المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة سليمان والهدهد


المراقب العام
30-12-2019, 10:11 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



قصة سليمان والهدهد

أيها الأحباب الكرام، ويستمر الحديث عن النبي الأوَّاب، والعبد الشكور، الذي آتاه الله من الملك ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، فقد كنا توقفنا مع قصة نبي الله سليمان والنملة، وجنينا من هذه القصة الكثيرَ من الدروس والعِظات والعِبر، واليوم نجدد حديثنا مع قصة جديدة لنبي الله سليمان عليه السلام مع مخلوق آخرَ، نجني من هذه القصة الإشارات الجديدة والدلالات المتجددة، ونرسل كما عودناكم الرسائل والبرقيات، فها هو نبي الله سليمان عليه السلام يخرج ليتفقد الجيش فأخذ ينظر يمنةً ويسرةً في الحاضرين وأخذ ينظر في الموجودين، فأمعن نظرة في الطيور، فاكتشف غيابَ موظفٍ من موظفيه وجنديٍّ من جنوده، نظرًا للفراغ الذي كان يملؤه، فتعجب واستنكر عدم وجوده في موقعه؛ فقال الله على لسانه: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ﴾ [النمل: 20]، ماذا يُغنِي طيرٌ في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يُجدي أو يُضير إذا هو حضر أو تخلف؟ لكنه الانضباط التام والملاحظة العجيبة عند سليمان عليه السلام.

إنها مسؤولية الراعي الجسيمة ومهمته العظيمة في تفقد الرعية، سواء أكانت هذه الرعية صغيرة أم كبيرة، حتى لو كان مخلوقًا ضعيفًا كالطير، فـ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)).

إنها مهمة المسؤول الناجح أن يتفقدهم، أن ينظر إليهم، أن ينظر إلى حالهم، أن ينظر إلى مشاكلهم، أن يعرف احتياجاتهم، أن يعرف ماذا يريدون وماذا يعانون، إنها مهمة أولياء الأمور من الآباء والأمهات تجاه أبنائهم وفلذات أكبادهم، إنها مهمة كل مسؤول وكل مدير، أن يكون حازمًا، أن يتابع أعمال موظفيه، أن يقيم مسؤولياتهم، أن يصحح أخطائهم، أن يكافئَ الناجح والكفءَ، والمخلص والمتفاني، والمبدع والنزيه، والمثالي والعملي، ومن يقوم بمهامه ومسؤولياته على أكمل وجه. وينذر ويعاقب، ويؤنِّب ويؤدب المهملَ والمقصر، المتكاسل والمضيع، المتغيب والمتلاعب، المتساهل والمتقاعس عن أداء واجبه ومهامه الوظيفية؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ﴾ [النمل: 20]، فماذا قال بعد التفقد؟ ﴿ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]، وهكذا كل من تولَّى مسؤولية أو حَمَلَ أمانة لا بد له أن يتفقد، ويقول: ما لي لا أرى الموظف الفلاني في مكتبه؟ ما لي لا أرى فلان بن فلان في عمله؟ وكذلك الآباء والأمهات يقولون: ما لنا لا نرى ولدنا في المسجد؟ ما لنا لا نرى ولدنا في حلقات القرآن وحلقات العلم؟ ما لنا لا نرى ولدنا مع الصالحين والطيبين؟ ما لنا لا نرى ولدنا رفيقًا للمؤمنين والصادقين؛ ﴿ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾ [النمل: 20، 21]؛ فالمتساهل عن أداء واجبه يُحاسَب، المقصر في أداء مهامه يُساءل عن تقصيره، المهمل في عمله يُعاقَب جزاء إهماله؛ ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 21]، وهذا هو الكمال في الإنصاف والعدل.

إن جاء الهدهد بحُجَّةٍ قبِلتُ؛ فإن لصاحب الحق مقالًا، ولصاحب الحجة سلطانًا، وإن الحكم على الغير قبل سماع عذره وتبيُّنِ أمره فيه ظلم؛ لذا قال سليمان عليه السلام: ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 21]، فالعقوبة تُرفَع عمن يأتي بحجة واضحة، وبرهان بيِّن وظاهر يوضح ويبين فيه سبب تخلفه وتأخره، وسبب تقصيره.

﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [النمل: 22]، وأين كان الهدهد يا كرام؟ لقد خرج من فلسطين واتجه جنوبًا، وجعل يطير ويطير جنوبًا حتى تعدى الأردن وتعدى جزيرة العرب، وجعل يطير ويطير حتى وصل إلى اليمن، فرأى أنهارًا وجبالًا وقصورًا ووديانًا وعجائبَ، ولم يلبث طويلًا؛ لأنه كان في مهمة مع دين الله، وعندها أتى ليقف بين يدي نبي الله سليمان وعلى مسافة بعيدة منه، وأخذ يخاطبه بلا إحساس بالذل أو الخنوع أو الخوف؛ لأنه ليس مذنبًا حتى يخاف، ولم يكن في نزهة خارج عمله ليُحِسَّ بالهلع والرعب والقلق؛ قال الله تعالى: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ [النمل: 22]؛ أي: عندي معلومة ليست عندك، عندي من العلم ما ليس عندك، فهل غضِبَ سليمان لهذا الكلام؟ كلا؛ فقد كان سليمان على عظيم علمه يعلم أنه ما أُوتيَ من العلم إلا قليلًا.

نعم يا نبي الله: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ [النمل: 22]، مع أن الجن والإنس والطير والحيوان بين يديك، ورغم إمكاناتك والقوى المسخرة لخدمتك، فإنني جئتك بخبرٍ صادق لم تعرفه ولم تطلع عليه، قال: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]؛ جئتك بخبرٍ ليس بإشاعة، ولا يحتمل التأليف أو الظنَّ أو التخمين أو الافتراض، إنما خبري قائمٌ على التبين واليقين والتحقق العلمي الموثق، جئتك بخبر من اليمن وتحديدًا من قبيلة سبأ، فما هو هذا الخبر الذي جاء به الهدهد؟ وما خبر هؤلاء الناس؟ وما خبر هؤلاء القوم؟ وما خبر هذه القبيلة؟ وما حكاية هؤلاء البشر؟

وحينها توجه الهدهد لإلقاء محاضرة في التوحيد والعقيدة، كلماتها أحلى من الشهد المصفى، ألقاها الهدهد بحرقة ولوعة وألمٍ على أمَّةٍ أنكرت ربها، وجحدت نعمة خالقها ومولاها؛ فقال: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ [النمل: 23]؛ سرعة في الجواب، سرعة في الرد، سرعة في المدافعة، سرعة في سرد الحجج وتقديم الدلائل والبراهين؛ يقول أهل العلم: "ما قال الهدهد هذا الكلام إلا بعد أن صدع قلبه بالإيمان، واستحق أن يُذكَرَ في القرآن؛ لأنه اتصف بثلاث صفات: الوحدانية، الداعية، صاحب حجة.

وفي هذا درسٌ يلقيه الهدهد علينا، ويلقيه بالتحديد على كل من يُعرَف ببراءته ونقاء سريرته أن يسارع بالحجة والبرهان لدفع كل شبهة عنه، أن يبادر بتوضيح طهارته ونزاهته، أن يسارع بإزالة كل القذارات والشُّبَهِ التى ألصقها عليه كل حاقد؛ ولذلكم يا نبي الله ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]؛ لها خيَّالة، لها رجال، لها طوابير، لها جنود، لها حشم، لها خدم، لها أعيان، لها حرس، لها جيش، لها ديوان خاص، ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23]؛ دقةٌ فيما رأى، دقة في الوصف، دقة في الطرح، دقة في الملاحظة، دقة في رسم الصورة كما هي دون زيادة أو نقصان، سَرَدَ كلَّ شيء وطرح كل شيء بشكل موجز ومختصر، دون أن يُسهبَ أو يُطيل، ودون أن ينسى شيئًا، أو يغفل عن شيء أو يترك شيئًا.

وفي هذا درس لمن يرفع أمرًا أو يدلي بشهادة بألَّا يأتيَ بخبر دون آخر، أو يأتي بالتافه ويغفل عن الأساس، ويقدم الهين وينسى الأهم، أو يذكر الجزء وينسى الكل، إنما لا بد من وضع الأمر كما هو بتفاصيله وبفروعه وأجزائه، كما قدم الهدهد أصل القضية؛ فقال: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24]؛ غيرةٌ شديدة على دين الله، حرقة كبيرة على هؤلاء البشر الذين ميزهم الله بالعقل فسجدوا لغيره، لم يقل: وجدتهم يتحدثون، ولا وجدتهم يجتمعون، ولا وجدتهم يلهون أو يلعبون أو يمرحون، ولا وجدتهم يأكلون أو يشربون، إنما قدم أصل القضية ورأس الأمر وزُبْدَةَ الموضوع؛ وهي: وحدانية الله وعبوديته.

أتى بما خُلق الإنسان لأجله؛ وهي عبادة الله سبحانه فقال: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24]، فما هذه الغيرة وما هذه الحرقة! ﴿ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24]، أين نحن من هذه الهمة العالية، والنفس الطموحة التي أقبلت من اليمن إلى الشام ترفع الشكوى من الشرك والوثنية، وتنادي بالإيمان والوحدانية؟ أين أنت من هذا الطائر يا من نسيتَ أوامر الله؟ أين أنت يا من خُلقت لأجل الله ودينه وعبادته؟ يا من تشاهد المخالفات الشرعية بين ظهرانيك، ومع هذا لا تنكر ولا تغضب؟ بالله عليك حدثني عن طائرٍ يغار ولا تغار، عن طائر يحمل همَّ دين الله ولا تحمل هذا الهمَّ.

