المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرحمة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم


المراقب العام
11-11-2019, 05:41 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



الرحمة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]؛ فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق جميعًا، إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم، هي رحمة للمؤمنين؛ إذ هداهم الله به من الظلمات إلى النور، وجعله سببًا لدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، وهي رحمة للكافرين؛ إذ دفع به عنهم عاجل العذاب الذي كان ينزل بالكافرين السابقين، فوجوده صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الكافرين أمان لهم من العذاب؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33]، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة))[1].

وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالمؤمنين خاصة، رحيمًا بالناس عامة، واتسعت رحمته لتشمل الحيوان البهيم:

أ- رحمته بالمؤمنين:
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وقال الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

فكان صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأمته، شفيقًا عليها أكثر من شفقة الأم على ولدها، وقد تجلت هذه الرحمة في مظاهر كثيرة.

ب- رحمته بالنساء:
إذ هن أضعف خلقًا، وأرق عاطفة؛ فأرشد الأزواج إلى معاشرة أزواجهن بالمعروف، وإحسان صحبتهن، فقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هن عوانٍ عندكم))[2]، وقال: ((خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله))[3].

ووصى الآباء بالصبر على تربية البنات، فقال: ((لا يكون لأحدكم ثلاث من البنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة))[4]، ولن تدرك عظمة هذه الوصية وغيرها ولا مقدار ما اشتملت عليه من الرحمة إلا إذا استحضرنا حال المرأة قبل الإسلام، ومبلغ القسوة التي جعلتهم يئدونها حية، وقد وصف القرآن هذا في قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59].

وفي هذا الحديث يبين لنا إلى أي حد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالنساء؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ كراهيةَ أن أشق على أمه))[5].

ج- رحمته بالأرامل والمساكين:
وقد تزوَّج النبي محمد صلى الله عليه وسلم نساء أرامل؛ رحمة بهن، وشفقة عليهن، وتقديرًا لجهود أزواجهن في الجهاد في سبيل الله ونصرة الدين؛ كزواجه من (سودة بنت زمعة) التي مات عنها زوجها، وزواجه من (زينب بنت خزيمة) التي ترملت من زوجها الذي مات شهيدًا، وزواجه من (جويرية بنت الحارث) بنت رئيس قبيلتها (بني المصطلق) حينما وقعت في الأسر؛ تكريمًا لها وتأليفًا لقلوب قومها، فكان أن أطلق الصحابة ما بأيديهم من الأسرى إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها، كما قالت (عائشة)[6].

د- رحمته بالصبيان:
قال أنس بن مالك مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم"[7]، وفي يوم إذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل ابنَ بنته الحسنَ بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((من لا يَرحَم، لا يُرحَم))[8].

هـ- رحمته بالخدم:
لقد ذكرنا قول (أنس بن مالك) خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟"[9].

وذكرنا أيضًا في معاملة الإسلام للرقيق قوله صلى الله عليه وسلم: ((إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبِسوهم مما تلبَسون، ولا تكلفوهم ما يغلِبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم))[10]، حتى إنه بلغ من رحمته بالخدم والرقيق ما جعله وهو على فراش الموت يوصي فيقول: ((الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم))[11].

و- رحمته بالأيتام:
لقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إلى كفالة اليتيم والإحسان إليه، والرحمة به، وبشَّر من كان كذلك بصحبته في الجنة فقال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا))، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئًا[12].

ومن شدة الأمر فقد جعل أكل مال اليتيم من الموبقات، وقرنها مع عظيم الذنوب، فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات))[13].

ط- رحمته بأمته خاصة:
ومن مظاهر هذه الرحمة النبوية العظيمة: رفع الحرج والمشقة عن أمته في التكاليف الشرعية، وقد وصفه ربه بقوله سبحانه: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، ومن أمثلة ذلك:
1- تركه فعل الشيء مخافة أن يفرض على أمته؛ فقد ورد عن عائشة أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"[14]، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة))[15].

وفي صلاة القيام في رمضان كان قد اجتمع بالمسلمين ثلاثة أيام، فلما كان من اليوم الرابع لم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: ((قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم))[16]، ولما تأخر ذات ليلة عن أصحابه في صلاة العشاء حتى ذهب ثلث الليل أو بعده، فقال حين خرج إليهم: ((إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي، لصليت بهم هذه الساعة))، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى))[17].

