المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أصول الدولة العثمانية ونشأتها


المراقب العام
05-12-2019, 05:48 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



أصول الدولة العثمانية ونشأتها

وقد كان العثمانيون - في أصلهم - قبائلَ تركية فرَّت من بلاد آسيا الوسطى أمام الزحف المغولي، وقد أسلم جدهم (عثمان بن طغرل)، واستوطن هو وأتباعُه بلاد الأناضول، ومن ثم نجح في تشكيل دولة تُنسب إليه، فاتخذ مدينة - (قره حصار) قاعدة له، واستقل بعد مداهمة المغول للسلاجقة، وأصبح ملاذًا لكثير من المسلمين الذين يفرون من وجه التتار، وخاصة أنه أول من اعتنق الإسلام من أمراء قومه؛ ولهذا انتسب إليه الخلفاء من بعده؛ دلالة على ارتباطهم بالإسلام وليس بالعصبية، وتوفي في سنة (727هـ)، وكان خلفاؤه من بعده قد أخذوا على عاتقهم جهاد البيزنطيين، وتقدم العثمانيون في أوروبا وفتحوا مناطق واسعة، وأخيرًا تمكن محمد الثاني من فتح مدينة القسطنطينية عام (857هـ)، وغدا اسمها: (إسلام بول)، ويطلق عليها (إستانبول)[1].

ولم يكن انتصار الغازي محمد الثاني في القسطنطينية هو أول نصر كبير يحرزه آل عثمان، ولكن (الرمز) أو القيمة المعنوية لهذا الانتصار قد طغتْ على كل ما عداها من القيم.

لقد أحرز الفاتح أول انتصاراته وأضخمها على ضفاف البسفور، وهو ابن اثنين وعشرين عامًا (857هـ - 1453م)، فلم يداخلْه الغرورُ لما أحرزه، ولم يأخُذْه العُجْب بما أنجزه وحققه، فمضى للصلاة في مسجد (أيا صوفيا) شاكرًا لله على ما منحه من النعمة، وأطلق على المدينة المحررة فورًا اسم مدينة الإسلام (إسلام بول)، وأسرع إلى موضع استشهاد الصحابي (أبي أيوب الأنصاري) الذي استشهد في حصار القسطنطينية أيام معاوية بن أبي سفيان (سنة 52هـ)، فأقام بجواره مسجدًا، مبرهنًا على أن الفتح العظيم لم يكن إلا امتدادًا لجهاد العرب المسلمين[2]؛ من أجل رفع راية الإسلام والمسلمين.

وعرَف الفاتح أن هذا النصر لا بد وأن يستثير حقد الحاقدين من الفرنج والصليبيين، فمضى مجاهدًا في سبيل الله، محتسبًا الأجر والثواب على الله، فأتعب الدنيا وأتعبتْه حتى خرج من الدنيا مخلِّفًا للمسلمين فخرَ الدنيا وعزة الإسلام[3].

وقد اتجه حفيد محمد الفاتح السلطان سليم إلى دخول الأقاليم العربية، والوقوف في وجه البرتغاليين الذين أرادوا حربًا صليبية واضحة، وتعدَّوا من جهة الجنوب، فدخلوا عدن، واحتلوا مناطق الخليج العربي، كما استطاعوا بمساعدة الأحباش دخول البحر الأحمر، كما استطاع العثمانيون دحر الفرس الذين اتخذهم البرتغاليون مطية لهم.

وكما انتصر المماليك في معاركَ كثيرةٍ برية وبحرية، كان أشهرها (عين جالوت 658هـ)، كذلك فإن العثمانيين قد واجهوا الزحف الصليبي الذي كاد يدخل في أعماق الغرب والشرق الإسلامي، بعد إسقاطه لغرناطة سنة (897هـ/ 1492م)، وقد زحف الصليبيون فعلاً على تونس والجزائر خلال القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة، ولم يوقف هذا الزحفَ إلا ظهورُ القوة العثمانية.

ومن المعروف أن وجود الصليبيين قد فرض على الدولة العثمانية أن تكون في حالة استعداد حربيٍّ دائم، وحسْبُنا أن نذكر هنا بعض هذه الحروب؛ حتى لا يتعجل غير الموضوعيين في إصدار الأحكام الظالمة على هذه الدولة.

