المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق


المراقب العام
29-10-2019, 06:57 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق

الحمد لله أحمده بكل ما حمده به أجل حامديه عنده، وأصدق عابديه في عادته، محمد صفيه وخليله.
فاللهم لك الحمد بالإسلام.
فاللهم لك الحمد بالإيمان.
فاللهم لك الحمد بالقرآن.
ولك الحمد بكل نعمة أنعمت بها في قديم أو حديث، أو خاصة أو عامة.
وصل اللهم وسلم على النبي الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله مهمة الرسل وعليها مدار رسالاتهم، فإنما بعثوا دعاة إلى الخير، وهداة للبشر، مبشرين من آمن بعظيم العطاء، ووافر الجزاء.

ومنذرين للخلق، ويخوفونهم شديد العقاب: ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [لنساء: 165].

ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم بلغ الذروة، فهو خاتم الرسل، وهو سيد ولد آدم، قام بالرسالة حق القيام، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فهو من أولي العزم من الرسل.

وهو الذي قال الله له: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام:90].
فاقتدى الأولين من الرسل، فجمع كمالاتهم، فخصهم الله، وجعله خير الخلق، وسيد ولد آدم.

واعلم أن أشد ما يكون ضرراً على الأمة، جَلَدُ الفاجر، وعجز الثقة، كما قال عمر ابن الخطاب- رضي الله عنه-: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفجر، وعجز الثقة ).

وكما قال عمر الأميري:
تبلد في الناس حس الكفاح
ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي
سدور الأمين وعزم المريب

إن الحرص الذي ملأ قلب النبي صلى الله عليه وسلم ذو صلة وثقى بمعرفته بالله، وعلمه بوعد الله ووعيده.
فإنما يحرص على الناس ويرجو لهم الخير من الله، ويخشى عليهم عذابه، من كان بالله أعرف.

فمن عرف الله - عز وجل- وعظيم اقتداره، وأنه الذي بيده مقاليد السموات والأرض، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يخفض ويرفع، وأنه المنعم على أوليائه بالسعادة والفلاح في الدنيا، وأن ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9].

وأن أعداء الله في شقاء ما امتدت بهم الحياة، ويوم القيامة يردون جهنم ويصلونها خالدين فيها.
من علم ذلك كله حرص بلا شك على بذل الخير للناس.

ومن حرص على هداية الخلق تمخضت حياته للدعوة وجعل همه هداية الناس، ولم يزل متقلباًً في ألوان ذل الخير للناس؛ رجاء الخير من رب الناس.

فما أحوجنا أن ننهج النهج النبوي، فنملأ قلوبنا حرصاً على هداية الخلق، وإنقاذهم.

وإذا أردتم صورة الحرص في شكل محسوس انظروا لو أن أحدكم واقفاً على شفا جرف وهوة عميقة، فإذا طفل أعمى يمشي نحو الهاوية، وليس أحدٌ من الخلق يراه إلا أنت، كيف تراك تفعل؟!!

أحسب أنك ستصرخ بكل صوتك، وتركض بكل ما وسعك، بل ستظهر فيك قوى كامنة لم تكن معهودة من قبلك؛ لعلمك بفرط الخطر، وفرط جهل الطفل الأعمى به، فكيف لو كان هذا الطفل ابناً من أبنائك!!

إن هذه الصورة المحسوسة مثال، لما الخلق مقبلون عليه إن عصوا، فهم سائرون إلى هوة لا قرار لها.

وأنت ترى بعلمك ومعرفتك، وما من الله عليك به من الاستقامة ما لا يرون، فاجعل ذلك كله وقوداً يدفعك للدعوة، ويحفزك عليها.

إن تنوع جهده صلى الله عليه وسلم ودعوته للصغير والكبير، والملوك والعامة، والأقربين والأبعدين، والرجال والنساء، برهان حرصه على دعوة الخلق.

وإن تنوع أساليب دعوته وتلطفه بالخلق برهان حرصه.
وإن استدامة دعوته، واستمرار جهده على مر تأريخه وحياته برهان حرصه.

ولئن مات الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قام أهل العلم مقامه في الدعوة والبلاغ:( فالعلماء ورثة الأنبياء) قاموا فيهم بمهام البلاغ والتوجيه والدعوة إلى الله.

والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهمة الأمة بعامة بحسب علمهم، وأقدارهم، ومسؤولياتهم.

ولئن كانت الدعوة بهذا المقام، وسيد الدعاة وإمامهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإن حقاً على كل داعية أن يلتمس منهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، فهو القدوة المطلقة، والأسوة الحسنة في كل شأن.

