المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المنشاوي... "لحن سماء" عجلت هزيمة العرب برحيله المبكر.


نبيل القيسي
25-01-2020, 01:43 PM
عندما تدور الأحاديث حول ما اصطلح عليه بـ"دولة التلاوة والقراء" في مصر والعالم العربي والإسلامي، فإن موضع سجدة واحدة أو اثنين على الأكثر تخر لها الجموع اتفاقاً، هو ثنائي ألحان السماء المتفرد "محمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد".

ولئن كان عبد الباسط أوتي بسطة في العمر وملكة التفنن؛ فإن ابن الصديق يتفوق في نظر المولعين بمقامات أئمة التلاوة، بصوت لا يضاهى في الاستحواذ على القلوب وبعث رسلها أنهاراً من المآقي، يتلاعب بجريان أوديتها كيف يشاء.

وفي حلول مئوية الراحل المنشاوي مطلع هذا العام، توثق المدونات القرآنية وباحثيها كيف أن الراحل، بين الأسرار المكنونة خلف صوته الأسيف في تلاواته الأخيرة، حزنه الأشد على ماحل بقومه العرب والمصريين، في هزيمة 1967، حتى غدا حرضاً وتخطفه المرض والأجل في 69، وهو لم يزل في شبابه وبداية بزوغ مجده، الذي تربع على عرشه ميتاً أكثر مما هو حي، قبل أن يذهب غيظ قلبه بانتصار الجيش المصري في 73 ثأراً لكرامة المصريين والعرب أجمعين.

هل هو قارئ الصحوة؟

وبين أبرز الأدوات التي يفاخر إسلاميون أنها تم توظيفها صحوياً "صوت المنشاوي" الذي اتخذوه أحد رسلهم في تثوير الجماهير، وإحكام عباءة الحزن والأسى على مفاصل حياتهم، مثلما يقر الباحث مرشد الجيالي الذي وثق في دراسة له أن الراحل كان "مقرئ الصحوة، فقد مرَّت أحداث مؤلمة هزَّت العلم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه في عصر المنشاوي - رحمه الله - ولم تكن مثل هذه الأحداث لتمرّ على الشَّيخ المربِّي الدَّاعية مرور الكِرام دون أخذ العِبر واستغلالها بما يَخدم الإسلام والمسلمين، ومن تِلْكم الأحداث حدث النكبة عام 67 وما تبِعها من مصائب، وما أعقبَها من نتائج لازِلْنا نعاني من ويلاتها إلى اليوم، والتي من أهمّ أسبابِها تفرُّق المسلمين وانكبابُهم على حبّ الدنيا وملذَّاتها، والفرقة التي مزَّقت دولة الإسلام، وجعلتْهم أحزابًا وشيعًا كلّ منهُم يدَّعي وصلاً لليْلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاك، والكلّ يدَّعي أنَّه حامل لواء الكتاب والسنَّة وينقد غيرَه من الجماعات، علمًا أنَّ الادِّعاء وحده لا يكفي بل لا بدَّ من التَّطبيق"، حسب بحثه التحليلي الذي درس فيه "تجويد المنشاوي"، ونشره منصة الألوكة السعودية.

وذكر بين مناقب الراحل مناكفته رسول الزعيم المصري الأسبق جمال عبد الناصر الذي وجه إليه دعوة لإحياء حفل يرعاه بتلاوته الندية، فكان جوابه الرفض، لسوء أدب الشخص الذي كُلف بإبلاغ دعوة الرئيس، فاعتبر المنشاوي أن المبعوث كان الشخص الخطأ، إلى القارئ الخطأ.

واعتبر الباحث الجيالي أن ذلك يأتي في سياق إجلال المنشاوي القرآن وليس معاندة السلطات، "فلم يكُن الشَّيخ المنشاوي قارئًا للقُرآن فحسب بل كان مربِّيًا، وبتعبيرٍ آخَر: ربَّانيًّا ومعلِّما يترْجِم ما يتلوه إلى واقع ملموس، انطِلاقًا من قوله تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"، وهذا يفسَّر لنا أنَّ النَّاس ومن مختلف الشَّرائح يتأثَّرون بتلاواتِه، وأنَّ تسجيلاتِه قد لاقت صدًى واسعًا في سماء القراءة المصريَّة وغيرها، وقد شهِد له بذلك عُلماء ربَّانيُّون وفُقهاء من مختلف البلاد الإسلاميَّة، ويفسِّر لنا أيضًا الإقبال على الاستِماع إلى تجويده... ولذلك عندما وجّه إليْه أحد الوزراء من قِبَل الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر قائلاً له: سيكون لك الشَّرف الكبير بِحضورك حفلاً يَحضره الرَّئيس عبدالناصر، ففاجأه الشَّيخ محمد صدّيق بقوله: ولماذا لا يكونُ هذا الشَّرف لعبدالناصر نفسِه أن يستمِع إلى القرآن بصوت محمد صديق المنشاوي؟! ورفض أن يلبِّي الدَّعوة قائلاً: لقد أخطأ عبدالناصر حين أرسل إليَّ أسوأ رسُله".