بالإضافة إلى سهرهم الدائم على الشواطئ الإسلامية في البحر الأبيض والأحمر والمحيط الأطلسي - وهو جهد استمر كثيرًا - فقد واجه العثمانيون خلال وجودهم في القرن التاسع عشر الميلادي وحده (الثالث عشر الهجري) حملة نابليون بونابرت على مصر، وحملته على الشام، وحرب الصرب (1804 - 1817م)، والحرب مع روسية (1806 - 1812م)، وثورة اليونان (1812، 1829م)، ومعركة نافارين البحرية التي اتحدت فيها إنجلترا وفرنسا وروسيا برُوح صليبية (1827م) ضد الدولة العثمانية، ثم احتلال الجزائر (1830م)، وحملة إبراهيم باشا على الشام، بتشجيع من القوى الصليبية الفرنسية، ثم احتلال بريطانيا لعدن (1839م)، وحرب القرم (1853 - 1856م)، وحرب الجبل الأسود (1862م)، وحرب الصرب الثانية (1881م)، والحرب التركية الروسية (1878م)، واحتلال فرنسا لتونس (1881م)، وإنجلترا لمصر (1882م)، والحرب اليونانية (1897م)، واحتلال إيطاليا لليبيا (1911م)، ثم حرب البلقان (1912م)[4].

وهكذا - من خلال نموذج الحروب التي خاضتها الدولةُ العثمانية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين - نستدل على نوعية العلاقة العثمانية الأوربية، وأسلوب الصراع الذي كان دائم الوجود بين الدولة العثمانية وبين أوروبا، التي لم تنسَ أن دولة آل عثمان هي التي أوقفت زحف الصليبيين على العالم الإسلامي بعد إسقاطهم الأندلس.

لقد كان المجتمع الإسلامي في العهد العثماني مجتمعًا إسلاميًّا جهاديًّا، شأنه شأن المجتمع الإسلامي في العصر المملوكي، وقد تفوق إسلاميًّا وكاد يسيطر على أوروبا، لولا ظهور الصفويين الشيعة الذين حرَّكتْهم أوروبا الصليبية، فاشتبكوا مع العثمانيين وأوقفوهم، وبدَّدوا طاقتهم في حروب داخلية.

وكما خضع المماليك لعلماء الشريعة، وأطلقوا أيديَهم، وقبلوا أن يَحكم عليهم سلطانُ العلماء (العز بن عبدالسلام) بغرامات وتضحيات كثيرة، كذلك كان العثمانيون يخضعون لعلماء الإسلام والشريعة، ممثلة في المفتين والقضاة والمحتسبين.

وكان المسلمون الخاضعون للدولة العثمانية - كما يقول العلامة الدكتور عمر فروخ - رحمه الله -: "لا يشكون شيئًا يحملهم على النقمة؛ فإن الدولة العثمانية كانت دولة مسلمة... وإذا كانت الدولة العثمانية قد مرت في أواخر أيامها بأحوال قاسية، فإن تلك الأحوال كانت خارجة عن سيطرة الدولة العثمانية، وكانت قسوتها عامة في الترك والعرب، وفي المسلمين وغير المسلمين، ثم إن المسلمين كانوا يتحملون هذه الأحوال القاسية؛ لأنهم (أو لأن أسلافهم) كانوا قد تمتَّعوا بالأمجاد التي كانت للدولة العثمانية في تاريخها الطويل، ثم إن الدولة ليست في المغانم المادية فحسب، بل الدولة جو رُوحي أيضًا يعيش فيه الفرد، وتعيش فيه الجماعة على رضا واطمئنان في حالة الأمن، وعلى أمل بالرضا والاطمئنان المقبلينِ في حالة البأس والشدة"[5].

وقد عاش النصارى كذلك حياة طيبة تحت ظل الشريعة والحكم العثماني، وما شكوا شيئًا في الدولة، لا في أيام الرخاء ولا في أيام الشدة؛ ففي أيام الرخاء كانوا يتمتعون بكل ما يتمتع به المسلمون من الحقوق، ثم يزيدون في أحيان كثيرة في الامتيازات على المسلمين، ولقد كان النصارى واليهود في الإمبراطورية العثمانية ملوك الاقتصاد والتجارة، كان على المسلم أن يقومَ بالخدمة العسكرية يقضي فيها السنين الطوال، وربما مات في حملة من الحملات على اليمن، أو في معركة من المعارك مع الروس، أو إن أراد المسلم أن يُعفى من الخدمة، فكان عليه أن يدفع البدل العسكري (خمسين ليرة عثمانية ذهبًا) مرة أو مرتين أو أكثر، يقضي جانبًا كبيرًا من العمر في تحصيله وجمعه، فيمنعه ذلك كثيرًا مما يريد من العلم والزواج، والعمل المنتج، أما غير المسلم، فكان مُعفًى من الخدمة العسكرية[6] لأسباب كثيرة أيضًا!