وأخص الخلق وهم العلماء بدين والدعاة إلى شرعه، وعليهم من واجب سلوك طرقه والاستنان بسنته ما هو أعظم من واجب غيرهم، خاصة في مهمة الدعوة إلى الله.

وقضية المنهج الدعوي كثيراً ما نسمعها، ونسمع الدعوة إليها، منسوبة إلى جماعة، أو فئة، فيحتكر بعض الخلق أوصافاً، ويجعلونها أعلاماً عليهم.

ويدندنون حول: المنهج الدعوي، ويغفل كثيرُ منهم عن الدعوة إلى منهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الدعوة.

هذا المنهج الرباني، فقد رباه ربه، فأحسن تربيته، ومنهجه منهج متكامل في الدعوة إلى الله، يضبط الإرادات، كم يضبط الأعمال، ويعالج أدواء القلوب قبل أن يعالج ظواهر التصرفات.

وهذه المحاضرة التي تتطرق إلى جانب من منهجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة، سنرجع فيها لدعوته وسيرته وسنته، نغترف فيها من المعين العذب الزلال، ذلك أن أعذب النهر في المنبع، حيث الصفاء والعذوبة، والكدر يزداد كلما ازدات عوامله.

ومنهج الدعوة صفاؤه في منهج محمد صلى الله عليه وسلم وأما إذا كثرت أهواء الخلق، وتتابعت أغراضهم على مر التاريخ، فلا يزالون يكدرون الصفاء، ويلونون النقاء.

أيها الأخوة:
المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن جماع الخير الذي أوتيه ظاهر في خلقه صلى الله عليه وسلم.
هذا الخلق الذي أثنى عليه ربه به، وعظمه، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
والخلق في حقيقته: هيئة راسخة في نفس الإنسان، تصدر الأفعال عنها في سهولة ويسر.
وخلقه صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصفات كملها له ربه، ورباه فأحسن تربيته.
هذه الأخلاق ذاتُ صلة عظمى بمنهجه الدعوي، فالأخلاق كما هي حافزة على العمل الدعوي دافعة إليه.
فهي كذلك ضابطة للعمل الدعوي أن يتجاوز حده.

واليوم سنتعرض لخلق دعوي يمثل أصلاً في منهجه صلى الله عليه وسلم ذلك الخلق: خلق حافز ودافع، بل هو المحرك الرئيس لدعوته صلى الله عليه وسلم إنه الحرص.

فكل من تأمل سيرته وجده قد تضلع بالحرص على هداية الخلق للحق والخير في جملة من شمائله، وأخلاقه الكاملة التي استحق عليها الثناء من الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].

يقول الله - عز وجل-: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

فالله يمتن على عباده بأن بعث فيهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، الذي من أوصافه أنه حريص عليكم، يحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله، ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.

فهذه الآية تدل على اتصافه بهذه الصفات المشعرة بغاية الحرص، وغاية الشفقة علينا، وهذا يعظم المنة.
فلئن أرسل هذا الرسول الذي بلغ من حرصه أكمله فإن حقاً عينا أن نعرف لهذه المنة قدرها، وللمتنعم عظيم فضله.
والحرص في لغة العرب: شدة الإرادة والشره إلى المطلوب.

قال الأزهري: قول العرب حريص عليك، معناه: حريص على نفعك. [ابن منظور: لسان العرب:7/11].
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قوياً في إرادة الخير، راغباً رغبةً ملحة في إيصاله للناس يحدوه أمله، وتدفعه رحمته في إيصال النفع التام للخلق بحياتهم حياة طيبة في الدنيا ودخولهم الجنة في الآخرة، قوي الرغبة في دفع الضر عن الناس.

ومن عجيب أمر الخلق، حرصه على هدايتهم، وإعراضهم عن ذلك، ولذلك قال الله - عز وجل-: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103].

وقال: ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل:37].

يقول العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: (ذكر جل وعلا في هذه الآية أن حرص صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56] وقوله: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41] [أضواء البيان:2 /375].

ويقول الله سبحانه: ﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل:127].

قال الشنقيطي - رحمه الله -: (الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام.

ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم كقوله: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127] وقوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8] وقوله: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3] وقوله: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6] وقوله: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 68] إلى غير ذلك من الآيات والمعنى قد بلغت وليست مسؤولاً عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء) [أضواء البيان:2 /316].

( قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهى عن ذلك) [تفسير القرطبي ج4/ ص285].

