ (أخرجه البخاري).

ورافِـقِ الرِّفْقَ في كُلِ الأمورِ فلَـمْ *** يندمْ رَفيـقٌ ولـم يذمُمْهُ إنسـانُ



9- أن نتفقد الأمة بالدعاء لها والحرص على ثوابتها، ولَمِّ شملها، والتزام وَحدة المسلمين،" فإنما يأكل الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ"؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 427).


د. سعد الله المحمدي

عاشق السفر
11-01-2020, 06:10 PM
تسلم علي الموضوع الرائع