.. ولم يكن غريبًا أن تكون الصفة الملازمة لاسم السلطان العثماني هي صفة (الغازي)[7]، وكانت الشريعة تحكُم مجتمعًا جادًّا لم تَتَفشَّ فيه صورُ التحلل والابتذال والانحلال الأخلاقي التي عُرِفت في بعض المجتمعات.

لقد كانت أوروبا النصرانية بدولها المختلفة تقف في وجه الدولة العثمانية المسلمة، وتحرِّض على إخراجها من أوروبا الشرقية، واقتطاع أجزائها، وإذا كانت دول أوروبا تختلف فيما بينها، ويتناقض بعضها مع بعض في سبيل امتداد نفوذها، واقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية، وأخذها الخيرات والأسلاب، إلا أنها كانت تنسى كلَّ خلافاتها وتتفق في وقوفها في وجه العثمانيين[8].

وقد حاول السلطان العظيم "عبدالحميد" في مستهل القرن العشرين للميلاد (1293/ 1326هـ) أن يقوم بعدد كبير من الإصلاحات، ورفع شعار (يا مسلمي العالم، اتحدوا)، وأقام سكة حديد الحجاز، وحاول تحريك الأمة عِلْميًّا، وجمع العلماء حوله، لولا أن القوى العالمية وقفت ضده.

ومع ذلك كله، فثمة ملاحظة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تقويم العثمانيين، بالإضافة إلى الملاحظة الخاصة بطبيعتهم العسكرية؛ نتيجة ظهورهم في عصور هجوم أوروبي على العالم الإسلامي، بعد سقوط الأندلس، واضطرارهم للتصدي للحروب الصليبية، والدفاع عن العالم الإسلامي؛ هذه الملاحظة (الجديدة) هي أن العثمانيين، وإن كانوا قد نجحوا نجاحًا رائعًا في رفع راية الإسلام عالية في الدنيا، وألقوا مهابته في نفوس العالم؛ بهزائمهم لأوروبا مرارًا لثلاثة قرون منذ قيام دولتهم، إلا أنهم كانوا هم كذلك يسيرون في طريق الانحطاط كعامة الأمم المسلمة في هذا الزمان، بينما الأمم الأوربية التي تقابل الأمة التركية في الميدان، والتي عاصرتْهم كانت تسير في طريق الرقي المادي والتقدم الفكري، وفي القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري) انقلبت الأحوال، فقد بلغ من إحكام التنظيم العسكري، وتضاعف القوة المادية والمعنوية عند أمم الإفرنج أنها هزمت الأتراك المتخلِّفين هزيمة بيِّنة لأول مرة في معركة سينت جوثرد[9].

هكذا كان الموقعان والظرفان مختلفين، ومع ذلك قام العثمانيون بدورهم على خير ما استطاعوا، وقد قدموا صفحة استمرت خمسة قرون دفاعًا عن الإسلام وشريعته وحضارته، ولو لم يكن العثمانيون لاستطاعت أوروبا احتلال العالم الإسلام في وقت مبكر، ولكان مصير كثير من الدول الإسلامية لا يعلمه إلا الله، وما فعلتْه فرنسا في الجزائر خلال مدة تزيد عن مائة وثلاثين عامًا دليلٌ على نوعية ذلك المصير الذي كان ينتظر المسلمين، لولا أن قيض الله العثمانيين، جزاهم الله خيرًا.

[1] إسماعيل ياغي ومحمود شاكر: تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 1/151، 152، ط/ دار المريخ - الرياض (1404هـ).
[2] من المعروف شرعًا أن بناء المساجد على القبور مخالف للهدي النبوي، ويجب الإقلاع عنه.
[3] بسام العسلي: الفاتح القائد، ص: 11- 12، دار النفائس، ط (1406هـ).
[4] عمر فروخ: تجديد التاريخ في تعليله وتدوينه، دار الباحث، بيروت، ص: 280، 281، بتصرف.
[5] عمر فروخ: مرجع سابق، ص: 282.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق، ص: 7.
[8] إسماعيل ياغي ومحمود شاكر: مرجع سابق، ص: 153.
[9] أبو الأعلى المودودي: نحن والحضارة الغربية، ص: 110، ط/ مؤسسة الرسالة - بيروت، ويطلق على المعركة (سان جوتار) في الترجمة العربية.

د. عبدالحليم عويس