المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قواعد قرآنية في مكارم الأخلاق


المراقب العام
06-02-2020, 05:28 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



قواعد قرآنية في مكارم الأخلاق

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فلا يَخفى أيها الأخوة الكرام أن الإنسان مدني بطبعه، لا ينفك عن ضرورته إلى مخالطة الآخرين والتعامل معهم، وهذا التعامل ينبغي أن يكون قائمًا على أُسس كريمة وثوابت سامية، مما يحفظ به الإنسان حقوق الآخرين، ويضمن به أيضًا أداء حقِّه منهم، وقد جاءت شريعة الإسلام الكاملة التامة المرضية عند ربنا جل وعلا، جاءتْ بضمان وترتيب هذه الأحوال فيما بين بني الإنسان في كل دوائر تعامُلاتهم؛ سواء كان في الدوائر القريبة الصغيرة، مما يكون فيه الإنسان قريبًا ممن حوله من والِدَين وزوج وأولاد، ثم ما يكون من جيران وغير ذلك إلى أبعد من هذا في التعامل مع كل من حوله، ولَما كانت أحوال الناس أيضًا قد تكون متأثرة بطبيعة المعيشة، فربما ينعكس هذا على أن يكون ثمة ضيق في الأُفق وضيق في العطن، تجعل بعض الناس يندفع غير هيَّاب ولا مُلاحِظ لِما يستحقه مَن حوله من الأخلاق الكريمة، ومن التجاوز عن الهفوات والعَثرات، جاءت شريعة الإسلام لتُرتِّب هذا الأمر في جملة كريمة من نصوص القرآن والسنة، ومما عدَّه العلماء من جوامع الأخلاق ما دلَّت عليه الآية الكريمة في سورة الأعراف: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].

إن هذه الآية الكريمة لتجمع مكارم الأخلاق، وتُهيِّئ للإنسان تعاملًا كريمًا مع مَن حوله؛ حيث إن هذه الآية الكريمة توطِّن الإنسان على أن يكون إيجابيًّا في كل أحواله؛ سواء كان الذي أمامه قائمًا بحقِّه، مؤديًا فرضه، أو كان مقصرًا في أداء ذلك.

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾؛ قال العلماء: هذه الآية الكريمة فيها الآداب العظيمة التي أدَّب الله جل وعلا بها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي امتدحه ربه بعد أن كمَّله وجمَّله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فكان حريًّا بالأمة أن تنهلَ من مورده، وأن تشرب من منهله، وأن تكون على هذا المنهاج الكريم.

إن أفراد الأمة لبِأَمَسِّ الحاجة إلى السير على هذا المنهاج الكريم، هذه القواعد العظيمة التي أصَّلت لها هذه الآية الكريمة: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾.

قال العلماء: قوله جل وعلا: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾، المعنى: أن يكون الإنسان سهلًا لطيفًا مع من حوله، لا يطالبهم بأن يكونوا كالملائكة، لا يطالبهم بأن يكونوا على أكمل ما يكون في التعامل، يطلب منهم أحسن الكلام، أحسن الفعال، أحسن التصرفات، لا يتحمل منهم أن يُخطئ منهم أحد، أو يَزل، هذا المطلب مطلب عسير؛ لأنه يشق على الناس أن يكونوا على هذا القدر الأعلى في التعامل؛ لذا خذ العفو ما جاء من الناس على سجيتهم، فأدوا به حقك من التعامل الطيب بالكلام الحسن عند مواجهتهم إياك، عند تعاملهم معك.

ما جاء من كلام حسنٍ، وتصرُّف طيب، وفعال كريمة، فاقبلْها، ولا تطلب أن يكون ذلك على قدرٍ أعلى؛ لأنك ستتعب، لأنك سوف تقلق، لأنك لن تحقق ذلك ولن تجده، لن تجد ذلك أبدًا؛ لأن الناس إما أن يكون بعضهم قليل المعرفة، ضيِّق الأفق، ليس عنده من الأدبيات ما ينطلق به نحو ما تريد، وربما في بعض الأحيان يكون الإنسان تحت وطْأَة ظروف معينة، تُقابله، تنتظر منه ابتسامة ووجهًا بشوشًا، فلا تجد منه ذلك، فلا يضيق صدرك، ولا يتعكر مزاجك لهذا، فلا تدري ما حاله؟ ربما أنه يمر بظرف لا تُمكِّنه من هذا، ربما أن عنده ما يَعتذر به وأنت لا تدري، لذلك ما صدر منهم من خير، فاقبله وابتهج به، واشكرهم عليه، وما كان من سوى ذلك، فتلمَّس العذر ولا تُدقِّق، ولذلك افترض وتوقَّع أن ثمة ما يُعيق عن أن يكون من الذي أمامك ما ينبغي أن يقوم به نحوك.

