المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم


المراقب العام
09-02-2020, 05:57 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



فوائد من "بدائع الفوائد" لابن القيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فممَّا يوصي به أهل العلم أن يكون لطالب العلم سجل خاصٌّ به يسجل فيه ما يمر به من فوائد ومسائل؛ يقول الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: "اجعل لك (كناشًا) أو (مذكرةً)؛ لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانِّها".

لأنه إن لم يفعل اعتمادًا على ذاكرته ضاعت منه، وتحسر على فقدها؛ يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "فكم من مسألة نادرة ومهمة تمر بالإنسان فلا يقيدها اعتمادًا على أنه لن ينساها، فإذا به ينساها ويتمنى لو كتبها!".

ومن العلماء الذين كان لهم عناية بتقيد الفوائد: العلامة ابن القيم رحمه الله؛ حيث له في ذلك كتابان: الأول باسم: الفوائد، والثاني باسم: بدائع الفوائد.

وكتابه "بدائع الفوائد" مشحونٌ بالكثير من الفوائد في مختلف العلوم؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فيه من بدائع العلوم ما لا تكاد تجده في كتاب آخر في كل فنٍّ، كل ما طرأ على باله قيَّده"،
وقد يسر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئًا من تلك الفوائد، أسأل الله أن ينفع بها، ويبارك فيها.

سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة:
الشر الأول: العام في قوله: ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2]... وقد دخل في قوله: ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2] الاستعاذةُ من كل شرٍّ في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا، أو هامة أو دابةً، أو ريحًا أو صاعقةً، أو أي نوع كان من البلاء.

الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب، فهذا خاص بعد عام، وقد قال أكثر المفسرين: إنه الليل... والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل... أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين... وهو محل الظلام، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار؛ فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات، والمواضع المظلمة، والمظالم، وعلى أهل الظلمة.

ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار؛ فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير؛ ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محالُّ الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه، وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.

ومن ها هنا تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع؛ فإن الفلق: الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل، فيأوي كل خبيث وكل مفسد، وكل لص وكل قاطع طريق إلى سَرَبٍ أو كِنٍّ أو غارٍ، وتأوى الهَوامُّ إلى جحرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتِها ومحالها.

الشر الثالث: شر النفاثات في العقد، وهذا الشر هو شر السحر.
والجواب المحقق: أن النفَّاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات لا لنساء النفاثات؛ لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة، وسلطانه إنما يظهر منها؛ فلهذا ذُكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم.

الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد.
فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها لو نظر إليه نظرة لاهٍ ساهٍ عنه... وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيَّفت نفسه الخبيثة، واتَّسمت واحتدَّت، فصارت نفسًا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، فربما أعطبه وأهلكه.

وجاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن؛ لأنه أعمُّ، فكل عائنٍ حاسدٌ ولا بد، وليس كل حاسد عائنًا، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته.

وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها، فالحاسد عدوُّ النِّعم، وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها، ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر، فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية؛ فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعمُّ كلَّ شر يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين... فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود؛ فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة، فهو مستعيذٌ بوليِّ النعم وموليها من شر لصِّها وعدوِّها.

الفرق بين الحاسد والعائن:
العائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه؛ فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المَعِين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضًا.

ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه؛ فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.

لا يخلو أحد من حسد لكن المؤمن يخفيه ولا يؤذي غيره:
تأمل تقيده سبحانه شر الحاسد بقوله: ﴿ إِذَا حَسَد ﴾ [الفلق: 5]؛ لأن الرجل قد يكون عنده حسدٌ ولكن يخفيه ولا يترتب عليه أذًى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.

وهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويُلزِمها بالدعاء للمحسود.

أنواع الشرور المستعاذ منها في سورتي الفلق والناس:
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب منه يعاقَب عليها، فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالًا بصاحبه.

وإما شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّف أو غير مكلَّف، والمكلف إما نظيره وهو الإنسان، أو ليس نظيره وهو الجِنِّيُّ، وغير المكلف مثل: الهَوامِّ وذوات الحُمَى.

فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه... وأعمِّه استعاذة؛ بحيث لم يبقَ شرٌّ من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه.

زوال النعم بالمعاصي:
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؛ فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفِظها عليه ولا يغيِّرها عنه، حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].

ومن تأمل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمَه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب؛ كما قيل:
إذا كنتَ في نعمة فارْعَها *** فإن المعاصي تزيل النِّعَمْ

فما حُفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه؛ فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم، استغنى عن تعريف غيره له.

أسباب يندفع بها شر الحاسد عن المحسود:
أحدها: التعوذ بالله تعالى من شرِّه والتحصن به واللَّجأ إليه.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه.

السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألَّا يقابله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

السبب الرابع: التوكل على الله، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم... فإن الله... كافِيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمعَ فيه لعدوٍّ.

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه... فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به... وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية.

السبب السادس: الإقبال على الله والإخلاص له... فما أعظم سعادة من دخل في هذا الحصن!

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه... فما سُلِّط على العبد مَن يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره... فليس للعبد إذا بُغيَ عليه وأُوذي وتسلط عليه خصومه شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها... والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد، فما أسعده من عبد! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى ولا معطيَ لما منع، فما كل أحد يوفَّق لهذا.

السبب الثامن: وهو من أصعب الأشياء على النفس وأشقِّها عليها، ولا يوفَّق له إلا من عظم حظُّه من الله: وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازددْتَ إليه إحسانًا وله نصيحة وعليه شفقة، وما أظنُّك تصدق بأن هذا يكون فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قول الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 34 - 36]، وقال: ﴿ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [القصص: 54]، وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضربه قومه حتى أدمَوه، فجعل يسلُت الدمَ عنه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) - كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:

أحدها: عفوه عنهم، الثاني: استغفاره لهم، الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، الرابع: استعاطفه لهم بإضافتهم إليه، فقال: ((اغفر لقومي)).

واسمع الآن ما الذي يُسهِّل هذا على النفس، ويطيِّبه لها وينعِّمها به: اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفوَ عنها ويغفرها لك ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى يُنعمَ عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنتَ ترجو هذا من ربك أن يقابلك به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم؛ ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل!

السبب التاسع: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارِب الأمم قديمًا وحديثًا لكُفيَ به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معامَلًا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة، فالمحسن المتصدق في خَفَارةِ إحسانه وصدقته، عليه من الله جُنَّةٌ واقية وحصن حصين، وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها... فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو، فإنه يوشِكُ أن يظفرَ به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر، والله المستعان.

السبب العاشر: تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، فهو الذي يمس عبده بها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك))؛ [صحيح]، فإذا جرَّد العبد التوحيد، فقد خرج من قلبه خوفَ ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى... والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا... وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمُل إيمانه كان دفع الله عنه أتمَّ دفعٍ، وإن مَزَج مُزِج له.

وسوسة الشيطان:
قوله تعالى: ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ﴾ [الناس: 4] يعمُّ كل شرِّه، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا؛ وهي: الوسوسة، التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويُخطِر الذنب بباله، فيصوِّره لنفسه ويُمنِّيه ويُشهِّيه فيصير شهوة، ويزيِّنها له ويُحسِّنها ويُخيِّلها له في خيالٍ تميل نفسه إليه، فيصير إرادة ثم لا يزال يُمثِّل ويُخيِّل، ويُمنِّي ويُشهِّي، ويُنسِّي علمه بضررها، ويَطوِي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته - فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب... فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة؛ ولهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها من أهم من كل مستعاذ منه.