ولنا أن نتساءل أي قلب كبير هذا الذي يحزن، بل يبالغ في حزنه، فينهى عن هذا الأمر شفقة عليه، لماذا يحزن؟ ولمن يحزن؟ هل حزنه على أناس طيبين خيرين قدموا له العون والمساعدة؟!!

إن العجب ليأخذ بالإنسان عندما يعلم بأن حزنه صلى الله عليه وسلم كان على أناس ما علموا بوسيلة تدخل الأذى والشر إليه إلا سعوا إليها بكل حرص، وتعاونهم واتفاقهم على قتله من هذا القبيل، وهنا التناقض هم حرصون على أذيته بل قل قتله، وهو حريص على نفعهم، حزين عليهم. أي قلب كبير هذا دلوني على قلب مثل قلب محمد صلى الله عليه وسلم!!

5- وقوله تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [الكهف:6].

قال الشنقيطي - رحمه الله -: (اعلم أولا أن لفظة: (لعل) تكون للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن( لعل) في قوله هنا ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ﴾ [الكهف: 6] للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به.

والباخع المهلك. أي: مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم) [أضواء البيان:3 /201-202].

( وقال الزمخشري: شبهه وإباهم حين تولوا عنه، ولم يؤمنوا به، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقته أحبته وأعزته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهما. والأسف هنا شدة الحزن) [أضواء البيان:3 /202].

قال القاسمي - رحمه الله -: (وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته، فهم بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجداً عليهم وتحسراً على آثارهم.

وسر ذلك - كما قال القاشاني - أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه.

ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54] وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر؛ لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه، فلذلك بالغ في التأسف عليهم؛ حتى كاد أن يهلك نفسه) [تفسير القاسمي:11/4024].

6- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول) [تفسير ابن كثير:1 /46].

وأكد صلى الله عليه وسلم على حرصه على الخلق وإبعادهم عن كل ما يحميهم من النار حين قال: " مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي " [مسلم ].

وفي رواية: " مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيتقحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها "[ مسلم ].

قال ابن حجر - رحمه الله -: (وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة كما قال تعالى: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]) [فتح الباري:11 /318].

وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق " [مسلم ].

قال النووي -رحمه الله- على هذا الحديث: (باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم.

قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا النذير العريان" قال العلماء أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه وأشار به إليهم، إذا كان بعيداً منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم وهو طليعتهم ورقيبهم.

قالوا: وإنما يفعل ذلك؛ لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو) [شرح النووي على صحيح مسلم:15 /48].

ولما سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا، أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال: " لا، بل أستأني بهم " فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾ [الإسراء: 59] [مسند أحمد بن حنبل من حديث ابن عباس].

وأما سيرته فهي كلها قامت على الحرص على الخلق وحمايتهم من كل أذى يلحق بهم في الدنيا والآخرة.

وفي التعرض لبعض تلك المواقف والمواضع من سيرته ما يوضح هذا الأمر.


فمن ذلك:
1- صعوده صلى الله عليه وسلم على الصفا للدعوة إلى الله تعالى:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي:" يا بني فهر، يا بني عدي " لبطون قريش؛ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج، أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش. فقال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟!فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1، 2] [البخاري].

وفي رواية: قال: " يا معشر قريش! أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم! سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً"[البخاري].

2- حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبو طالب:
فعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:" يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة؛ حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى فيه﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 113]الآية [البخاري].

3- حرصه على هداية أمته:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إبراهيم: 36] وقال عيسى عليه السلام ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي، أمتي " وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك. فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال- وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. [مسلم ].

قال النووي - رحمه الله -: (هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفا بما وعدها الله تعالى بقوله: (سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ومنها بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى وعظيم لطفه سبحانه به صلى الله عليه وسلم.

والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بالمحل الأعلى، فيسترضي، ويكرم بما يرضيه) [شرح النووي على صحيح مسلم:3/78-79].

4- حرصه صلى الله عليه وسلم تبليغ الخير حتى للصغار:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:" يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك،لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف"[مسند أحمد بن حنبل].

5- حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس من غير قريش:
فعن ربيعة بن عباد الديلي - رضي الله عنه - قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت يقول: " أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " إلا أن وراءه رجلاً أحول وضيء الوجه ذا غديرتين يقول: أنه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب.[مسند أحمد بن حنبل].