وقع في إحدى المرات أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه صحابي كريم وقد أهداه حمارًا وحشيًّا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في السفر نحو الحج لبيت الله الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مُحرمًا، فما كان من هذا الصحابي الكريم إلا أن بادَر وصاد حمارًا وحشيًّا وهو طيب اللحم، وهو مما يُهدَى فيُكرم به مَن يُهداه، فلما قدَّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، اعتذر منه ولم يقبله، هذا النبي الكريم الذي عرف الناس من أخلاقه أنه يقبل الهدية ويكافئ عليها، هذه سيرته عليه الصلاة والسلام، فكأن هذا الصحابي الكريم وجد في نفسه: ما بال رسول الله يرد عليَّ هديتي، قال عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الخلق خلقًا - وقد لحظ في وجه الصحابي الكريم التأثر بعدم قَبول الهدية - قال له عليه الصلاة والسلام: ((إنا لم نرده عليك - إنا لم نرفض هديتك - ولكنا حُرُم))؛ أي: لكننا مُحرمون، ومن المعلوم أن الْمُحرِم لا يجوز له أن يصيد الصيد، ولا أن يقبل الصيد الذي صِيدَ من أجله، هذا هو النُّسك الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن الإنسان ينبغي أن يتوقع أن ثمة من الأعذار التي تكون ممن حوله ما لا يطَّلع عليه، فلا يطالبهم أن يكونوا في كل الأحوال على ما يتوقعه من طيب الكلام، وانطلاق وانشراح الصدر، وبهجة الوجه؛ لأنه ربما ثمة ما يعذرون لأجله، وقد أصَّل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى في الدائرة المهمة، وهي العلاقة بين الرجل وزوجه، بين المرأة وزوجها، فقال عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في صحيح مسلم: ((لا يَفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))، لا يبغض المؤمن زوجته، ولا تبغض المؤمنة زوجها بسبب كراهية الواحد منهم لخلقٍ رآه منه.

(لا يفرك): لا يبغض مؤمن مؤمنة، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة مهمة جميلة كريمة في التعامل مع الآخرين: (إن كَرِه منها خلقًا رضِي منها آخر))، انظر إلى الجانب الإيجابي وتَجاوَز السلبي، انظر إلى الصفحات البيضاء، ولا تتوقف عند الصفحات السوداء، تذكَّر المحاسن والمكارم، وتجاوَز ما قد يكون من الهفوات، هذا مع نص النبي صلى الله عليه وسلم على ما يكون من الرجل مع امرأته، ووجه له الخطاب؛ لأنه يتكرر التعامل، فإذا قدم لك شيء أو سمعت شيئًا من كلام من زوجك، لم يرق لك، ولم يرتق إلى ما تطلب، لا تقف مع هذه اللحظة، بل تذكر اللحظات الأخرى، إن كان السيئ من الكلام تسمعه الآن، فتذكر كلامًا كثيرًا كان طيبًا يَشرح خاطرك ويسرُّ مُحيَّاك، إن كان هذا التصرف اليوم سيئًا، فتذكَّر تصرفات كريمة سابقة، اجعل المكارم شافعة لما قد يكون من الهفوات، وكما قالت العرب: إن الحر يحفظ ودَّ ساعة، ولا بد أنه قد مرَّ بينك وبين زوجك من لحظات الود ولحظات الانشراح ولحظات التعانق الروحي، ما ينبغي أن يكون شافعًا لهذه اللحظة التي قصرت فيها المرأة عما ينبغي أن يكون عليه مما تتطلبه، هذا منهج الكرام، هذا منهج الذين يسيرون على نهج النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.

﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾: ما صدر من الناس على سجيتهم، فاقبله ولا تدقِّق، وينبغي أن تنظر في الحسنات وتَستكثرها، والسيئات تتجاوز عنها وتَستقلها.
ثم قاعدة أخرى:﴿ خذ العفو وأمر بالعرف ﴾.

ينبغي على الإنسان أن يكون آمرًا لمن حوله متطلبًا منهم ما عليه العرف، والعرف ما تعارَف عليه الناس من مكارم الأخلاق في الأقوال والأعمال.