2- امتناعه عن الجواب في بعض الأحوال مخافة أن يشق على أمته؛ كقوله: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولَمَا استطعتم))، ثم قال: ((ذَرُوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))[18].

3- أمره بالتخفيف على الناس، حتى في العبادات، بما لا يخل بمضمون العبادة، فقال: ((إذا أَمَّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء))[19]، وقد رأينا كيف كان يخفف صلاته عند سماع بكاء الصبي شفقةً بأمه.

• ومن مظاهر رحمته بأمته: أنه ذات يوم تلا قول الله عن إبراهيم عليه السلام مخاطبًا ربه، قائلًا: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقول الله عن المسيح عليه السلام، قائلًا: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يده صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك[20].

ظ- رحمته بالناس عامة:
ولم تقتصر هذه الرحمة على المؤمنين أو على أمة المسلمين فقط، بل امتدت لتشمل كل الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))[21]، وقال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء))[22]، حتى شملت هذه الرحمة الكافرين، وقد سجلت آيات القرآن شيئًا من هذا، فجاء قول الله مخاطبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، وجاء قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8].

ومن تلك الرأفة والرحمة بالكافرين: ما قاله لعائشة حين سألته: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على (ابن عبدياليل بن عبدكلال) فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، فسلَّم علي، ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقلت: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))[23]، ألا ينطبق ذلك مع قول الله له: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

لقد بلغت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس الكافرين منهم، حتى في أثناء القتال والجهاد وإرسال الغزوات؛ إذ إنه كان يوصي أصحابه عند خروجهم للجهاد قائلًا: ((انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا تغُلُّوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين))[24].

فهل لنا أن ننظر إلى هذه الأخلاق الرفيعة التي ربى عليها محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه حتى وهم في حالة حرب مع عدوهم؟، وكيف نهاهم عن الغُلول والغدر والمُثلة وقتل الصغار والنساء؟، وهل نجد هذه القيم الإنسانية وهذه الرحمة العظيمة في أي من المعارك التي دارت على مر التاريخ، في شتى بقاع الأرض، وبين مختلف الألوان والأجناس؟! ألم يقل (جوستاف لوبون): "ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب"؟ وألم تكن تلك الشهادة نتيجة لتربية محمد صلى الله عليه وسلم لهم؟!

ع- رحمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالحيوان:
لقد اتسعت رحمة محمد صلى الله عليه وسلم لتشمل عالم الحيوان، وأحاديثه في هذا الباب فضلًا عن سبقها الزمني بحوالي أربعة عشر قرنًا ما توصلت إليه الحضارة الغربية من قوانين ومنظمات وجمعيات للرفق بالحيوان، فإنها تكشف عن جانب مشرق من حضارة الإسلام التي ترى في الحيوان الأعجم نعمةً إلهية تستوجب الشكر، وكائنًا ذا روح، مسخرًا لخدمة الإنسان، يتوجب عليه أن يرحمه ويحسن إليه، بل وترتقي بهذا الإحسان إلى درجة العبادة التي يؤجر عليها الإنسان، وتكون سبيله لدخول الجنة، وفي المقابل تتوعد المخالف بالنار؛ فأين قوانين الأرض من قوانين السماء؟!

ومما جاء في رحمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالحيوان:
• أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته))[25].

• وقال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))[26].

• وأخبر قائلًا: ((بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب؛ فشكر الله له فغفر له))، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: ((في كل كبد رطبة أجر))[27].

• وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا))[28].

فتلك هي بعض من مظاهر الرحمة التي اتصف بها نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

[1] السلسلة الصحيحة.
[2] الترمذي.
[3] الترمذي.
[4] الترمذي.
[5] البخاري.
[6] أبو داود.
[7] مسلم.
[8] متفق عليه.
[9] الترمذي.
[10] مسلم.
[11] صحيح ابن ماجه.
[12] البخاري.
[13] متفق عليه.
[14] البخاري.
[15] مسلم.
[16] البخاري.
[17] مسلم.
[18] مسلم.
[19] مسلم.
[20] مسلم.
[21] البخاري.
[22] الترمذي.
[23] البخاري.
[24] أبو داود.
[25] مسلم.
[26] البخاري.
[27] البخاري.
[28] مسلم.

ياسر تاج الدين حامد