حوار مع موسيقار

المنشاوي لم يكتف بهذا الموقف فقط ليترجم إجلاله القرآن بالخروج عن سياق محيطه، وإنما أضاف إليه موقفاً آخر حسب الدراسة العلمية التي أعدها الباحث، ومن ذلك أنه "لم يلتحق بأي معهد لتعلم الموسيقا، ولم يدرسها على يد أحد الموسيقيِّين، وقد طلب أحد الموسيقيين الكبار في فترة الستينيات منه، وعرض عليه أن يلحن له القُرآن قائلاً له: يا شيخ، أنت الصَّوت الوحيد الذي يقبل الموسيقا في القُرآن، فقال له الشَّيخ محمد: يا سيدي لقد أخذت الموسيقا من القُرآن، فكيف تلحِّن أنت القرآن بالموسيقا؟! فخجل الرَّجُل من نفسه، وهذه عادة قبيحة من بعض القرَّاء - سامحهم الله - وانتشرت في الأوْساط القرائيَّة وهي أن يذهب المقرئ إلى موسيقار أو فنَّان، أو ملحِّن ليتعلم منه المقام أو النَّغم الذي يلائم صوتَه ليكون مشهورًا"!

ألحان السماء
كتاب ألحان السماء جمع بين النقد والتعريف بقراء وقارئات مصر الأوائل.
لكن المنشاوي على الرغم من أساطير الزهد وقوة الشخصية التي تروى عنه، إلا أنه عند كاتب "ألحان من السماء" لا يستحق حتى الذكر، إلا عبر الحديث عن والده الذي ورث منه الزعامة القرآنية والجسارة والتعفف، وهذا من أعاجيب اختلاف أذواق الناس حتى في أصوات القراء!

ويتداول المعجبون بالراحل أن زهده في الظهور دفعه إلى رفض الذهاب إلى استديوهات الإذاعة في القاهرة مثل أبناء جيله وسابقيهم، حتى أتته الإذاعة نفسها مريدة متواضعة في بلدته "منشأة" في الصعيد، التابعة لسوهاج (جنوب مصر)، فانطلق بصوته الملائكي إلى آفاق المعمورة، ليتذوق بعدئذ طعم الانتشار ويتجول في نواح أبعد، نحو السعودية والقدس والعراق وأندونيسيا، إلا أنه ظل لدى مقارنته بعبد الصمد الذي يشكل معه كفتي الميزان في العقود الماضية، فإنه لم يحظ بمثل الذي وجد من قبول واهتمام بين سواد الناس.

وتناول باحثون مصريون، كيف أن الغيرة من المنشاوي بين محيطه، دفعت إلى محاولة قتله عبر السم، وهي القصة التي تناقلها كل المعجبين به، على هيئة الانبهار بالراحل الذي عفا عمن حاول قتله بل لم يُشعره بأنه علم أصلاً بفعلته.

النفس الكريمة للقارئ ليست بعيدة عما وثقه محمود السعدني عن صديق والد المنشاوي، يوم دعته إحدى العائلات في مدينته إلى إحياء ليلة من ليالي المآتم التي كانت صاحبة الفضل في بروز القراء والقارئات في تلك الحقبة بمصر. وكعادته حسب الراوي لا يشترط المنشاوي الأب أجراً على عمله بخلاف غيره، فيأخذ ما أعطي قل أو كثر. إلا أن وجيه أهل الميت، أراد أن يختطف غفلة الشيخ ويودع في جيبه جنيهاً من ذهب إمعاناً في إكرامه، بيد أن يده أخطأت الجنيه وتناولت "مليماً" لا يساوي شيئاً يذكر كان بجوار الذهب، فذهب تعب الشيخ سدى. ولم يكتشف رب العزاء ما حدث إلا في الغد، فسارع من حينه نحو صديق المنشاوي يحمل إليه عطاءه معتذراً خجلاً، فرفض الشيخ أن يأخذه منه قائلا "هذا نصيبي والحمد لله. لن آخذها".