لا يصح من الإنسان أن يأمر الناس بما يشق عليهم، إنما يتطلب منهم ما هو من العرف، وخاصة أن لكل مجتمع عرفًا يسير عليه، ولذلك سُمِّي معروفًا تعارف عليه الناس ذوو الفِطَر السليمة، والأخلاق القويمة، والأفكار الكريمة، إذا تعارفوا على أمر أنه حسن، فينبغي أن يكون الإنسان سائرًا على هذا الأمر؛ سواء كان ذلك في التعاملات، أو في طريقة المشي، أو في طريقة اللباس، أو في طريقة التعاطي في أي أمْرٍ من الأمور، لا يصلح من الإنسان أن يُخالف ما تعارَف عليه الناس؛ مما دلت عليه العقول الكريمة الصحيحة والفطر المستقيمة، ولذا جاءت الشريعة مانعة عن أمور يشذ بها الإنسان عن عُرف مجتمعه ومحيطه، فجاء على سبيل المثال النهي عن لباس الشهرة، لباس الشهرة الذي يلبسه الإنسان في مجتمع لم يتعوَّدوا أن يَرَوْه عليه، ولذلك قرَّر العلماء أن أمور اللباس من أمور العادات والأعراف، فهي ألصق بذلك من جانب كونها تعبُّدًا في ذاتها، نعم جاءت الشريعة بضوابط معينة من الأمر بستْر العورة؛ من منع الإسبال للرجال، ومن منع الكشف لعورات النساء، لكن في الجملة يبقى أن ثمة في كل مجتمع عرفًا يسيرون عليه، فهذا الذي تأمر الشريعة بملاحظته، ولذا نُهِي عن الشهرة في اللباس، وهكذا في الأمور الأخرى.

﴿ وأْمُر بالعُرف ﴾: فالإنسان يلاحظ هذا الأمر، ولذلك نبَّه العلماء على أن المعروف في قواعد أصيلة عظيمة في التعاملات، قالوا: إن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، إذا تعارف الناس على أمر معين فهو كالشرط القائم، وخاصة فيما يكون من المعاملات في البيع والشراء، ونحو ذلك.

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾:
الإنسان مهما تحلَّى بمكارم الأخلاق، ومهما تعامل التعامل الطيب، فلا بد أن يجد ما يُكدِّره، فلا ينبغي له أن يضيق صدره، ولا أن يتأثَّر بهذا التعامل، بل إنه يصبر ويحلم ويعرض، يتجاوز ما قد يكون من زلات الجاهلين، فلا يصلح من الإنسان أن يقابل جهل الجاهل بالجهل، ولا مكر الماكر بالمكر، ولا كيد الكائد بالكيد، المؤمن يترفع عن كل ذلك، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم - ثبِّتوها ورَبُّوها على الخير - إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم)).

وهذا المنهج يحتاجه المسلمون اليوم أيَّما احتياج، خاصة في ظل اختلال الحفاظ على الأنظمة التي تضمن للناس عيْشهم عيشًا كريمًا، ولذا فإن ما يعيشه العالم الصناعي في الغرب وغيره من انضباط في التعاملات مَرده إلى المحافظة على الأنظمة، والمحافظة على الأنظمة جاءت به الشريعة آمرةً، فمن أخَذ به ضمِن العيش الكريم بإذن الله، وهذا من السُّنن الكونية والنواميس الحياتية التي من أخَذ بها عزَّ ورادَ، وكانت له الريادة، وكانت له المبادرة في الأخذ بزمام الأمور، والتحكم في كثير من الأحوال في الأمور الصناعية والتجارية وغير ذلك، فإن سنن الله جل وعلا لا تحابي أحدًا، من أخَذ بها وعمِل بها، عزَّ وارتفع، وكان له الأخذ بالزمام في هذه الأحوال.

﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾: ومما ينبغي أن يلاحظ في هذا الأمر أيضًا في شأن إعراض الإنسان عن الجاهلين، ألا يكون سريعًا في غضبه في مقابلة ما قد يسمعه أو يواجهه من أخطاء، وهذا أمر لا ينفك الإنسان عن الحاجة إليه؛ لأن المرء إذا واجَهه جهلُ جاهل، فإنه يفتح على نفسه باب الغضب، وإذا فتح باب الغضب على الإنسان أخطأ أخطاءً شنيعة، ربما أدت إلى إزهاق الأرواح، وإلى انفكاك الأواصر بالطلاق والفراق وغير ذلك، وهل مُلِئت المحاكم والسجون بكثير من السجناء إلا بلحظة غضب لم يضبط فيها الإنسان مشاعره، ولم يأخذ بهذا الأصل العظيم ﴿ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾، إذا جهِل مَن أمامك، فقال ما يقول من قولٍ سيِّئ، أو تصرُّف ما يتصرَّفه مِن تصرُّف بذيء، فلا تتجاوب معه على هذا النحو، ولكن: ﴿ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾.

خذ بهذه الوصية النبوية لَمَّا جاءه رجل وقال: يا رسول الله، أوصني، قال: ((لا تغضب))، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب))، يستزيده الوصية، يكرِّر عليه: (لا تغضب))، فكرَّر مرارًا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: ((لا تغضب)).