شر الشيطان في ستة أجناس:
الشيطان... كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة أجناس، لا يزال بابنِ آدمَ حتى ينال منه واحدًا منها أو أكثر:
الشر الأول: شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر به بذلك من بني آدم بَرَدَ أنينه، واستراح من تعبه معه... فإن يأس منه... نقله إلى:

المرتبة الثانية: وهي البدعة وهي أحبُّ إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعدٍّ... فإن أعجزه من هذه المرتبة... نقله إلى:

المرتبة الثالثة من الشر: وهي الكبائر على اختلاف أنواعها... فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة، نقله إلى:

المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها... فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، نقله إلى:

المرتبة الخامسة: وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عقابها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة... نقله إلى:

المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليُزيحَ عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل... وقلَّ من ينتبه لهذا من الناس... وهذا لا يُتوَصَّلُ إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له، وأعمِّها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين.

فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست... سلَّط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع من الأذى والتكفير له، والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه؛ ليُشوِّش عليه قلبه، ويمنع الناس من الانتفاع به.

حروز يستدفع بها شر الشيطان:
يعتصم... العبد من الشيطان ويستدفع شره ويحترز منه... بأسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان؛ قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36].

الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين: (الفلق، والناس)؛ فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تعوذ المتعوذون بمثلهما))، وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عُقْبَةَ أن يقرأ بهما دُبُرَ كل صلاة، وقال: ((من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح، كَفَتْه من كل شيء)).

الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
الحرز السادس: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) مائة مرة.
الحرز السابع: وهو من أنفع الحروز من الشيطان، وهو كثرة ذكر الله عز وجل.

الحرز الثامن: الوضوء والصلاة، وهذا من أعظم ما يُتحرَّز به منه، ولا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة... فإنها نار والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها... أذهبت ذلك كله، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.

الحرز التاسع: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس؛ فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة.

فوائد إخفاء الدعاء:
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولُبُّه ومقصوده.
رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعيَّة القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يُفرِّقه.

سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًّا: أنه دالٌّ على قرب صاحبه من الله... فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال؛ فإن اللسان لا يملُّ والجوارح لا تتعب.

ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد من القواطع والمٌشوِّشات والمُضعِفات؛ فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدرِ به أحد... وإذا جهر به تفطَّنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته.

تاسعها: أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتُّل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقَّت أو جلَّت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة... وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.

عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعوِّ سبحانه... فهو ذكر وزيادة... وقد قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الأعراف: 205]، فأمر نبيه أن يذكره في نفسه.

الاعتداء في الدعاء:
الاعتداء في الدعاء تارةً بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارةً بأن يسأل ما لا يفعله الله؛ مثل: أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهبَ له ولدًا من غير زوجة ولا أَمَةٍ، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء، فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به - فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله، وفُسِّرَ الاعتداءُ برفع الصوت أيضًا في الدعاء؛ قال ابن جريج: "من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح".

ومن العدوان أن يدعوَ ربَّه غير متضرع بل دعاء مُدِلٍّ كالمستغني بما عنده المدل على ربِّه به، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألةَ مسكينٍ متضرِّعٍ خائف، فهو معتدٍ.

ما قيل في سبب تكفير صيام عاشوراء لسنة، وصيام عرفة لسنتين:
♦ إن قيل: لمَ كان عاشوراء يكفِّر سنةً، ويوم عرفة يكفر سنتين؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء، الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء؛ فضُوعف ببركات المصطفى، والله أعلم.

فضول المخالطة:
وأما فضول المخالطة، فهي الداء العُضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة! وكم زرعت من عداوة! وكم غرست في القلب من حزازاتٍ تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول! ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما، دخل عليه الشر:
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخِلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعزُّ من الكِبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: مَن مخالطته كالدواء يُحتاج إليه عند المرض، فما دمتَ صحيحًا فلا حاجة لك في خِلطته، وهم من لا يُستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش... فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيَتْ مخالطتهم من:

القسم الثالث: وهم مَن مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف.

ومنهم: من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباته عليك، فإذا فارقك سكن الألم.

ومنهم: من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض... الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها.

القسم الرابع: من مخالطته الهَلَك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السُّمِّ، فإن اتفق لآكلِه تِرياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس - لا كثَّرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعون إلى خلافها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عِوجًا، فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا.