أتدري من هو سبب كل هذا؟ أتدري من هو الذي أوصلهم إلى عبادة غير الله: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]؛ إنه الشيطان الذي أملى لهم ذلك، إنه الشيطان الذي زين لهم ذلك، إنه الشيطان الذي سوَّل لهم ذلك، وهو السبب لكل ما يحدث اليوم في تزيينه لكثير من الناس سوء أعمالهم، وهو الذي يزين اليوم للزاني أن يزنيَ، وللسارق أن يسرق، وللقاتل أن يقتل، وللمرابي أن يرابي، وللمرتشي أن يرتشي، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ... ﴾ [النمل: 24]، وبعد أن تكلم عن السجود سابقًا فقال: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24]، ها هو يكرر السجود مرةً أخرى فيقول: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النمل: 25]، ما قال: ألا يسجدوا لله الذي رفع السماء، ولا قال: ألا يسجدوا لله الذي بسط الارض، إنما قال: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النمل: 25]، جاء بشيء يتعلق بحياته فهو يخبأ بيضه ويخبأ رزقه، وكأنه أراد أن يقول: كان الأولى بهم أن يسجدوا للواحد الأحد، كان الأولى بهم أن يتوجهوا له وحده سبحانه، ثم اختتم حديثه واختتم تقريره بقوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 26]، وفي البداية ذكر عرش بلقيس فقال: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23]، وهنا يكرر ذكر العرش لكنه عرش الله؛ وذلك لهدف أسمى وغاية عظمى؛ وهى: ألَّا يغترَّ الإنسان بعرش بلقيس؛ فقال: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 26]؛ قال المفسرون: "أصدق كلمة قالها الهدهد هي: لا إله إلا الله، لقد حفظ الهدهد الكلمة الخالدة التي لأجلها أرسل الله الرسل، ولأجلها خلق الخلق، ولأجلها أنزل الكتب، ولأجلها مدَّ الصراط، هي كلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، هي أصدق العبارات، وأجمل الكلمات، وأفضل الحديث، وأفضل الحسنات، فإذا جار عليك الناس فقل: لا إله إلا الله، وإذا رأيت السماء مرفوعةً بلا عمد فقل: لا إله إلا الله، وإذا رأيتَ البحر يتلاعب بالأمواج الهائجة فقل: لا إله إلا الله، وإذا رأيت الجبال هائمةً في الخيال، فقل: لا إله إلا الله، وإذا اشتد الخطب وعظُمَ الكرب فقل: لا إله إلا الله.

أحبتي الكرام، انتهى الهدهد من تقديم تقريره الكامل الذي لم يحمل أيَّ غموض أو تكهُّن أو التباس أو قصورٍ في أيِّ جزء من أجزائه، وفي هذا درسٌ هدهديٌّ لكل الذين لا يجيدون الصياغة، درس لهم أن يتعلموا من هذا الهدهد كيف يجيدون فن الإلقاء والعرض، درس لهم أن يتعلموا من تقرير الهدهد الذي جاء تقريره بأجزاء متماسكة متكاملة، موجزة كافية، وكلماته واضحة ومعبرة وبعيدة عن الغموض، أو التخمين، أو الإيجاز المخل، أو التطويل الممل.

ابتدأ تقريره بمقدمة مشوقة ومعبرة، والتشويق الكامل يأتي من قوله: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه ﴾ [النمل: 22]؛ فهي تثير في المستمع كلَّ قوى الاستعداد والتحدي لسماع ما سوف يأتي بعد ذلك، ما هذا الشيء الذي يعرفه الهدهد وأحاط به ولا يعرفه سليمان عليه السلام؟ ثم أتْبَعَ التشويق بإعطاء المستمع أو القارئ فكرةً عن طبيعة الموضوع؛ وذلك حينما قال: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]، فالموضوع يتعلق بسبأ، وما هي سبأ؟ وعلى السامع أن ينتظر بلهفة وشوق للاستماع والتعرف.