وهذا المنحى تُقام فيه دورات تخصُّصية في شأن إدارة الغضب؛ لأن الغضب مفتاح شرور عظيمة، مَن لم يتمالك نفسه فيه، فإنه يؤدي به إلى أخطار ليس لها حدٌّ، ولذا جاءت الشريعة بأمور يكون بها التحكُّم، من مثل أن يخرج الإنسان من المكان الذي غضِب فيه؛ إن كان قائمًا أن يقعد، وإن كان قاعدًا أن يضطجع، وأكمل من ذلك ومعه أن يتوضَّأ؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والنار تطفئ بالماء.

أيها الأخوة الكرام، إن هذه الأصول العظيمة نحتاجها جميعًا في صباحنا ومسائنا، في كل تعامُلاتنا، ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾.

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحْبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فقد روى الإمام ابن جرير وابن أبي حاتم رحمهما الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزَلت عليه هذه الآية الكريمة: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾، قال: ((ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمَّن ظلَمك، وأن تعطي مَن حرَمك، وأن تَصِل مَن قطَعك)).

إن هذه الأصول الثلاثة ترجمة عملية لهذه الأوامر الربانية، وإن عواقبها على الإنسان نفسه كريمة عظيمة جليلة، كما أن آثارها في المجتمع لا يُحَدُّ وصفُها، إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، المسلم لا يَبني نفسه على الأحقاد، المسلم يتصف بصفات أهل الجنة؛ ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].

مَن هيَّأ نفسه بهذه الصفة في الدنيا، كان أحرى أن يكون من أهل الجنة، المسلم لا ينطوي قلبه على حقد نحو الآخرين، وإن أساؤوا وإن أخطؤوا في حقه، فإن أخلاق الأنبياء وأخلاق الصالحين هي العفو وتطلُّب الثواب من الله جل وعلا؛ أن تعفو عمن ظلَمك، وأن تعطي مَن حرَمك.

المسلم لا يقابل الناس بالعطايا الحسية المادية أو المعنوية على سبيل المقابلة معهم أن إذا أحسنوا معه يُحسن إليهم، وإذا أساؤوا يُسيء إليهم، لا؛ إنه يتعامل مع الله، يُحسن إلى الناس؛ لأنه يرجو الثواب من الله، إنه كما وصف الله أهل الجنة: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].

المسلم مشاعره هنا في الدنيا وعطاياه وأخذه، ومنعه وصده وإقباله، لكن هاجسه وخاطره الأكبر هنالك على الجنة، يرجو ثواب الله، وهنالك على النار، يخشى عقوبة الله جل وعلا، هكذا يكون المؤمن.

(وأن تعطي مَن حرَمك)، وهذا أعظم ما يكون في مكارم الأخلاق، إن الإنسان حينما يكافئ من أعطاه من قبل ومَن بادره، فهذا على سبيل المقابلة، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الواصل بالمكافئ - واصل الرحم ليس الذي يكافئ إن وُصِل وَصَل، ولكنه أعظم وأكرم وأجَلُّ - ولكن الواصل مَن إذا قُطِعت رحمه وصَلها))، مَن إذا حرَمه أحد، ومنعه وظلَمه، واجَهه بأن تكون يده هي العليا، فيعطي في كل الأحوال وعلى وجه الخصوص فيما إذا منع وحرم وظلم، فهذه أخلاق الأنبياء، ثم قال: (وأن تَصِل مَن قطعك)، المؤمن كما تقدم إنما يرجو ثواب الله لا يعطي على سبيل المكافأة، لا يعامل الخلق، لكن يعامل خالِقَهم، يرجو ثوابه ونواله جل وعلا.

أيها الأخوة الكرام، إننا أحوج ما نكون إلى الاستمرار على هذه الأصول العظيمة: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾.

ألا وصلُّوا وسلُّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارضَ عن صحابة نبيِّك من الخلفاء الراشدين - أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي - وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن تابعيهم، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين وأذِلَّ الكفر والكافرين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح ووفِّق ولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لما فيه الخير والهدى، واجعلهم رحمة على رعاياهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح لهم البطانة وأعِذْهم من سوئها يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين، ونفِّس كرْبَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بلِّغنا شهر رمضان، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الألوكة

خالد التجاني احمد
06-02-2020, 07:14 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خير على هذا الموضوع القيم..
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إنما بُعثت لأُتتم مكارم الأخلاق)) موطأ مالك.
فقد كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فمكارم الأخلاق وحسن العادات التي دعى لها الإسلام من الأهمية بمكان في حياة المسلم وبها تستقيم حياته ويسعد في أخرته.