وعن ربيعة بن عباد الديلي- رضي الله عنه - يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس بمنى في منازلهم، قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: " يا أيها الناس إن الله عز وجل يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً " قال ووراءه رجل يقول: هذا يأمركم أن تدعوا دين آبائكم. فسألت من هذا الرجل، فقيل: هذا أبو لهب. [مسند أحمد بن حنبل].

وعنه أيضاً قال: إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضئ ذو جمة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول:" يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال الآخر من خلفه: يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الحي بني مالك ابن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب. [مسند أحمد بن حنبل].

6- ذهابه إلى منازل الناس خاصة في أيام الموسم:
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ ومنازلهم من مني " من يؤويني، من ينصرني؛ حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة " فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه؛ حتى أن الرجل ليرحل من مصر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه، فيقولون له: أحذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع؛ حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه؛ حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحلنا؛ حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة. [المستدرك على الصحيحين ج2/ص681].

7- حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة غير المسلمين في المدينة:
فعن أنس - رضي الله عنه- قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.[البخاري ].

قال النووي - رحمه الله -: (وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والصفح والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى، وتألف قلوبهم ). [شرح النووي على صحيح مسلم:12/159].

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.[ البخاري ].

8- دعوته صلى الله عليه وسلم كبراء اليهود:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود" فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس - كبير اليهود - فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم:" يا معشر يهود! أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال:" ذلك أريد" ثم قالها الثانية، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. ثم قال الثالثة فقال:" اعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئاً، فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله" [البخاري ].

9- دعوته صلى الله عليه وسلم لغلام يهودي:
فعن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال: " له أسلم " فنظر إلى أبيه، وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:" الحمد لله الذي أنقذه من النار " [البخاري ].

10- حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية من أراد قتله:
فعن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين، وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟ قال: " لا " قال: فمن يمنعك مني؟ قال:" الله " [البخاري ].

وفي رواية: فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: " الله " قال: فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " من يمنعك؟" قال: كن خير آخذ. قال:" تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " قال: لا، ولكني أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. [المستدرك على الصحيحين:3/31، وانظر: مشكاة المصابيح برقم: 5305].

11- حرصه صلى الله عليه وسلم على حصول الهداية لأولاد من آذاه من الكفار:
فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت - أي: تأمرني بما شئت - إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً "[ البخاري ].

قال ابن حجر - رحمه الله -: (وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159] وقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]) [فتح الباري:6 /316].

12- حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم المشقـّة في التكاليف الشرعية:
ففي الصلاة: لما فُرضت الصلاة على أمته خمسين صلاة، استشار موسى عليه الصلاة والسلام، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُراجع ربّه حتى خفف الله عن هذه الأمة فصارت خمس صلوات.

وعن عائشة قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " [مسلم].

ولما صلى في رمضان، وصلى رجال بصلاته، ترك القيام في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. متفق عليه.

وفي الحج: لما قال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " [مسلم].

وفي السن: قال: " لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة " [البخاري ومسلم].

وبخصوص بنساء أمته: قال عليه الصلاة والسلام:" إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي؛ كراهية أن أشق على أمـِّـه" [البخاري ].

13- إرساله صلى الله عليه وسلم الرسائل والرسل إلى الملوك والزعماء:
فعن أنس - رضي الله عنه -: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله تعالى،وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. [مسلم ].

وذكر ابن حجر - رحمه الله - أبرز هؤلاء الرسل فقال: (روى الطبراني من حديث المسور بن مخرمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال:" إن الله بعثني للناس كافة، فأدوا عني، ولا تختلفوا علي " فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي بهجر وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندى بعمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى بن أبي شمر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم غير عمرو بن العاص.

وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجر بن أبي أمية بن الحارث بن عبد كلال وجريراً إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس) [فتح الباري ج8 /127-128].

وهذا صورة كتابه لهرقل:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 64] [ البخاري].

14- لقد كان حريصا على تبيان الحق والخير للناس حتى وهو يجود بنفسه صلى الله عليه وسلم:
فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كانت عامة وصية رسول صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه:" الصلاة، وما ملكت أيمانكم "[سنن ابن ماجه].

وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه، قالت: فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: " قاتل الله، قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحرم ذلك على أمته. [مسند أحمد بن حنبل].

15- حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض - ثم ذكر مجيئهم إلى الأنبياء - فقال: فيأتونني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي، أمتي الحديث. رواه البخاري ومسلم.

ودعوى الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم، سلم.

الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق