المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فوائد من حديث أدنى أهل الجنة منزلة


المراقب العام
19-11-2019, 05:06 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



الحمد لله وحده..
أما بعدُ عبادَ الله، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال: رجل يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنّة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: ربّ كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ (يظن أنها امتلأت فلا مكان فيها) فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربِّ. فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله - فقال الرجل في الخامسة -: رضيتُ ربّ. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، (فهذه 50 ضعفاً عباد الله) ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك. فيقول: رضيتُ ربّ. قال موسى: ربّ فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُ، غرستُ كرامتَهم بيَدي وختَمت علَيها فلَم ترَ عَين ولم تسمَع أذُن ولم يخطُر على قَلب بشَر.

وروى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخرَ أهل الجنة دخولا، رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله: اذهب فادخل الجنة. فيأتيها فيُخيّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى. فيقول: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا ربي وجدتها ملأى. فيقول: اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثلَ الدنيا وعشرةَ أمثالهِا.. فيقول: أتسخر مني أو تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه وكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.

فهذا عباد الله من عجائب ما يقع يوم القيامة مما أطلع الله عليه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عجائب ما كان لنا علمها لولا خبر المعصوم صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بكل ما علم من أحوال يومها وأهلها وموازينها وصراطها ودخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار، حتى أخبرنا بخبر آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار، وإن الاطلاع على تفاصيل ما يكون هنالك يزيد في الإيمان ويُذيب قسوة القلب ويعين على صالح الأعمال، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّن أصحابه بالموعظة لئلا تقسو قلوبهم، من الغفلة والنسيان.

وإننا نُفيد من خبر هذا الرجل أمورا عظيمة في ديننا: سعة رحمة الله، كمال عدل الله، تمام علم الله، سعة الجنة التي خلق الله، تفاوت درجات المؤمنين في الجنة، ونستفيد أيضا أن من المسلمين مَن تصيبه النار دهرا، أولئك الذين ثقُلوا بذنوب كبيرة أثقلت ظهورهم وبطّأت أقدامهم على الصراط فأصابهم من لفح النار ما أصابهم، نسأل الله أن يحرّم أبشارَنا وآباءنا وأمهاتنا وذريّاتنا على النار.

أما الجنة التي خلق الله تعالى أيّها الناس فواسعة سعةً لا يتصوّرها العقل البشري، فإن الله أخبر أن عرضَها السماوات والأرض، فكيف هي؟ وإذا كان هذا الرجل المتأخر في دخولها قد حصل له مثل مُلك عشرة أضعاف الأرض كلها، فكيف بمن فوقه؟ فكيف بحال الأبرار؟ وكيف بالشهداء؟ بل كيف بالأنبياء؟ جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله عز وجل فاسألوه الفردوس" ويصف النبي صلى الله عليه وسلم عظمة مراتب أهل المنازل العالية، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".

وأما سعة رحمة الله فإن العباد لا يستحقون دخول الجنة بأعمالهم بل بفضل رحمة الله إياهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " لن يدخل أحد الجنة بعمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل "، وهذا حق عباد الله، أليس الله هداهم للإيمان؟ أليس هو مَن ثبتهم عليه؟ أليس هو من أماتهم عليه؟ فالأمر كله إليه، فنسأل الله ربنا الثبات على الإيمان حتى نلقاه، وتأمّلوا كيف جازى الله تعالى آخر أهل الجنة دخولا وأدناهم منزلة بمثل ملك الأرض خمسين ضعفاً، بعد ان عذبه في النار، أي رحمة عند ربنا تعالى، كيف يئس من رحمته الكافرون أم كيف قنط من رحمته الضالون؟

ومن أعظم ما يدل عليه هذا الخبر عباد الله أن من المسلمين مَن تمسُّه النار، لعظم ذنوبه، وعدم توبته منها، لكنه مات على الإسلام والتوحيد، وهذا من ما جاءت به نصوص الوحي الصحيحة الصريحة، وهي أن النار تصيب طوائف من المسلمين الراتعين في الكبائر من الربا والزنا والقتل ونحوها مما لم يصل إلى حد الكفر ثم لم يتوبوا منها قبل أجلهم أو لم يطهروا بالحدود الشرعية ولم يشأ الله مغفرتها، فإنّ الذنوب تثقل العبد يوم القيامة وتعيقه على الصراط وتُزلِقه، فلا يجوزه، فتنال النار منه بقدر ذنوبه، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات في عدة مناسبات، والموبقات المهلكات قال صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"، بل إن التساهل في صغائرها يهلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يوما: " يا عائشة إياك و محقرات الأعمال (و في لفظ: الذنوب) فإن لها من الله طالبا " وقال صلى الله عليه وسلم لعموم أمته: "إياكم ومُحقراتُ الذنُوبِ، كقَومٍ نَزلُوا في بطْنِ وادٍ فجاءَ ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى أنضَجُوا خبزتهم، وإنَّ محقَّراتِ الذُّنوب متى يُؤخذ بها صاحبُها تُهلِكْهُ " وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلوات الخمس وما أدراك ما هي؟ تكفر الخطايا التي تقع من العبد بينها إلا الكبائر، فعلمنا أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة الخاصة الصادقة ورد الحقوق إلى أهلها واستيفاء الحدود عليها، وإلا فصاحبها على خطر يوم القيامة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه عليها، ولكنّ الذنوب مهما كبرت لا تخلّد من مات مؤمنا موحدا في النار إلا الشرك، فذلك المهلكة، الشرك بالله العظيم، بدعاء أو نذر أو خوف أو رجاء أو ذبح أو طاعة أو تحليل أو تحريم أو محبة مع الله، هو المهلكة العظمى والمطبّة القاضية، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ [المائدة: 72]. فمن ذا يطيق النار ولو لحظة عباد الله، قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأشاح بوجهه وتعوّذ منها ثلاث مرات ثم قال: " اتقوا النار ولو بشق التمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ".

الخطبة الثانية
الحمد لله على سابغ نِعمه والصلاة والسلام على أفضل رسله وعلى آله وصحبه وتابعي دينه وسُنَنِه، أما بعد أيها الناس فإن من فوائد خبر ذلك المتأخّر في دخول الجنة أن الله عز وجل لا يضيع عمل عامل ما دام مؤمنا، فهذا العبد لا شك مات على الإيمان، وحمل معه أوزارا عظيمة، ولكن الله تعالى عدلٌ كريم ﴿ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: 44] فما ضيع الله عزوجل عليه إيمانه الذي مات عليه، بل نفعه به بعد عذاب استحقه بذنوبه، هذا مع أننا نجزم أن الله تعالى لا يؤاخذ الناس بجميع ما عملوا من السيئات، بل يعفو عن كثير. ولكن حسابَه عسير. فاتقوا الذنوب عباد الله واحرصوا على التوبة في كل آن لعل الخاتمة تكون حسنة، فإن العبرة بالخواتيم، وتصديق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه "، وقد جاء في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مدّ البصر ثم يقول الله عز وجل هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقول: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. قال: فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ". فاعرفوا فضل التوحيد الذي جاء الإسلام به، وخطر الشرك الذي حذّر منه.

واعلموا أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم والإيقاع بهم في حفر النار يوم القيامة ما استطاع على ذلك، وإنه لا يزال يوسوس للعبد بفعل المنكرات صغيرها ويجره إلى كبيرها، وإنما غايته التي يريد النهاية إليها هي الكفر والموت عليه، فكم رأينا ونرى من أشخاص استسهلوا ذنوبا وتشبّها وتقليدا في الأفعال وقالوا قلوبنا على الإسلام حتى أشربوا في قلوبهم حب المعاصي واستسهلوا شعارات الكفر ووقعوا في الكفر بأقوال وأعمال وماتوا على ذلك، ولهذا قال العلماء إن المعاصي بريدُ الكفر. وإن الشيطان حريص أن يوقع العبد في الذنوب والمعاصي ويستدرجه بها إلى الكفر ويمرر عليه الوقت ويسوف عليه التوبة لعله يموت قبلها فيكون على الخطر المخوف. والعبرة بالخواتيم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"، وقد أعذر الله إلى عباده، حين أرسل إليهم رسلا وأنزل عليهم كتبا وبين لهم ما يضرهم ودلهم على ما ينجيهم، فلن يهلك على الله إلا هالك متعمِّد مُصرٌّ على بصيرة من هلاكه، كما قال الرسول المشفق صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لتدخلُن الجنةَ كلُّكم إلا من أبى وشرد على الله كشرود البعير، قالوا: ومَن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ".

عبدالنور بن نوار بريبر