عائلة وهبت نفسها للقراء

أما صاحب "عباقرة التلاوة" الكاتب شكري القاضي، فإنه يعتبر تاريخ المنشاوي القرآني ليس استثناءً في محيطه، فهو "ينتسب إلى أسرة وهبت أبناءها للقرآن بداية من كبيرهم والده الشيخ صديق ونهاية بشقيقه الأصغر محمود، وما بينهما عمه الشيخ أحمد ثابت القارئ المعروف". مشيراً في (ص100) من كتابه إلى أن بدء انطلاقة القارئ كانت صدفة، عندما شارك والده في "إحياء ليلة قرآنية وما كاد صوته يصافح آذان المستمعين حتى نال إعجابهم بما حباه الله من القوة والجمال والعذوبة، إضافة إلى تعدد مقاماته وتجسيده العميق لمعاني القرآن الكريم، ولعل أشهر قراءاته تلك التي كان يقرأ فيها بمولد أبي الحجاج الأقصري في نفس الوقت الذي كان يقرأ فيه الشيخ عبدالباسط عبدالصمد في مولد "سيدي القناوي" بقنا، إبان تلك الليالي الزاخرة بنور آيات الذكر الحكي التي انتقل بها الشيخ محمد صديق المنشاوي إلى معظم البلاد الإسلامية والعربية بعد أن ذاع صيته شرقاً وغرباً، وأصبح في الصفوف الأولى بين كوكبة القراء".

عباقرة التلاوة
يوثق مؤلف الكتاب كيف أن المنشاوي من عائلة وهبت نفسها للقرآن.
ويرى المؤلف الذي جمع في كتابه من اعتبرهم عباقرة الجيل الأول والثاني من صفوة القراء المصريين، أن "المنشاوي الابن أحد عباقرة الجيل الثاني من القراء المرموقين إلى جانب أبي العينين شعيشع وكامل يوسف البهتيمي ومحمود خليل الحصري، إضافة إلى الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود علي البنا والشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ محمود عبدالحكم وغيرهم". وهم الذين اعتبرهم حملوا راية التلاوة في أعقاب الرواد أمثال أحمد ندا ومحمد الصيفي وعلي محمود ومحمد رفعت ومحمد سلامة وأحمد سليمان السعدني وعبدالفتاح الشعشاعي والمنشاوي الأب وغيرهم.

أما المواصفات التي أوجدت للمنشاوي وسابقيه، هذا الصدى الخالد، فإنها في اعتقاد صاحب كتاب "ألحان من السماء" محمود السعدني، تعود إلى الموهبة والقرب من الناس. وبدا أنه لا يرى المنشاوي لائقاً بالمقام الذي يؤهله للكتابة عنه وإنما ذكره في كلمتين عند تناول أبيه الذي خصص له بضع أسطر هو الآخر، في وقت لم يستطع فيه تجاهل عبدالباسط، وسماه "صوت عموم المسلمين" وإن كان بحدة تستبطن النقد أكثر مما تبرز المزايا التي شغف بها عبد الصمد الجماهير حباً. بينما في مقدمة طبعة جديدة من الكتاب أعقبت تأليفه بسنوات استوحش غياب القراء الكبار من ساحة مصر بعد رحيل العظماء بمن فيهم المنشاوي!

الاشتياق للرحيل

وذلك على النقيض من مصطفى إسماعيل الذي استفتح به الكتاب ووصفه بـ"صوت الشعب"، قائلا "الأصوات كالوجوه لكل منها سحنة خاصة، هناك أصوات تنفر منها وأصوات تدخل السرور عليك، وأصوات ترتاح إليها، وأصوات تجعلك بالرغم منك تعشقها وتحبها. والاصوات كالمعادن بعضها كالصفيح، وبعضها كالفضة وبعضها له بريق الذهب، وبعضها له رنينه، ويندر جداً أن يكون الصوت من ذهب، مثل صوت الشيخ مصطفى إسماعيل".