احذر دعوة المظلوم:
سبحان الله... كم بكت في تنعم الظالم عينُ أرملة، واحترقت كبِدُ يتيم، وجرت دمعة مسكين: ﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُون ﴾ [المرسلات: 46]، ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 88]... لا تحتقر دعاء المظلوم فَشَرَرُ قلبه محمولٌ بعجيج صوته إلى سقف بيتك، وَيْحَكَ نبالُ أدعيتِه مصيبةٌ وإن تأخر الوقت، قوسُه قلبُه المقروح، ووترُه سواد الليل، احذر عداوة من ينام وطرْفُه باكٍ، يقلِّب وجهه نحو السماء، يرمي سهامًا ما لها غرض سوى الأحشاء منك.

الحذر من أمرين لهما عواقب سوء:
حذارِ حذارِ من أمرين لهما عواقب سوء:
أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك؛ فإنك تُعاقَب بتقليب القلب، وردِّ ما يرد عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك؛ قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [الأنعام: 110]، فعاقبهم على ردِّ الحق أول مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.

والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته؛ فإنك إن تهاونتَ به ثبَّطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ [التوبة: 83]، فمَن سلِم من هاتين الآفتين والبَلِيَّتين العظيمتين، فلْتَهْنِه السلامة.

فوائد متفرقة:
♦ الله تعالى يجير ولا يُجار عليه، وهو حسبُ من توكل عليه، وكافي مَن لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّن خوف الخائف، ويُجير المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه - تولاه وحفِظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه، آمَنَه من كل ما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج من المنافع، فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيه؛ فإن الله تعالى بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قدرًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

♦ فضول الطعام داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويُثقِلها عن الطاعات، وحسبك بهذين شرًّا، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام! وكم من طاعة حَالَ دونها! فمن وُقِيَ شرَّ بطنه، فقد وقي شرًّا عظيمًا.

♦ أكثرُ المعاصي إنما تولُّدُها من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان؛ فإن جارحتيهما لا يملَّان ولا يسأمان... فلو تُرِكا لم يفتُرا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشُّعب، عظيمة الآفات.

♦ ما أُعطيَ أحدٌ النِّصْفَ فأباه إلا أخذ أقل منه.

♦ لما تمكن الحسد من قلوب إخوة يوسف عليه السلام، أُرِيَ المظلوم مآلَ الظالم في مرآة ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ ﴾ [يوسف: 4].

♦ متى رأيتَ القلب قد ترحَّلَ منه حبُّ الله والاستعداد للقائه، وحلَّ فيه حب المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها - فاعلم أنه قد خُسف به.

♦ متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله، فاعلم أن قَحْطَها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلبُ القاسي.

♦ العلم والعمل توأمان أمُّهما علوُّ الهمة.
♦ الجهل والبِطالة توأمان أمُّهما إيثارُ الكسل.
♦ تصانيف العالِم أولادُه المخلَّدون دون أولاده.

♦ التأديب شيء والتعذيب شيء، التأديب يراد به التهذيب والرحمة والإصلاح، والتعذيب للعقوبة والجزاء على القبائح، فهذا لون وهذا لون.

♦ لو كشفت لك الدنيا ما تحت نقابها، لرأيت المعشوقةَ عجوزًا، وما ترضى إلا بقتل عشاقها، وكم تدلَّلت عليهم بالنشوز!

♦ الناقد يخاف دخول البَهرَجِ عليه واختلاطه بماله، والمُبهرِج آمن، هذا الصدِّيقُ يمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وعمر يناشد حذيفة: "هل أنا منهم؟"، والمُخلِّط على بساط الأمن.

♦ إذا جُنَّ الليل، وقع الحرب بين النوم والسهر، فكان الشوق والخوف في مقدمة عسكر اليقظة، وصار الكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا حمل العزم حملةً صادقة هزم جنود الفُتُور والنوم، فحصل الظفر والغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد قُسِمَتِ السُّهمانُ وما عند النائمين خبر.

الألوكة