ثم انتقل بإعطاء صورة كاملة وشاملة وصافية وغير منقوصة بما رأى فيما يتعلق بقوم سبأ هؤلاء، فحدد: نظام الحكم، والقدرة الاقتصادية، والنظام الاجتماعي ووضع المرأة فيه، والنظام الحضاري، والعقيدة الدينية ومدى رسوخها في نفوسهم: فقال عن الحكم ووضع المرأة الإجتماعي: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ [النمل: 23]. وقال عن القدرة الاقتصادية: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]. وقال عن الوضع الحضاري والصناعي والمهاري: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23]. وقال عن الوضع الديني والعَقَدِيِّ المتمثل بعبادة الشمس: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24]. وقال عن مدى رسوخ هذه العقيدة في نفوسهم: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [النمل: 24]. وفي نهاية تقريره لم يقف الهدهد عند مجرد النقل والسرد، إنما ختم التقرير بجملة من التوصيات، ووَضَعَ خطةً محكمةً ومدروسة تستغرق وقتًا وجهدًا لتغيير هؤلاء وتحويلهم عن هذه العقيدة؛ فقال: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25، 26].

تقرير شامل وافٍ كافٍ، وملخَّص وموجز، ومستوًى راقٍ من جنديٍّ مبادر لم يكتفِ بمجرد تأديته الأوامر، ولكن - ومن منطلق فهمه وإيمانه برسالته التي يعمل تحت لوائها - ينطلق ويؤدي ويبدع ويتفانى في إتقان دوره بما ينعكس بأعلى درجات الكفاءة والفعالية على تحقيق وإنجاز هذه الرسالة.

أقول ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب، فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين ...

الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها الأحباب الكرام، استمعنا معًا في الخطبة الأولى إلى الكلام الذي قدمه الهدهد لنبي الله سليمان عليه السلام، الذي أوضح من خلاله الأسباب التي جعلته يتغيب عن مجلسه واجتماعه، كل هذه الرحلة الطويلة اختصرها الهدهد بتقرير معدود الكلمات، لم يفصِّل، ولم يطل، لكن هذا التقرير افتراض قد يحتمل الصواب أو الخطأ، ومن ثم لا يجب أن يبنيَ عليه حكم أو قرار إلا بعد تحويله إلى حقيقة. وهذا يحتاج إلى تبيُّنٍ وتأكد ودراسة واختبار لصحة الافتراض من عدمه، والبعد عن العواطف والانفعالات والنواحي الشخصية، وهذا بالضبط ما فعله سليمان عليه السلام مع الهدهد؛ حيث قال: ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]؛ أي: سوف نتأكد ونتبين مدى صحة ما تدعيه، وحينئذٍ يتم اتخاذ القرار المناسب، والقرار المهم تجاه هؤلاء لتحويلهم إلى عقيدة التوحيد.

إنه كلام الحكمة والعدل، إنه الرد الرصين بلا اندفاع ولا حِدَّةٍ، ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، ما قال له: صدقت، ولا قال له: كذبت؛ لأنه كان عليه السلام يملك حكمةً ومقدرةً فائقةً على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضة عليه، وفي هذا درس مهم ورائع نستلهمه من هذا الموقف السليماني وهو درس في التأني والتمهل والتروي، درس في عدم التسرع والعجلة في إصدار الأحكام جُزافًا، وما أجمل وما أروع أن يأتيَك خبرٌ مفاجئ أو معلومة غريبة، ويُطلب منك موقف منها فتقول: سأنظر في الأمر، سأنظر في القضية، سأتحقق من الموضوع، سأتأكد من الخبر، سأتحرى، سأتبين، سأتثبت، سأرى.

بعض الناس للأسف الشديد ما إن يسمع خبرًا، فإنه في سرعة عاجلة يخرج للتحدث، يخرج للنشر، وإذا سُئل من قال لك هذا قال: قالت القنوات والصحف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع)). لا ينبغي على المسلم الحقيقي والوَرِعِ أن يصدِّق كل ما يُقال له، وفي سورة التوبة عندما طُعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالوا: إنه يسمع كل شيء ويصدق - يسمع الخبر الكاذب ويصدقه ويسمع الخبر الصادق ويصدقه، وإذا جئناه صدقنا - فأنزل الله: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]، والله جل وعلا يقول في محكم آياته: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]؛ ولذلكم إن من يصدق الأخبار وينشرها ولا يتأكد منها، يخسر ثقة الناس به، يخسر أقرب المقربين منه، يخسر كل من يثقون به؛ فالنجاة لا تكون إلا بالصدق وتحري الأخبار والتأكد منها؛ والله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

أحبتي الكرام، كنتُ وإياكم في هذه الدقائق المعدودة بصحبة قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع الهدهد، قطفنا من هذه القصة الشائقة بعضًا من الدروس والعبر والإلماحات المهمة التي نحتاجها في حياتنا، وإذا كان في العمر بقية إن شاء الله، فإن الحديث سيستمر معكم مع حدث آخر وموقف آخر كله عظات وعبر، وحتى ذلكم الحين أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يكتب لنا القبول والتوفيق.

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

أحمد عبدالله صالح