وإذا ما عدنا إلى صاحب المئوية وفقاً لما يرويه عن نفسه دون واسطة، فإنه كان أبسط بكثير مما يتوهم الباحثون عن خلق أمجاد له وصراعات، هو في غنى عنها، كأن لم يكفيه صوت الوحي الخالد به بين الملايين. وأثناء بحث "اندبندنت عربية" في سيرة الراحل وتاريخه، وجدت أن الناشطين وثقوا تسجيلاً نادراً له في إذاعة "صوت الشعب" المصرية، بدا أنه الشيء الأكثر أهمية مما تملكه عن بلبل الصعيد، بدليل أنها أعادت بثه في مناسبة مرور 40 يوماً على رحيله عام 1969م، بينما جرى عقد حوار التسجيل قبل ذلك بعامين في 67، وفيه استفتح ابن الصديق الحلقة بآيات، اعتبرتها الإذاعة فيما بعد ذات دلالة، وكأن الشيخ أحس بقرب أجله، أو أن مرارة الهزيمة دفعته مثل المصريين والعرب إلى تفضيل الموت على الحياة، فقد تلا على خطى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام قوله تعالى في سورة الشعراء "رب هب لي حكماً والحقني بالصالحين، واجعل لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم". وهكذا كأنما استعد للرحيل قبل أن يحين بتوديع جمهوره من المحبين والمستمعين.

مسيحي يبني مسجد المنشاوي
وفي ذلك اللقاء النادر روى الراحل بتواضع شديد القصة التي نفخ فيها الصداميون كثيراً، على غير ما يهوون، إذ قال لمذيع الحلقة إن الموضوع كان بمحض الصدفة، فأحد الأصدقاء سعى من أجلي كي أشارك في الإذاعة، وصادف أن تكللت مساعيه بالنجاح حلول شهر رمضان المبارك الذي ألتزم فيه بلدتي "المنشأة"، فما كان منه إلا أن أكمل معروفه وأقنعهم بالاتيان إلى البلدة بأجهزتهم. ليقوم من يومه بتسجيل تلاوته التي تقبلها الناس، ثم ظل بعد ذلك يذهب إلى القاهرة للتسجيل من دون أي إشكال أو ترفّع. بل إن المنشاوي لم يخجل من ذكر قيمة الأجر الذي كان يتقاضاه من الإذاعة لقاء دقائق التلاوة التي يسجلها، إذ بدأ ب12 جنيهاً، حتى بلغ 25 في مقابل كل نصف ساعة تلاوة قبل عامين من وفاته. وهذا لا ينسجم مع الرواية الاخوانية التي صوروا بها الشيخ وكأنه جبار عن

الأصوات القبيحة سادت بعد الجميلة

وفي وقت درج التساؤل باكراً عما وراء انقطاع نسل العبقرية القرآنية في مصر على نحو ما ألف الناس في القرن الماضي، يحمّل الكاتب محمود السعدني في قراءته النقدية التنظيمات الإرهابية، تزهيد الأجيال اللاحقة في ذلك النهج، مثلما أجهضوا من قبل بروز القارئات من النساء ودفنوا تجربتهن تحت ذريعة القول بأن "صوت المرأة عورة" حتى وهي تتغنى بالقرآن!


واعتبر بين الآثار المترتبة على تلك الحملة، أن أصبحت المآذن تضج بأصوات منكرة، لا تؤثر في أحد، فيما "كان الشيخ علي محمود يرحمه الله (مؤذن مصري) يرفع الأذان من فوق مئذنة سيدنا الحسين فيجتمع عشرات الألوف في الميدان للاستماع إلى أذانه، أما اليوم فنستمع إلى عشرات الميكرفونات عبر الشوارع والساحات فنتمنى أن نهاجر بعيداً عن هذه الأصوات. كان الشيخ علي محمود ينفذ وصية رسول الله، وهؤلاء السادة من أصحاب الأصوات القبيحة يتحدون رسول الله ويخالفون وصيته". لافتاً إلى أن التلاوة أصابها هي الأخرى ما أصاب الأذان.


واستغناء صاحب المئوية صديق المنشاوي عن تلك المقامات الغنائية في الأصل وتحكيم ذائقته اللغوية في التلاوة كما سبق، كان بين الخصال التي جعلته مفضلاً بين الإسلاميين على منافسه في الصدى والمجد عبدالباسط عبد الصمد، الذي تفنن في أداء آي الكتاب العزيز على مقامات شتى، فيما تمسك المنشاوي بوقار الأداء المرتل والمجود فقط، ولم يزد عنها حتى عاجلته المنية ورحل تاركاً تسجيلاته الحزينة خليفة له، وسلوى للباحثين في ملائكيتها عن سند إلى السماء يرتقي بهم ويسمون.